الناقد والباحث سمير حنفي يكتب عن.. الفنان القدير محمود الحدينى “ابن دمنهور الذى عشق المسرح”
بقلم: سمير حنفي
ناقد مسرحي وباحث
ـ
بدأ حياته الفنية من بين نوافذ القطارات
أختطفته الإدارة المسرحية من بريقه المسرحى والسينمائى
—–
قليلون اللذين عرفوا محمود الحدينى عن قرب، لا أزعم أنى من بين هؤلاء القليلون، ولكنى أزعم أنى أقتربت منه إلى الحد الذى جعلنى أدرك مدى شغفه وحبه للمسرح إلى درجة العشق، ما أن تحاوره فى قضية من قضايا المسرح، حتى يسترسل معك ساعات فى الحديث عن معشوقه الأول وهو المسرح، الذى ضحى فى سبيله بالكثير، أقربها أدواره السينمائية التى لمعت فى سبعينات القرن العشرين، محمود الحدينى هو أحد أبناء جيل أدرك أن الأخلاص والمثابرة من جهة والأيمان برسالة الفن، من جهة أخرى، هما أقوى مقومات الفنان، صاحب الرسالة، ومن أجل هذا ضحى بنجومية التى كانت فى أوجها فى ثمانينيات القرن العشرين، من أجل معشوقه المسرح، ليوظف هذا العشق، من فوق مقاعد الإدارة المسرحية.
طفولته: ولد فى الخامس من يوليو 1941 من عائلة متوسطة الحال بمدينة دمنهور محافظة البحيرة، كان فرحة والديه بمجئه تفوق كل الحدود، فقد رزقا بالولد أخيراً بعد ثلاث أناث، لكن فرحة والده لم تستمر كثيراً فقد توفى الوالد بينما كان محمود الحدينى فى حدود الخامسة من عمره، وتولت والدته تربيته مع أخوته البنات، الغريب أن التمثيل لم تكن هوايته أو طموحه الأول، فقد كان والده ناظر محطة سكك حديد دمنهور، فكان يصطحبه إلى بعض زملاء والده فى رحلة العمل، وكانت متعته الكبرى وقتذاك هى ركوب القطار فى رحلة قصيرة من مدينة دمنهور إلى أيتاى البارود، يتطلع خلالها ويتأمل تلك المساحات الخضراء وفروع الأشجار والشجيرات المتناثرة فنمت لديه موهبة الرسم، وبرع فيها، وعندما بلغ الثالثة من عمرة ألتحق بكتاب الشيخ محمود، و رغم أنه كان دائم الهروب من هذا الكتاب إلا أنه من خلال تواجده المنقطع فى هذا الكتاب تمكن من أجادة اللغة العربية ومخارج الحروف، ألتحق محمود الحدينى بمدرسة دمنهور الأبتدايئة ثم الأعدادية، وبرزت موهبة الرسم لديه فى هذه الفترة، إلى حد أن أقام معرضاً لرسوماته وهو فى الثانية عشر من عمرة.
بداياته الأولى : كان دخولة لعالم التمثيل، صدفه بحته، فقد كان متواجداً فى إحدى الأحتفاليات المدرسية، وغاب أحد التلاميذ المكلفين بأحد الأدوار فى المسرحية، فأسرع مدرس الرسم إلى محمود الحدينى طالباً منه أن ينقذه من هذه الكارثة، وويوافق الحدينى على أن يقوم بدور التلميذ المتغيب، ويقول الحدينى فى هذا الموقف، “أرتبكت وخفت لحظة دخولى إلى خشبة المسرح، فإذا بمدرس الرسم يدفعنى بشده ليدخلنى إلى خشبة المسرح، تلك الدفعة التى أدخلتنى لعالم المسرح، ولم تخرجنى منه حتى اليوم”، فقد اجتذبه هذا العالم الساحر، وألتحق بفريق التمثيل بمدرستة الأعدادية، ثم أصبح رئيساً للتمثيل فى مدرسته الثانوية وهى مدرسة عمر مكرم، بل أنه تعدى مرحلة المسرح المدرسى إلى الأشتراك فى فرقة التمثيل بالمحافظة، وكان مشرف المسرح المدرسى الذى وضع يده على موهبتة وقتذاك، هو الفنان أحمد عبد الحليم، كان هدفه الأكبر هو الألتحاق بكلية الشرطة، لكنه يرسب فى الكشف الطبى بسبب كشف النظر الذى كان أقل درجة واحدة من المطلوب، فبدأ حلمه القديم فى التصوير والرسم يداعبه، فتقدم لأختبار الرسم للالتحاق بكلية الفنون الجميلة بالأسكندرية، ولم يتلق أى رد فظن أنه رسب فى أمتحان القبول،
ألتحاقه بمعهد التمثيل: وعلى باب محطة قطار بنى سويف كان موعده مع القدر، حيثُ كان يغادر المحطة مكدراً ليلتقى بأستاذه، أحمد عبد الحليم، والذى أقترح عليه الألتحاق بمعهد التمثيل، وأعجبته الفكره، وأقبل عليها مرحباً، ففى صباح اليوم التالى، أستقل الحدينى القطار، ليسافر إلى القاهرة، وقدم بالمعهد الذى كان يقع بشارع المعهد السويسرى بالزمالك، وأجتاز أختبار القبول وتم أختياره ضمن 11 طالب من بين أكثر من ثلاثة آلاف متقدم تقدموا لأختبارت القبول، وانتظم محمود الحدينى فى الدراسة بالمعهد .. وأستأجر شقة فى حى الكيت لقربها من مقر المعهد، والغريب أنه بعد أنتظامة فى الدراسة جاءه خطاب القبول بكلية الفنون الجميلة بالأسكندرية، لكنه آثر الأستمرار فى معهد الفنون المسرحية، ومن زملاء دفعته بالمعهد نجاة على، عواطف حلمى، محمود أبو ذيد، سمير عزيز، ومن سوريا، أسعد فضه .. الممثل والمخرج السورى الذى أصبح بعد ذلك نقيب للممثلين بسوريا، خضر الشعار الذى تولى رئاسة أتحاد الفنانين العرب فى عام 1979، على عقله عرسان وكان رئيس أتحاد الكتاب العرب، وقد تتلمذ على أيد مجموعة من رموز المسرح المصرى أمثال، نبيل الألفى، عبد الرحيم الزرقانى، د. سعيد خطاب، درينى خشبة, على فهمى، ألهامى حسن .. وأخرين، وكان هدفه الأول فى معهد المسرح هو الحصول على الأمتياز، كى يتم أعفاءه من مصاريف الدراسة، و الحصول على مكافأة التفوق وقدرها عشرة جنيهات، وكى يستطيع تدبير مصاريف أقامته بالقاهرة، دون اللجؤ لوالدته، وبالفعل كان تقدير الحدينى طوال سنوات الدراسة أمتياز،
بداياته مع المسرح القومى بدأ حياته المسرحية وهو طالب فى الصف الثانى عندما رشحه نبيل الألفى للقيام بأحد الأدوار الهامة فى مسرحية شقه للأيجار بجوار سناء جميل، وبدأ عمله بالمسرح القومى خلال فترة دراسته بالمعهد فى العديد من العروض منها مسرحية مأساة جميلة للشاعر عبد الرحمن الشرقاوى .. إخراج حمدى غيث و فور تخرجه عام 1962 عين كممثل تحت التمرين بالمسرح القومى، بمرتب عشرون جنيهاً، ثم جاءته الفرصه الكبرى عندما رشحه عبد الرحيم الزرقانى ببطولة مسرحية سليمان الحلبى، وكان عمره فى حدود الحادية والعشرون، مما فتح له أبواب البطولة، أو الأدوار الرئيسية فى عدة مسرحيات نذكر منها، مسرحية المحروسة من تاليف سعد الدين وهبة وأخراج كمال ياسين، كبرى الناموس من تأليف سعد الدين وهبة وأخراج كمال ياسين، السبنسة من تأليف سعد الدين وهبة وأخراج سعد أردش، الدخان من تاليف ميخائيل روكان وأخراج كمال ياسين، حاملات القرابين لأيسخيلوس وترجمة دكتور لويس عوض ولعب فيها دور أوريست وأخرجها المخرج اليونانى تاكيس موزينيدس بالأشتراك مع أحمد عبد الحليم، مشهد من الجسر لأرثر ميللر وأخراج كمال عيد، النار والزيتون تأليف ألفريد فرج وأخراج سعد أردش.
الدراما التليفزيونية والسينما: تميزه فى المسرح جذب أليه نظر مخرجى الدراما التليفزيونية، فأستدعاه نور الدمرداش ليلعب دور فخرى أبن العمده فى المسلسل الشهير هارب من الأيام تأليف ثروت أباظة، وبعدها عمل فى عدة مسلسلات مثل، الحصار، هى والمستحيل، فرسان اللـه، ليالى الحلمية الجزء الثانى، السقوط فى بئر سبع، المشربية، الراية البيضاء، المصراوية، لا الله إلا الله الجزء الأول، وغيرها، كذلك تمكن من أقتحام عالم السينما حيثُ رشحته لطيفه الزيات فى عام 1963 بالقيام بدور هام فى فيلم الباب المفتوح مع فاتن حمامه ومن أخراج هنرى بركات الذى عرض عليه توقيع عرض أحتكار للسينما مدة خمس سنوات .. لكنه رفض لأن المسرح كان هو عشقه الأول، وقدم بعدها أفلام، السيرك، ثمن الحرية، امير الدهاء .. وغيرها.
لقاءه مع الفنانة نادية رشاد: وكان ذلك فى عام 1963، حيثُ فتح المسرح القومى لأول مرة باب التعيين للمثلين من خريجى الجامعات، وتقدم عدد هائل من هواة المسرح، لم ينجح من بينهم سوى الفنانة نادية رشاد التى كانت طالبة بكية الأداب قسم فلسفة، والفنان محمود ياسين وكان حاصلاً على ليسانس حقوق، فى عام 1967
رُشح لبعثة إلى جامعة جورجيا لدراسة فن المسرح، ولكن ظروف نكسة 1967 حالت بينه وبين البعثة، وفى نفس العام تزوج من الفنانة نادية رشاد، وفى عام 1971 حصل على دبلوم التذوق الفنى، وكانت دفعته هى الدفعة الوحيدة التى درست أربع سنوات فى مرحلة الدبلوم، وكان من دفعته، المذيعة سلوى حجازى، سامى السلامونى ، وكان يحاضر فى المعهد الملحق الثقافى البريطانى، وكان موقعه فى شارع شجرة الدر بالزمالك.
محمود الحدينى إدارياً: مثلما كان محمود الحدينى ممثلاً متميزاً، كذلك كان إدارياً متميزاً، وله أنجازاته الواضحه، ويقول محمود الحدينى أنه لو كان يعرف ما سيحدث له مع المناصب الإدارية لما اختار هذا الطريق، ويحكى أن هذا الطريق بدأ بمكالمة تليفونية تلقتها زوجته الفنانة والكاتبة نادية رشاد من الدكتور إبراهيم حمادة (الذى كان رئيساً للهيئة العامة للمسرح) على تليفون المنزل وأخبرت عندما عاد إلى المنزل “أن د. إبراهيم حمادة “قالب عليك الدنيا” وعندما ذهب الحدينى لأبراهيم حمادة أخبره، بأن الأختيار وقع عليه، ليتولى منصب مدير مسرح الطليعه، المفاجأة هى التى جعلته يوافق، على أمل أن الموضوع مؤقتاً حتى تستقر الأمور، لكن ذلك المشوار الإدارى الذى بدأ منذ عام 1980م ، أستمر معه حتى إحالته للمعاش عام 2001م، وتولى الحدينى إدارة مسرح الطليعة بدلاً من سمير العصفورى، الذى أنتقل لإدارة مسرح السلام، الذى كان حديث الأفتتاح، ولكن أعتراض المخرج سمير العصفورى الذى كان عاشقاً لمسرح الطليعة، جعل أبراهيم حمادة يعيد توزيع الأدوار فيعيد العصفورى لمسرح الطليعة ويعين الحدينى مديراً لمسرح السلام، الذى كان فى مرحلة الأنشاء، ويخوض الحدينى حرباً شرسة لطمع أكثر من جهة فى الأستحواذ على مسرح السلام لصالح فرق أخرى، وقادته الظروف لأن يكون هو المؤسس الحقيقى لأستقرار فرقة المسرح الحديث على مسرح السلام.
عودته المسرح القومى : بعد نجاح الحدينى فى إدارة المسرح الحديث فوجئ بوزير الثقافة وقتذاك أحمد هيكل يستدعية ويسند أليه إدارة المسرح القومى، وتحول محمود الحدينى من المسار الفنى إلى مسار الإدارة، الذى جعله يضحى بطموحاته الفنية.
رئاسة المركز القومى لمسرح: تولى رئاسة المركز القومى للمسرح فى الفترة من عام 1994 وحتى عام 2000 وفى السنة الأخيرة جمع بين رئاسة المركز القومى للمسرح والبيت الفنى للمسرح، الذى أستمر به حتى إحالته للمعاش، وأستطاع أثناء توليه المركز القومى أن يجعل له كيان مستقل بعد أن تخطى الحواجز وقام بمقابلة الدكتور الجنزورى وزير التخطيط وقتذاك وأستطاع أن يقنعه بتوفير ميزانية محدده مخصصة للمركز القومى للمسرح، كذلك نجح فى تخصيص مكان مخصص للمركز القومى للمسرح وهو الموقع الحالى الكائن بشارع حسن صبرى بالزمالك رقم 9، أدخل كثير من الأجهزة الحديثة للمركز كأجهزة الكومبيوتر وأخل نظام التوثيق المصور بالفيديو لعروض المسرح المصرى، وأستحدث لقاء الرواد، والمطبوعات التوثيقية بالمركز.
إن الحديث عن محمود الحدينى يحتاج إلى مقالات عديدة لا تنتهى، ولكنى حاولت أن أختصر أهم المحطات فى مسيرة رجل وعشق المسرح وأخلص له، فتحية لهذا الرائد العظيم.