المخرج الكبير عباس أحمد يكتب: دونما اتفاق.. طريقان يجمعان بين “سليم كتشنر” والرائد ميخائيل رومان!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
بقلم : عباس أحمد
مؤلف ومخرج وخبير مسرحى
مايو الحظر 2020
فيض من زمن جمع الشتيتين سليم كتشنر وكاتب هذه السطور ، هذا الزمن الذى جمعنا ليس الزمن المتعارف عليه عند البشر كزمن روتينى بمقياس العمر والمعاش ، ولكنه بمقياس آينشتين ، زمن هيولى المعاناة ممتد الأقصاء .
اجتمعت أنا وسليم دون القصد أو الاتفاق ، وماجمعنا إلا تجاور مبدعين وتزامن الابداع والقصد الانسانى ، جمعنا المسرح ، هو يكتب وأنا المخرج وعاصرت كل ما كتب للمسرح و اخرجت بعضه ثم تابعنى وانا اخرج مسرحيات للآخرين ، وهكذا أنا ايضا تابعت عروضه ، وكذلك ما ابدع بعيدا عن المسرح ، ثم كانت المجموعة القصصية ” جروح سطحية” وشدنى القلم لأكتب شهادة ربما تأخرت كثيرا ولكنها فرضت نفسها .
وقبل الخوض فى المجموعة القصصية سأضع معادلة تسير على هديها شهادتى :
أ ـ يجمع بين سليم كتشنر والرائد ميخائيل رومان طريقان
ب ـ ليس هذا تشبيه أو مقارنة بينهما
ج ـ ببساطة ميخائيل رومان كان يتنبأ بسقوط الطبقة الوسطى بعد ان رآها تقصى وتهمش وفى الأغلب تغرق فى الاضطهاد ، أما سليم كتشنر فقد رأى الطبقة الوسطى وهى تداس بالنعال وتوصم بالاضطهاد وتغرق فى لجة التهميش والاقصاء .
د ـ إذن هناك ما جمع الاثنين دون اتفاق او حتى معرفة كل منهما بالآخر .
هـ ـ إن تشيكوف سجل ورأى مرارة إنهيار الطبقة الوسطى فى روسيا القيصرية ، وميخائيل رومان رأى الخطر المحدق بالطبقة الوسطى وهى شعلة النشاط والجسارة والاسهام فى كل تاريخ مصر ، ثورة عرابى ، مقاومة الحملة الفرنسية ، مقاومة الانجليز ، مقاومة الأتراك ، ثورة 19 ، الهبّات المتتالية ، ثورة 23 يوليو وقد رمت الطبقة الوسطى بنفسها فى ذروة نضال وتطور الثورة المصرية ، ثم الازورار عن هذه الطبقة إلا من عاش فى الصف وتأقلم بالامر ومن شذ عن هذه القاعدة كان مصيره التهميش والاقصاء، “حمدى عبد الجواد” فارس الطبقة الوسطى عند ميخائيل رومان المحبط ، المبعد ، المدمن ، ثم ( بطولة اليسار “اللى عنده سل ماركعشى” فى نص “الدخان” ) . اما سليم كتشنر بحكم عمره فقد جاء ليجد الطبقة الوسطى فى سلة قمامة إلا من شذ منها ، مستفيد ، مطبل ، متطرف يستعمل العنف بسلاح الدين ، هكذا وجد سليم كتشنر نفسه فى زمرة طبقته الوسطى وهى تداس بالاقدام فى حكم ظالم ، ضد التقدم يتمسح بعباءة الدين تارة ، انه حكم ليس له وصف إلى الآن إلا المحافظة على هذا الحكم بكل الطرق ، فرأيت المخرج المخبر ، المؤلف اللص الذى يقلد بشكل مشوه الكبار ، وجرى طمس ميخائيل رومان وهدر قيمة نعمان عاشور والبعد عن نجيب سرور ، وحتى الحكيم الذى كان يرى الدهس والابعاد وطغيان الابداع إذا كان إبداعا على وتيرة ” شنبو فى المصيدة” ، أى تقليد المسرحيات بشكل همجى وتفصيلها على مقاس الحاكم ، كل هذا وسليم كتشنر فى صدر شبابه واحلامه كان يراه ويحسه ويعانيه ، وكان لزاما عليه ان يسير فى الطريق الذى اختاره وهو الكتابة للمسرح ، فكان ابطاله وقد لحقت بهم صنوف الاضطهاد وتحولوا إلى مزق وظهروا كابطال تراجيديين ” نصف بشر” بعد ان كانوا فى المسرح الاغريقى ابطالا خارقين أو نصف آلهة .
عندما ابدع محمود دياب مسرحه فى عالم الفلاحين كان دائما يبدو ثمة أمل شحيح وعندما أبدع دياب خارج الفلاحين كان يرى أملا ، ولكن سليم وهو يبدع فليس هناك أمل حتى ولو كان أملا طوباويا .
وكان الحل الناجع الذى لا حل غيره هو الحل الاشتراكى العلمى ” الماركسية” بنهجها الطريق الوحيد لارجاع الحقوق لاصحابها وتصحيح مسار بوصلة العدل التى ظلت مقلوبة ، ومن هنا كان امام سليم منهج وامل وهو برغم انه ليس ماركسيا إلا انه صاحب المنهج واحترم وإستأنس بالماركسيين كأصدقاء وهكذا حوسب سليم ومازال يحاسب وسيظل يحاسب لانه احترم المنهج وصادق الناس أصحاب المنهج وهو بذلك كتب عليه الابعاد والتوجس ، حتى انه قدم لادارة المسرح بالثقافة الجماهيرية مسرحية رفضت من الدكاترة ، وخرج فى لحظة يأس فقدمها لجائزة الدولة التشجيعية فحصل عليها برغم رفض الدكاترة ، وجرى التعتيم على الواقعة لانه لا يصح ان يحاسب الدكاترة .
هكذا صار سليم كتشنر بطلا مقيدا مثله مثل بروميثيوس المقيد انطلق بمسرحه فى الثقافة الجماهيرية لانها تحتاجه كدم جديد ولكن البيت الفنى للمسرح والبيت الفنى للفنون الشعبية خاصماه ومازال الخصام باديا .
انكب سليم على كتابات موفقة بعيدا عن المسرح فى كتابه ” مسرحيون فى الحركة الوطنية ” وكتابه ” حكايات مصرية من القنال ـ يوميات المقاومة الشعبية ” ثم المجموعة القصصية التى كانت مفاجأته لنفسه ولنا فهى كما فعل فى كتابته للمسرح ( قلب الصفحة وبدأ من جديد) و جاءت مجموعته القصصية ” جروح سطحية” تمثل أشكالا عديدة من المعاناة ، فنحن نرى دهشتين ، الأولى فى التكنيك المرهف الذى يخلط الواقع المعاش بزمن سحرى يجعل سليم كتشنر مميزا لا يقلد ولا يستنسخ وانما ابداعه له دوى المعاناة والاغتراب والحزن الفاجع الذى يعيشه ونعيشه جميعا ولكنه بفرط حساسيته بالواقع المر لطبقته حيث ينتمى ، هذا الواقع بدا مجسما بعين فائقة المرارة والكبد .
وتبدو القصة الأولى “ليلة ممطرة جدًا ” كأيقونة للمجموعة كلها فهو صاحب تكنيك شجاع مستقل لا يقلد ولا يستشف إلا نفسه فنراه يلمع كشهاب فى سموات التكنيك ( تداخل الازمنة ـ تجاور الأزمنة ـ الواقعية السحرية ـ الناسخ القطة والأم ) ، وواقعية سليم السحرية مستقلة بعيدة عن ما سطر من قبل ولكنها قريبة إلى أصوله الصعيدية وجينات الفراعنة .
ان الواقعية السحرية ليست اكتشاف “ماركيز” ولكنه استعملها كمعجزة تربطه بحضارة ” الانكا” والواقعية السحرية هى تراث بشرى فى ملاحم هوميروس والحكايات الشعبية مثل ” سيف بن زى يزن” .
وهكذا سطر سليم كتشنر بإعجاز هضم كل تراثـنا وتراث الدنيا من خلال صفحتين كل ذلك التراث بإنسيابية وتمكن يدخله فى عالم الاستثناء .
ثم تتوالى الكتابة عن الاغتراب واللامعقول عن “كلب الشارع” وحديثه ثم الخلل العقلى الذى يعانيه المجتمع ناتج عن القهر والعزل والمعتقلات الرهيبة ، ففى “أنا الصلب” قصة يختلط فيها العقل بالجنون ، وعن قصة “هيولى أنا” يتجلى الارث الفرعونى ، النهر والبر الغربى اماكن الدفن ، وفى قصة “أعز الناس” المرأة عند سليم هى إيزيس وهى إيضا كما كان يسميها الفراعنة هى الأخت والحبيبة ، ثم تأتى “جروح سطحية” قمة العزل الاجتماعى ومرض الروح وتخالط الاشياء ، حتى عندما نرى رجلا أو امرأة تكلم نفسها أو تتصرف بغرابة نقول وبسرعة ( مجنون ـ مجنونة ـ “حصل عندها لطف”) الحقيقة ان “اللطف” مسمى شعبى للجنون ، والحقيقة أيضا ان اللطف أصاب الخلق جميعا والغربة صارت وحدة والوحدة مرض يصيب حتى من يعيش وسط اولاده وزوجته ، وحتى الزوجة فى حياتها .
إن عصر الطبقة الوسطى إذا أردنا أن نعلق له لافتات فهى ( الوحدة ـ التوحد ـ الغربة ـ الجوع بكل أنواعه ـ المرض دون أسباب مرضية ) هذا العالم وواقع الطبقة الوسطى حيث يبدعه فى مجموعته القصصية ” جروح سطحية” ، ويظن سليم كتشنر انه يعانى وحده وهذا غير صحيح ، هو حساس بواقعه نعم ولكننا أيضا اصبنا بهذا “اللطف” .
هذا ليس نقدا ولكنها شهادة أكتبها عن مشوار علاقتنا ومعاناتنا ، مع إعزازى ومتعتى بعلاقتى بسليم وبمجموعته القصصية .
ع