الناقد العراقي مهدي هندو الوزني يكتب: مسرحية “أوفر بروفة”.. تناغمية النص والعرض
المسرح نيوز ـ العراق| مهدي هندو الوزني
ـ
لقد كان الإشتغال الأدبي والفني لمسرحية ( أوفر بروفة ) مؤسسا” على التناغمية التي إتفق عليها كل من كاتب النص ( لؤي زهرة ) ومخرج العرض الدكتور ( علي الشيباني ) من خلال توظيف ( السخرية ) التي كانت المعادل بي النص والعرض ، والتي جسدها ركحيا” مجموعة من الشباب من فرقة السراج المسرحية للمكفوفين ، ولهذا أرى أن هذا العرض ينتمي إلى عروض المسرح الساخر .
النص : لقد بنى المؤلف ( لؤي زهرة ) نصه المسرحي على توظيف السخرية من المفاهيم التي
سادت المجتمع ، وفي النص الأصلي كانت هذه السخرية جدلية بين الشخصيات التي
صنعهما المؤلف ( لؤي زهرة ) وهما المخرج والمؤلف ومجموعة الشباب المكفوفين
إلا أن نص العرض كان كما يبدو مشتركا” بين المؤلف ( لؤي زهرة ) والمخرج
( علي الشيباني ) وكما ثُبِتَ في فولدر المسرحية ( مدونة النص .. لؤي زهرة وعلي
الشيباني ) حيث رُفِعَتْ شخصية المؤلف وبقية شخصية المخرج التي جسدها داخل
العرض المخرج الدكتور علي الشيباني نفسه ، وبذلك أصبحت جدلية السخرية بين
شخصية المخرج ومجموعة الشباب المكفوفين ، إفتتح المؤلف ( لؤي زهرة ) نصه من
البعد النفسي لشخصية بطله / المخرج القلقة والمتأثرة بحالة المجتمع وما صارت عليه
من عزوف عن الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص وجاءت عن لسان بطل المسرحية
وشكواه بعدم وجود جمهور وكذلك ممثلين وكيف يمكن أن يكون هنالك مسرح ، لقد بث
المؤلف ( لؤي زهرة ) السخرية في سطور النص وبكافة الأوجه،فقد سخر من القدر
عندما طلب مجموعة الشباب المكفوفين من المخرج أن يشركهم في التمثيل
وبدوره رفض المخرج طلبهم لأنهم مكفوفين ، ولكنه أذعن أخيرا لهم ووافق على تلبية
طلبهم شرط أن يكونهناك إختبارلهم عن طريق عمل بروفة وهذا يحيلنا إلى عنوان
المسرحية ( أفر بروفة ) والمتكون من مقطعين أو كلمتين أوفر وتعني .. النهاية وبروفة
وتعني .. تمارين مسرحية ، ونلحظ أن المؤلف ( لؤي زهرة ) قد ثبت السخرية في هذا
العنوان تأويليا” فهو سخر من نهاية التمرين المسرحي الذي ربما كان شبيها” لإختبارات
العملية السياسية التي لم تأتي بثمار طيبة ، لقد إعتمد المؤلف ( لؤي زهرة ) على
المزاوجة بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية ، وهي من مميزات نص المسرح الساخر كونها قريبة من المتلقي ويفهما المتعلم وغير المتعلم ، كذلك إعتمد المؤلف ( لؤي زهرة ) على مبدأ ( التهكم ) وهو المزاوجة بين الجد والهزل في إيطال السخرية للمتلقي وكان واضحا في العديد من الحوارات ومنها عندما أراد الفتى أن ينصح الشحاذ ويعلمه كيف يمكنه الحصول على هبة من الناس قال له الطريقة الجديدة في الشحاذة تكون كالأتي ( من عنده عتيك للبيع من عنده مكينه للبيع من زولية للبيع …. من عنده شاعر للبيع من عنده ممثل مسرحي للبيع من عنده وطن للبيع ) نلحظ أن إمتزاج الهزل والجد قد أحدث مفارقة والتي أحدثت بدورها سخرية ،كذلك إعتمد المؤلف ( لؤي زهرة ) على خاصية ( القلب الدلالي ) في توصيل السخرية أيضا” للمتلقي من خلال قلب جملة أو مفردة ومنها عندما نادى الملك الحاجب فرد عليه الحاجب(نعم يابلواي) بدلا” من (نعم يامولاي ) وبذلك تحققت السخرية من خلال هذا القلب الدلالي وأصبحت المفردة تدل على ثقل الحاكم وهيمنته وتسلطه على الشعب ، كذلك إعتمد المؤلف ( لؤي زهرة ) (السخرية التصويرية ) من خلال التصوير الكاريكاتوري الذي يعتمد التضخيم والتشبيه ومنها عندما سأل المخرج أحد الشباب المكفوفين أين كنت ؟ قال الشاب ( حماري مات بالجلطة ) فسأله أحد الشباب الأخرين مستفسرا ( شلون مات .. شنو تخرج من الجامعة مهندس وما حصل تعيين .. لو عند فشل كلوي وراح للمستشفى وكلوله انتظر لما يموت هذا المريض ويجي السره الك ) وهنا نلحظ أن التشبيهات الدلالية أخذت طريقها إلى السخرية من الوضع السياسي والحكومي في عدم توفير الحياة الكريمة للناس ، لقد إستطاع الكاتب المسرحي ( لؤي زهرة ) من كتابة نص مسرحي مبني تماما” على موضوعة السخرية وتوظيفها في الإشارة إلى معاناة وعذابات المجتمع والإحتجاج على كل المفاهيم الخاطئة سواء كانت سياسية أم إقتصادية أم إجتماعية ، وعيا” منه أن الأدب الساخر والضاحك يتقبله الناس بسهولة كونه يواجه الواقع بمختلف تسمياته ولأن الكاتب المسرحي ( لؤي زهرة ) أصلا” يكتب العمود الصحفي الساخر ماأثر على كتاباته ونصوصه المسرحية بشكل ملحوظ وبذلك أنتج لنا نصوص ساخرة عديدة إلا أنني أرى أنه تألق في هذا النص وهو نص ( أوفر بروفه )
العرض : لقد تماهى وتناغم مخرج العرض المسرحي ( أوفر بروفة ) الدكتور (علي الشيباني)
مع إسلوبية النص فاختار الإسلوب أو المذهب الملحمي البريختيى ليكون الشكل أو
أو القالب الذي وضعت فيه مضامين النص ، ومن المعروف أن من ميزات مسرح
بريخت أنه يمزج بين التسلية والسخرية والوعظ والتحريض بشكل كوميدي ، لقد إختارالمخرج ( علي الشيباني ) مكان العرض الإفتراضي هو خشبة المسرح إيمانا” منه أن المسرح البقعة التي تطرد الظلام بضوئها المشع في طريق الحرية وهذا ما لاحظناه في أغنية نهاية المسرحية التي تمجد المسرح ودوره في نشر الثقافة وفضح الفساد في كافة ألأوجه ، وستهل المخرج ( علي الشيباني ) عرضه المسرحي باستحضار مسرحية الكاتب الكبير ( تيشخوف ) ( أغنية البجعة ) أو مايطلق عليها في بعض التراجم ( أغنية التم أو أغنية طائر التم)وكان المخرج ( علي الشيباني ) موفقا” في هذا التناص باعتبار أن تيشخوف أحد الرموز الذين وظفوا السخرية في نتاجاتهم ، وموضوعة المسرحية تحكي أن هناك ممثل بقي وحيدا على خشبة المسرح بعد أن تركه الجمهور وكان هذا أخر العروض المسرحية له ،
لقد استفاد المخرج ( علي الشيباني ) من تقنية ( الميتامسرح ) أي التمثيل داخل التمثيل وهي أيضا” من ميزات مسرح بريخت والتي تهدف إلى جعل المتلقي في حضور دائم ومشترك أحيانا” ومستمر بمتابعة العرض دون السقوط في فخ الإندماج لمعرفته أن مايقدم هو تمثيل الغرض منه توعيته ومن ثم تسليته ، بدأ المخرج علي الشيباني بالتعرف على مجموعة الشباب المكفوفين الذين سيشركهم في عملية البروفة وكانت أسمائهم هي نفس أسمائهم الحقيقية وهذه تحسب للمخرج ( علي الشيباني ) في التأكيد على جعل المتلقي يبقى في إطار التمثيل داخل التمثيل ومشاهدة اللعبة المسرحية ، لقد أثث المخرج ( علي الشيباني ) فضاء العرض بأيقونات ديكورية تمثل قطع الشطرنج وكذلك رقعة الشطرنج التي كانت فوق خشبة المسرح إلا أنني أرى وفقا” لإشتراطات المسرح البرختي التي تقول بعدم استخدام الديكورات الثقيلة والكبيرة وإختزال قدر الممكن وفتح فضاء المسرح للمتلقي كان بامكان المخرج ( علي الشيباني) الإستعاضة عن هذه القطع الديكورية بعلامات خفيفة وموحية لما أراد من رؤيا ، والإكتفاء بالأزياء التي كانت فعلا من جسد العرض والتي ألبسها للممثلين وهي ترمز إلى قطع الشطرنج والتي كان نصفها أبيض والأخر أسود ، وكا بالإمكان أن يضع الأقنعة لتأكيد الشكل ، والأقنعة من ميزات مسرح بريخت الذي إستخدمه في العديد من مسرحياته ومنها ( رجل برجل …. الإجراء …. إنسان ستسوان الطيب …. دائرة الطباشير القوقازية ) وغيرها ،
وفق المخرج ( علي الشيباني ) في تفعيل الأغنية التي كانت تردد من قبل المجموعة أوأحد أفرادها أوحتى من قبله هو الذي لعب دور المخرج وذلك لكسر التراتبية السردية أو كسرا” للحدث الذي ربما يتنامى مع ذهنية المتلقي ليجعله داخل دائرة الإندماج ، والأغاني أو الموسيقى واحدة من تقنايات مسرح بريخت التي كان لها دور هام في مسرحياته وكانت متعددة ومتنوعة خاصة في مسرحيته ( أوبرا القروش الثلاث ) حيث كانت مزيجا” متنوعا” منها مايشبه التراتيل ومنها الأغاني العاطفية ومقطوعات من موسيقى (باخ) وهذا مافعله بامتياز المخرج ( علي الشيباني ) في إختياره المنوع للأغنية العاطفية والفلكلورية والأغنية العربية أغنية السيدة فيروز ( ياطير ) إلا أنني كنت أتمنى أن تكون موسيقى ( جايكوفسكي ) ( بحيرة البجع ) في بداية العرض مرافقة له وهو يمثل استذكار الأدوار التي أداها سابقا” مما كان يعطي تجسيدا للوحدة والنهاية ويفسر البؤس والشقاء والخواء الذي يعيشه الفرد في المجتمع ، يرتكز مسرح بريخت على تقنية ( التغريب ) الذي هو جعل الشيء المألوف غير مألوف ،
فقد وفق المخرج (علي الشيباني) من إظهار إسلوب التغريب في عدة أمكنة منها كسر الإيهام أو الجدار الرابع بين خشبة المسرح وصالة العرض والجمهور من خلال التحدث مع الجمهور وكذلك جعل بعض من المشاركين في العرض في صالة العرض يعلقون أحيانا” على مواضيع كان يطرحها ، التغريب في البديهيات حيث من المعروف أن المبصر يمكنه أن يمشي في الظلام إلا أن مطالبة أحد الممثلين المكفوفين المخرج / الممثل علي الشيباني أن يمشي في الظلام بعد أن أمر منفذ الإضاءة أن يطفئها ، نلحظ أن أصوات تكسر أشياء وأن المخرج / الممثل علي الشيباني قد سقط على الأرض بعد أن فتحت الإضاءة وكان أن قال الممثل المكفوف ( ماهذا لحظات في الظلام ولم تستطع السير مابالك ونحن مكفوفين منذ زمن ) جاء التغريب هنا ليدل على معنى أخر ربما عدم القدرة على تغيير الأشياء ، أما عنصر الإضاءة إستطاع المخرج ( علي الشيباني ) أن يحقق إشتراط المسرح البرختي في هذا الصدد ، والذي لايعطي أهمية كبيرة لها وأن يكون إستخدامها بشكل بسيط ، وهذا مافعله المخرج ( علي الشيباني ) إذ لم يستخدم الإضاءة الكثيرة والألوان المتعددة وكانت إضاءته بسيطة وموحية ، أما عن عنصر التمثيل فكان ( علي الشيباني ) كما هو دائما” متألقا” متمكنا” من أدواته وحضوره الأنيق وهو المعادل لكفة الميزان التمثيلي التي إحتلت كفته الثانية مجموعة الشباب المكفوفين الذين أجادوا تجسيد أدوارهم بشكل ملفت ورائع رغم أنهم هواة وحققوا أشتراط المسرح البرختي في التمثيل إذ أنهم لم يندمجوا مع شخصياتهم المسرحية وحافظوا على إيقاع العرض ، وذلك بفضل التوجيهات والملاحظات والجهود المبذولة من قبل المخرج ( علي الشيباني ) في توصيل رؤيته الإخراجية وكذلك توصيل مفهوم المسرح البرختي لهم ليتمكنوا من التجسيد الصحيح لأدوارهم ، وهنا بدا التناغم واضحا” بين النص والعرض لمسرحية ( أوفر بروفة ) التي أعتبرها علامة مهمة في عروض المسرح العراقي الساخر ، ربما كان الأدب الذي يتسم بالجدية هو الداعي إلى التمرد والإحتجاج وكشف الزيف في الواقع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي إلا أن الإنسان الفنان أطلق الدعابة والسخرية والضحك والنكتة لتظاهي الجد في رفض الواقع المرير وانتقادالصفات السيئة لدى الفرد والمجتمع وهذا ما أراد أن يقوله المؤلف ( لؤي زهرة ) ومامسرحه المخرج الدكتور ( علي الشيباني )في عرض تناغمي ساخر جميل .