الناقدة أمل ممدوح تكتب: “في حديقة الحيوان”.. العنف مقابل التهميش!
المسرح نيوز ـ مقالات ودراسات | أمل ممدوح *
ناقدة مصرية
ـ
تشكل العزلة المختارة الوقتية نوعا من الأمان الفردي والخصوصية التي يحتاجها الإنسان لتوازنه النفسي في تواصله مع الحياة .. نوع من الحق الحضاري الذي قد يشكل في وقت ما حالة ترفية يفتقدها الآخر، وفي زمن تكسوه جدران خرسانية وتتردد في أجواء عقله صوت الآلة فإن هناك من يفتته الضيق المحاصر لعظامه فيعتصر ذاته كي يحيا ؛ بينما لم يعد يدري إن كان بالفعل هنا ، هذا الشعور القاهر بالتلاشي غير الآمن لا بد أن يتردد بشكل ما ويعلن عن نفسه بشكل لن يكون بالضرورة آمن له أو ربما لغيره ، تنبه لذلك الكاتب الأمريكي إدوارد آلبي مبكرا في أولى مسرحياته ” قصة حديقة الحيوان ” التي كتبها عام 1958 مرددة انعكاسات إحباطات الحرب العالمية الثانية وما تلاها من تغير اقتصادي واجتماعي ببدايات المجتمع الصناعي الرأسمالي التي تطحن دائما بنية المجتمع وتسقط فئات كثيرة منه في الفقر أو تزيدهم فقرا ليزداد التفاوت الطبقي وتتسع الفجوة بين الطبقات فينجرف الجميع وقتها في سيل واحد لن يدع أحدا .
في ” قصة حديقة الحيوان ” والآن نتحدث عن العرض الذي قدمته فرقة ” عجبي ” من الإسماعيلية بنفس إسم مسرحية آلبي ضمن عروض المهرجان الختامي لنوادي المسرح قدم العرض بحبكة آلبي محدودة الشخصيات التي تتيح انغماسا فكريا للحالة المكتملة المقدمة في إطار حواري بمذاق عبثي ساخر أسود كأحد مفضلات آلبي ، وفيه تتردد جملة دائمة أو تساؤل دائم عن حدث في حديقة الحيوان بشكل عرضي أو عابر أو تشويقي يشكل في حد ذاته بؤرة الصياغة العبثية التي تزدادا وضوحا بالإجابة الضمنية على هذا السؤال الذي يحمل معنى يحلَل لا حدثا يُشرح مما يذكرنا بمسرحية ” في انتظار جودو ” لبيكيت أشهر مسرحيات العبث ؛ حيث تنتظر الشخصيات ظهور” جودو” ذلك اللاشيء المنتظَر أو كل شيء غير محدد الصفة ، يقابل غموض ” جودو ” هنا والذي يبدو شاغلا بؤرة الحدث ” حديقة الحيوان ” كجملة تبدو محورية لا يتضح ما وراها إلا بالتراكم النهائي ، يبدأ عرض الإسماعيلية الذي يدور بين شخصيتين فقط بـ ” جيري ” واقفا في الطرف الأيسر في منطقة الظلام وانحسار الضوء أمام عمود إنارة معلق عليه سلة قمامة فاضت محتوياتها تحت العمود مفترشة الأرض في شكل عشوائي ملفت؛ بمظهره المتصعلك وثيبابه المتخففة الرديئة وشعره الكث الكثيف الداكن المنم عن شخصيته بينما يدخل من المنتصف تماما بشكل مركزي ” بيتر” ليجلس على أريكة في الحديقة ليكون “بيتر” ذو المظهر المتأنق المتحفظ وشعره الناعم الأشقر الأملس في الطرف الأيمن مقابلا مناقضا لجيري الواقف على نفس خطه الأفقي في الطرف الآخر الأيسرعند القمامة ممثلا كل منهما بهيئته طبقته التي ينتمي لها بشكل مبدئي قبل مزيد من التوضيح .. ليتضح الأمر ويتأكد بمشاهدة جيري يأكل من القمامة وبيتر ممسكا بكتاب يقرأ فيه بهدوء بجلسة أرستقراطية ليبدأ جيري اقتحام عزلته وهدوئه ببدء حوار معه يبدأ بجملة ” إنني كنت في حديقة الحيوان “مستدرجا إياه بالتشويق وتجنيد مهاراته في ذلك للاستحواذ الكامل على انتباهه دون انقطاع وباسترسال لا يتيح الفكاك منه، ليصبح ما حدث في حديقة الحيوان مفتاح تجديد الانقضاض كلما لاح الفرار، مع الحديث ندرك مدى معاناة بيتر في حد ذاته من الوحدة ونستشف أن عزلته تحتاج من يذيب جليدها بود ظنه في حديث جيري المشوق بلا وصول ولا غاية ولا ترابط والذي بدوره يشعرنا بوحدة كبيرة يملأها جيري باللاشيء ودائرية صارخة لفراغ نفسي متوحش .. ذلك الكائن في ظل الدولة والحياة القابع في أقصى أركان الهامش في الطابق الرابع من مساكن مؤجرة تستغرقه مشاكل سكنه عن الحياة نفسها مباغتا جيري بأسئلة تربكه بنبرة حادة صارخة تعود تستكين لتستبقيه ؛ يباغته مرة بسؤال عن الخط الذي يفصل بين الطبقة العليا والطبقة الدنيا ، مغتصبا حق التفاعل من الطبقة العليا التي يمثلها بيتر بإلإنقضاض وإجباره على الاستماع إليه في حوار يبدو أجوفا لكنه في الواقع يشكل واقعه الملقى في جنباته كقطعة قمامة لا تملك إلا أن تنتقم برائحتها وإثارة القيء من الأنوف المترفة .. تدريجيا يتحول الأمر من حديث إلى ورطة لا يمكن الفكاك منها ومن ود وتعاطف لاشتباك باستيلاء جيري على مكان بيتر المفضل وطرده منه ليضطر بيتر للدفاع عن مكانه وما يمثله له نفسيا وإن كان مكانا صغيرا يملك غيره مسكنا وأسرة وببغاوين وهو الترف الذي لا يملكه جيري ولا يفترض أن يدان بيتر من أجله في حقيقة الأمر ..فحيثما ازدادت الفروق الطبقية فالكل خاسر مجن عليه ..فكل طرف يحمل ظلم الآخر أو بغضه مقصودا كان أو لا ، يصل الأمر لذروته بالوصول للعنف وعيا أو لا وعيا حين يدفع جيري صدره في المطواة التي أمسكها لبيتر ليصبح هناك قاتلا بالصدفة ومقتول بالعمد كالمنتحر بينما كلاهما رغم أزمته يشعر بالشفقة تجاه الآخر فكلاهما في نفس “الحديقة” في الواقع وإن فصلت بينهما الأقفاص أو كان أحدهما متفرجا أحيانا ، وهذا التشبيه بالكائن الحيواني بسلوكه البري الفظ كبيئته القاسية الممثل لبيئة مطموسة معدمة يذكرني حقيقة بـ ” يانك ” في مسرحية يوجين أونيل ” القرد كثيف الشعر” ذلك الوقاد المعدم مقابل طبقة الرأسماليين ، حيث تزايد التفاوت الطبقي يشكل وعاء خرسانيا للعزلة النفسية المستشرسة ومضخة للأقفاص ، ليختار العرض أخيرا نهاية دائرية تناسب من وجهة نظره المذاق العبثي للنص حيث يتكرر الأمر بين رجلين أحدهما ” بيتر ” في ثوب ودور جيري وكأن الأمر قابل لتبادل الأدوار في أي وقت وهو ما لم أستطع تقبله كثيرا وهو هذا الإحلال لبيتر مكان جيري وكنت أفضل التكرار بآخرين ، لتكون هذه النهاية طرفا أخيرا لنهاية قدمت مزدوجة بعد إظلام أول ونهاية أولى بمقتل جيري .
قدم العرض بصورة واقعية لا تخل من شاعرية في بنائه البصري يتيح انغماسا في حالته المقدمة ، فقد أبقى المخرج ومصمم الديكور معتز مدحت المسرح على اتساعه واضعا أريكة واحدة مقابل عمود الإنارة وصندوق قمامته على خط أفقي واحد مما كان شديد التوفيق مع نثر أوراق شجر جافة على أرجاء أرضية المسرح بلمسة شاعرية تمثل صوت الحزن الصامت الذي يكتنف مضمون العرض في الحقيقة مع بضع فروع خضراء في مقدمته وفروع أكبر أو جذعين في الخلفية كلاهما مبتور معلق أو مدلى كصرخة للطبيعة لتسود إضاءة هادئة غير ساطعة بتمازج ضوئي شاعري بين مزيج درجات الأزرق والأخضر والأصفر كخيار أراه مناسبا لحالة عزلة في الحقيقة بين الإثنين واستكشاف نفسي كان يغير مذاقه تماما اختيار أكثر سطوعا وأقل دفئا ، بينما بؤر سطوع الإضاءة كانت تتنقل بين أماكن الشخصيتين لتكون البؤرة الضوئية الأشد سطوعا عند صندوق القمامة كمحط بصري دلالي هام، كما كانت الموسيقى المختارة مناسبة في حالتها الدرامية وتصاعدها وخفوتها بحسب الحالات متيحة مساحة ملائمة للصمت اللازم لسريان المواقف ، وفي عرض كهذا معتمد بشكل أساسي على الحوار والحوار المتصل المتخم بالتفاصيل أستطيع أن أحيي مخرج العرض معتز مدحت على تمكنه من الحفاظ على إيقاع مشدود للعرض بتنويع الحركة دون افتعال وتنويع الأداء بما يثري هذا الإيقاع دون اختلال في معادلة التوازن ، أما أداء الممثلين فيحتاج تحية خاصة لهما وللمخرج فقد تشرب كل منهما تماما أبعاد شخصيته ودوره هيئة وأداء بتفاصيلها بشكل تخطى جيد ممتع؛ سواء محمد صلاح ” جيري” الذي كان قوي الحضور عاكسا عنفا وقلقا صارخا وألما داخليا حادا بحركته السريعة المتربصة والمستثارة عصبيا أو أمير راضي ” بيتر” بمظهره الهادىء المحافظ الخجول ومشاهد ارتباكه ودفاعه القلق الضعيف ليصلا في مشاهدهما الأخيرة المشتبكة لذروة التشرب لدوريهما وتفاصيل تصاعدهما النفسي .