المسرحي المغربي كريم الفحل الشرقاوي يكتب: المسرح الأفرو-أمريكي .. و فلسفة التمييز
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
رغم المسار الثري و الحضور المتوهج للمسرح الأسود الأمريكي إلا أنه مازال يرتع في الظل .. شأنه في ذلك شأن الأدب الأفروأمريكي بشكل عام .. و شأن كل ثقافات الهامش المنفية من طرف التمركز الثقافي الغربي بوصفه المرجع الأساسي للتعيير و التقييم و التقويم .. في حين يتم ركن ” الآخر ” بوصفه هامشا لا يكتسب ” حضوره ” و امتداده إلا إذا التحم بنواة الغرب الصلبة المتمركزة حول ذاتها العليا .
فلسفة التمييز :
جاء في مقدمة أول كتاب ينشر في الولايات المتحدة الأمريكية لشاعرة زنجية في منتصف القرن 18 بأن ” هذه القصائد التي تتضمنها الصفحات التالية هي لزنجية شابة جاءت منذ عدة سنوات فقط بحالة بربرية من إفريقيا المتخلفة . و منذ وصولها و هي الآن تحت أعباء خدمة عائلية في هذه البلدة بصفتها رقيق “(1)
هكذا تم دمغ أول شرارة للأدب الأفرو-أمريكي بدمغة الرق و العبودية و البربرية .. مشفوعة بختم و توقيع العقل الغربي الذي تستوطن بنيته الثقافية العميقة لوثة التفوق العرقي .. وهي اللوثة التي قعد لها بعض منظري السلالات البشرية في القرنين 18 و 19 الذين قاموا بتغذية وصمة التمييز الشوفيني بين الأعراق و الأجناس على غرار ” إدوارد لونج ” واضع تصنيفات السلالات البشرية الذي صنف الزنوج بيولوجيا في مرتبة أدنى الأعراق البشرية . كما غذى هذه النزعة بعض كبار فلاسفة عصر الأنوار الذين نصبنا لهم تماثيل في مخيالنا كما هو الحال بالنسبة لصاحب ” نقد العقل الخالص ” إمانويل كانط ” الذي اعتبر سكان أمريكا الأصليين غير مؤهلين لإنتاج أي ثقافة وازنة لكون درجتهم “العرقية تنحدر مادون العرق الزنجي الذي يحتل أدنى المستويات ” (2) .
أما الفيلسوف “ديفيد هيوم” فقد حاد عن منهجه التجريبي معلنا تفوق العرق الأبيض مؤكدا بأنه ” ميال إلى الظن بأن الزنوج متدنون بشكل طبيعي عن البيض . فنادرا ما سمعنا عن أمة متحضرة تنتمي لهذه البشرة ” (3) . أما ” هيغل ” صاحب الصروح الفلسفية الكبرى فقد ذهب في كتابه “فلسفة القانون والسياسة ” بأن ” الزنجي يمثل الانسان الطبيعي في كل الوحشية والمكابرة … لا شيء يمكن إيجاده في هذه الشخصية تذكرنا بالانسان “(4) . لهذا نادى صاحب المنهج الجدلي بكل أريحية بضرورة انتشال الزنجي من همجيته البربرية قسرا .. معتبرا أن الاستعمار الأوربي هو السبيل الأوحد لنشر رسالة الحضارة الغربية بين الزنوج . وفي نفس الاتجاه سيبشر فيلسوف الحرية والعدالة والمساواة ” جون ستيوارت ميل ” بالامبريالية الاستعمارية باعتبارها تمرينا على الحضارة بالنسبة للزنوج .
هذه النماذج المستقاة من الفكر الغربي التنويري في القرن 18 أسعفت التمركز الأعلى للذات الغربية وقدمت للإمبريالية الاستعمارية تطهيرا سيكودراميا لتبرير رسالتها التبشيرية لإدماج الآخر ” الهمجي ” في صيرورة الحضارة الغربية التنويرية .
لهذا لم يكن فقط على عاتق الأدب الأفروأمريكي مواجهة عنف الخطاب العنصري و المحو الممنهج لهويتهم وذاكرتهم وحضورهم وامتدادهم .. بل كان على كاهل سردياتهم الفكرية و الإبداعية أيضا مهمة اختراق ” النسق ” الحديدي المغلق للعقل الغربي الممركز و ترحيل مفاهيم من قبيل ” الهمجية ” و” البربرية ” من حقل الزنوجة إلى حقل ” الحضارة البيضاء ” من خلال تعرية وفضح وتدوين تاريخ الرق الهمجي و البربري الذي اقترفه الرجل الأبيض كما هو الحال بالنسبة ل ” سرديات العبد الفار من الرق ” وهي سرديات إبداعية ومذكرات سيرذاتية كتبها و دونها زنوج فروا من أغلال العبودية في الجنوب إلى هامش الحرية في الشمال الامريكي . كما صدرت سرديات لنساء زنجيات تحت أسماء مستعارة ككتاب ” أحداث من حياة فتاة من طبقة العبيد ” والتي ستنزع الكاتبة من خلاله ورقة التوت عن الظلمات المدلهمة للرجل الأبيض الذي كان ينتشي بممارسة طقوس الاغتصاب الهمجي الفردي و الجماعي على الزنجيات أمام أبنائهن و أزواجهن كشعيرة من شعائر العبودية البربرية .
ومع طي صفحة الرق دستوريا في الولايات المتحدة الأمريكية صدرت العديد من الإصدارات التأريخية والسردية و الدرامية و الشعرية والسيرذاتية لمؤرخين و مبدعين و مؤلفين زنوج من كلا الجنسين كرسوا كتاباتهم و سردياتهم لتجذير قيم الثقافة الزنجية كقيمة مركزية في الثقافة الأمريكية محاولين كشف الأقنعة عن كل أشكال التمييز المادي والرمزي التي ما فتئت تنتجها الطاحونة الرهيبة لليبرالية الأمريكية المسننة . و قد برزت في هذا السياق أسماء و رموز أفروأمريكية مشعة و متوهجة أغنت و أثرت الثقافة الإنسانية بأعمال إبداعية خالدة حصد من خلالها العديد من الكتاب و الشعراء السود من الجنسين أرفع الجوائز الأدبية كما هو الشأن بالنسبة للروائية الكبيرة ” توني موريسون ” الحائزة على جائزة نوبل للآداب لسنة 1993 .
المسرح الأفروأمريكي :
يذهب أغلب النقاد و الباحثين بأن المنشدين و المغنين و المؤدين الجوالين يشكلون المشتل المتجذر للمسرح الأفروأمريكي أو المسرح الأسود أو مسرح الزنوج الأمريكيين . ويعتبر ” جاولاند أندرسون ” أول دراماتورج زنجي يقدم عرضا مسرحيا في ” برودواي ” خلال عشرينيات القرن الماضي مخترقا بذلك أعرق وأكبر حي للمسارح في نيويورك و العالم . غير أن الانطلاقة الصميمية للمسرح الأفروأمريكي تمثلت في الموجات التجريبية التي تلت الحرب العالمية الثانية والتي تسلحت بالجرأة الفنية في تناولها لخطاب الثقافة والهوية الزنجية المناهضة للميز و الاضطهاد والاستغلال و الاستعباد و القهر و الإقصاء و المحو الهوياتي .
وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ستتبلور الملامح الثقافية و الإستطيقية و االإيديولوجية للمسرح الأسود الذي سيعكس إرهاصات ثورة مسرحية زنجية ترتكز على الأسس التالية :
- تكثيف هجنة ثقافية إبداعية تمتح من البنية العميقة للموروث الإفريقي محاولة نحتها و وشمها على جسد الثقافة الأمريكية الغربية .. ليس بهدف فرز تعددية هوياتية بقدر ماهو تثبيت للهوية الهجينة المنتمية لصيرورتها .
- استدعاء الطقوس والإيقاعات والرقصات الفلكلورية إضافة للموسيقى الزنجية كالجاز والبلوز … الأمر الذي ساهم في تكثيف خصوصية ثقافية للمسرح الأفروأمريكي.
- توظيف آليات المسرح التحريضي لاستفزاز السود ودعوتهم للتمرد على كل أشكال التمييز و الإقصاء و التهميش المتخفي وراء أقنعة الديمقراطية الأمريكية الملتبسة مع الاغتراف من لغة الشارع القاسية / الساخرة و الطافحة بنبض الإنسان الزنجي .
- اعتماد بعض تجارب المسرح الأسود المعاصر على تقنيات المسرح التسجيلي والدراما الوثائقية ( بسكاتور- بيتر فايس ) من خلال توظيف وثائق فيلمية و صور واقعية و تسجيلات إذاعية و وثائق تاريخية و مشاهد يومية و التحقيقات الصحفية و تقارير إحصائية ….. لكن هذه التجارب المعاصرة لا تلغي جنوح بعض الكتاب الزنوج لتدبيج معالم مسرح أسود كلاسيكي يقارع كلاسيكيات الشعوب العريقة كنوع من إثبات الذات الثقافية الأفروأمريكية.
أسماء في سماء المسرح الأفروأمريكي :
من أبرز أعلام المسرح الأفروأمريكي الحديث يطفو إسم الكاتبة المسرحية الراحلة ” لورين هانزبيري ” التي تصنف كأول كاتبة أمريكية سوداء تتوج بجائزة ” دائرة نقاد الدراما ” والتي تزامن الاحتفاء بذكراها التسعين مع مقتل ” جورج فلويد ” المواطن الأمريكي الأسود الذي قضى اختناقا تحت ركبة رجل من رجال الشرطة البيض . هذا الاضطهاد الهمجي العنصري هو ما ناضلت من أجله ” لورين هانزبيري ” سواء كمناضلة سياسية أو كمحررة صحافية أو ككاتبة مسرحية نحتت إسمها بأحرف ماسية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي . وقد تم تصنيف نصها الدرامي ” زبيبة في الشمس ” ضمن كلاسيكيات الأدب الأمريكي كما اعتبر النقاد هذا النص الذي نشر في أواخر خمسينيات القرن الماضي الشرارة الصميمية لانطلاق شعلة ” حركة الفنون السوداء ” في ستينيات القرن الماضي . وقد استلهمت ” لورين هانزبيري ” عنوان نصها الدرامي من بيت قصيدة شهيرة لشاعر ” هارلم ” الكبير ” لانغيستون هيوز ” الذي يقول فيه ” ماذا يحدث لحلم مؤجل ؟ هل يجف مثل زبيبة في الشمس ؟ “. هكذا سترصد الكاتبة الأحلام المؤجلة لأسرة أمريكية سوداء مؤلفة من ثلاثة أجيال ومعها سترصد الأحلام المؤجلة والحقوق المدنية المصادرة للسود الأمريكيين خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية . أما آخر نصوصها الدرامية الموسوم ب ” البيض ” فقد كان صرخة احتجاج مدوية في وجه الإمبريالية الاستعمارية التي نهشت لحم وأرض وعرض الزنوج الأفارقة … كما كان تناصا جدليا وحواريا مع نص ” الزنوج ” لجان جنيه التي اعتبرته ” هانزبيري ” نصا دراميا رومنسيا مندلقا .. لم يستطع صاحب البشرة البيضاء تذوق ملوحة الجلد الأسود للإنسان الإفريقي وهو يرقص منتشيا بزنوجيته .
وفي سبعينيات القرن الماضي سيقفز إلى الواجهة إسم الشاعر والمسرحي الكبير ” لوروا جونز ” الملقب ب ” أميري بركة ” بعد إشهار إسلامه و الذي يمكن اعتباره الأب الروحي لمسرح ” الجيتو الزنجي ” كما يصنف كعلم من أعلام الحركات السياسية السوداء . حصد ” لوروا جزنز ” العديد من الجوائز و الألقاب التقديرية .. وكتب العديد من النصوص الدرامية الشهيرة التي تنكأ جروح الميز العنصري و تفقأ دمامل العبودية الجديدة و تكشف القناع عن أساليب ودواليب السياسات الامريكية الحربائية . و من أهم أعماله الدرامية ” الهولاندي ” الذي يحيلنا عنوانه إلى السفن الهولندية الضخمة التي كانت في طليعة الأسطول الذي كان ينقل أجساد العبيد المكدسة من القارة السوداء إلى شواطئ العالم الجديد . غير أن الأحداث الدرامية للنص لا تدور فوق سفينة هولندية و إنما داخل إحدى عربات قطار الميترو السريع .. حيث سيلتهب حوار رومانسي بين ” كلاي ” وهو شاب زنجي ينتمي لأسرة سوداء بورجوازية و فتاة أمريكية شقراء فاتنة تدعى ” لولا ” . إلا ان خط الفعل الدرامي للحوار سيتحول تدريجيا إلى نقاش حاد قبل أن ينفلت من عقاله و ينقلب إلى تراشق و تنابز عنصري … حيث ستتهمه الفتاة الأمريكية الشقراء في آخر المطاف بارتداء بدلة الرجل الأبيض وخيانة هويته الزنجية البربرية التي أفصحت عن همجيتها حينما أطلق العنان لغضبته . ورغم اعتذار ” كلاي ” وتودده إلا أن ” لولا ” ستباغته بطعنة قاتلة قبل أن يتم التخلص من جثته من طرف الركاب البيض الذين سيلقون بها خارج عربة الميترو .. تماما كما كان يلقى بالجثث المتعفنة للعبيد الزنوج من السفن الهولندية إلى بحر الظلمات .
و خلال ثمانينيات القرن الماضي سيلمع إسم ” أوجيست ويلسون ” كأحد أهم الدراميين المعاصرين إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق . حصد العديد من الجوائز والألقاب تقديرا لأعماله المسرحية التي رسمت لنفسها انعطافات و خرائط جديدة .. و نحتت أخاديد غائرة لا تمحى من ذاكرة المسرح الأسود الامريكي .. كمسرحية ” مقعدة مارايني السوداء ” التي يرصد من خلال تيمة الاستغلال البشع للفنانين السود من طرف المنتجين البيض . و مسرحية ” سياجات ” التي تستبطن الحواجز التي تنبت كالصبار داخل بيت أسرة زنجية متوسطة . و مسرحية ” مجيء جو ترينر وذهابه ” التي تستحضر قصة أبناء العبيد في بدايات القرن الماضي وهم يحاولون جاهدين ترميم أواصر جديدة لعائلاتهم وأسرهم ….. وغيرها من النصوص الدرامية الرائدة التي تموقع ” أوجيست ويلسون ” كأبرز الكتاب الدراميين في تاريخ المسرح الأفروأمريكي .
إن ” أوجيست ويلسون ” و معه كل الأسماء المشرقة التي أثثت المشهد المسرحي الأفرو-أمريكي لا تقل شأنا و توهجا عن رموز المسرح الأمريكي البيض ك ” آرثر ميلر ” و ” يوجين أونيل ” و ” تنسي ويليامز ” … لكنها للأسف تظل خارج مناطقنا و مساحاتنا و خرائطنا المسرحية .. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أننا سقطنا في فخ التمركز الثقافي الغربي نؤشر على ما يؤشر عليه .. و نهمش ما يهمشه .. و نغيب ما نغيبه .. رغم أن الهوامش الثقافية غالبا ما تتقاطع مع هواجسنا و همومنا و أحلامنا المشتركة .
كريم الفحل الشرقاوي
هوامش :
- إليزابيث ماك هينري – ترجمة صالح الرزوق – الأدب الأمريكي الأسود .
- ترجمة فاطمة الزهراء علي – الفلاسفة العنصريين هايدجر على وجه التحديد .
- نفس المرجع .
- عبد الله الحيمر – الفلسفة الإفريقية و اليونانية صراع التمييز العنصري الفكري .