الناقدة صفاء البيلي تكتب: «إبرة» الإماراتي.. الخطأ التراجيدي.. ومحاولة الهروب من الهيمنة الأرسطية!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
صفاء البيلي
كاتبة وناقدة مصرية
عرّف أرسطو التراجيديا بأنها: «محاكاة أي حدث يثير انفعال الألم، (وغالباً ما ينتهي بالموت) … وتؤدي فيها عاطفتا الخوف والشفقة إلى تطهير النفس من هذه الانفعالات. وقد تحتوي في العصر الحديث على بعض العناصر الهزلية أو القصص الثانوية، بقصد إظهار التباين، أو التفريج عن التوتر العاطفي.
كما ركز أرسطو على أن من كمال الشخصيات التراجيدية أن تكون شخصيات أسطورية، وأنها هى التي تقوم بالفعل، وأنها كلما اتسمت بالسمو والسلوك المتفرد تكون أكثر تأثيرا في إحداث الفجيعة للمتفرج.
ومع هذا فإن الفنان المسرحي الحالي الذي يريد أن يقدم هذا النوع من الشخصيات يستطيع أن يتحرر من ربقة جده أرسطو مجردا إياها من أسطرتها وسموها وعلوها رتبتها الطبقية والمجتمعية، لينزلها إلى رتبة البشر العاديين، بشر من لحم ودم يعيشون حياة عادية، ربما تنقلب حياتهم رأسا على عقب بسبب خطأ درامي تراجيدي ما، هذا الخطأ قد يعرضهم لأحداث مأساوية من الممكن أن تنتهي بالموت لأسباب قدرية لا دخل لهم فيها.
هذا ما حدث في عرض إبرة الإماراتي لجمعية دبا للثقافة والفنون والمسرح، برئاسة الفنان (عبدالله الظنحاني) من تأليف (حمد الظنحاني)، وإخراج (إبراهيم القحومي)، والذي شاهده الجمهور على خشبة مسرح الطليعة (زكي طليمات) عبر فعاليات اليوم الثاني من الدورة الـ 31 لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، خارج المسابقة الرسمية.
يناقش العرض لحظة درامية شديدة الحرج، وهى الخطأ التراجيدي الذي يمكن أن يودي بحياة شخص ما.. فالبطل، ذلك الشخص الذي جاء فقط لمصاحبة صديقه المريض الذي يُعالج في مستشفى متطور، بل لا نكون مغالين إن قلنا إنه مستشفى ملغوم بالأساليب التكنولوجية التي تُستخدم في تجهيز المستشفيات الحديثة.. وعلى الرغم من هذا لا توجد فيها إبرة لإخاطة الجروح! أو مولد للكهرباء حال انقطاعها أثناء إجراء العمليات! هذا الخطأ حول الشخص/ الصديق من شخصية ثانوية، هامشية إلى شخصية رئيسية فقط في لحظة أن نام ليستريح لبعض الوقت على سرير صديقه المريض الحقيقي الذي خرج من الحجرة لغرض ما.
في هذه اللحظة وأثناء تمدد المريض الخطأ تبدأ الأحداث في سيرورتها دون علم الجمهور بما حدث.. حيث تحتل مقدمة الخشبة شخصيتان، (الطبيبة/ المتدربة) الشابة و(الممرض) الشاب، وكلاهما يساهمان في إدخال الجمهور في هوة الحدث، ليجد الأخير نفسه مشاركا فاعلا في الأحداث حيث يكشف الحوار فيما بينهما عن بعض المسكوت عنه في عالم الطب، فهى طبيبة شابة متخرجة لم تجد وظيفة إلا بشرط مرورها بفترة «متدربة» ووافقت لحاجتها المادية الملحة، ورغبتها الإنسانية في مساعدة المرضى ودافعها في ذلك معايشتها لمرض والدها.
أما الممرض فشخصية معقدة إذ يعاني من هيمنة والده العسكري حتى بعد مماته متمثلا في حزم الأم وسيطرتها. وفي الخلفية يدخل المريض الخطأ ممددا على سريرة (بالنسبة للجمهور والجراح الستيني) الذي بدا متعجلا ومرتبكا ومرتعشا منذ الوهلة الأولى لظهوره على الخشبة وهو يقوم بالاستعداد لإجراء العملية.. عملية الزائدة الدودية التي بمقدور أي طبيب شاب إجرائها بسهولة.
لتتعقد الأحداث.. وتدخلنا الأصوات المسجلة بعناية تقنية وأدائية فائقة إلى صالة الاستقبال بالمستشفى المتطور، لنرى مدى الدقة في التعامل مع الجمهور، فهذا يتبرع بالدماء، وذاك يحصل على تقرير.. إلخ.. ثم عبر بؤرتي ضوء تقف فيهما الشخصيتان الجراحة والممرض.. كل منهما يقوم بدوره المرسوم بطريقة «المايم» وهو ما يفتح باب التأويل للجمهور لينتقل من حالة التلقي إلى حالة المشاركة الفعالة.
وما إن تفتح الإضاءة على حجرة العمليات وينتقل الاثنان من طرفي المسرح إلى الوسط حتى تبدأ الجراحة / المتدربة، بسرد حكايتها المؤثرة لزميلها الممرض بمرض أبيها فيعترف لها هو الآخر عن أزمته نراهما يتقاربان في إشارة ضوئية سريعة تنم عن تقارب مآسي هؤلاء الشباب سواء كانت نفسية أو اجتماعية أو حياتية.
وبدخول الجراح معهما يبدأ الحوار الذي جاء سريعا متقاطعا لتبدأ أولى مراحل العملية، تسقط دائرة الضاءة الخاصة بحجرة العمليات إيذانا بالبدء، إلا أنهم يكتشفون أن المريض مازال متيقظا وأن التخدير لم يؤت ثماره، فيأمر الجراح بإعادة تخديره، وترفض الجراحة خوفا وإشفاقا على المريض لأن جرعة التخدير الزائدة ستودي بحياته لا ريب، ولما لم تجد استجابة لرأيها، وصورة أبيها ومعاناته مع المرض تتجسد أمامها بعنف.. ما كان منها سوى أن قطعت التيار.. (على الرغم من ان المستشفى متطور.. وكان يجب على فريق العمل البحث عن سبب درامي آخر لعدم إجراء العملية أو تعطيلها، إن لم يكن ذلك مقصودا)
تتكشف شخصية المريض الخطأ الذي على الرغم من اعترافه أنه ليس المريض الحقيقي، بل صديقه،
يقوم الجراح بفتح بطنه وهو متيقظ تماما إذ لم يؤثر فيه التخدير بسبب تناوله الكثير من المهدئات. ثم تتكشف ذروة جديدة لتبدأ المعاناة ليكتشف الجراح أن المريض الخطأ يعاني من أورام سرطانية لنعرف في اللحظة نفسها أن المريض نفسه يعرف بمرضه لكنه كان يغمض عنه عينيه فلم يتجرأ على علاجه، مكتفيا ببلع الكثير من المسكنات خوفا على مستقبل زوجته وطفلته من جراء فقده، ثم تتطور المأساة أكثر حين يصر الجراح أخذ الموافقة باستئصال الأورام الخبيثة وفي المقابل الرفض القاطع من المريض الخطأ. لتنتهي حياته نهاية تراجيدية.. هذه النهاية ربما لم تكن لتحدث بهذه الكيفية لو لم ينم المريض الخطأ في سرير صديقة المريض الحقيقي مصادفة.
الكتابة:
النص الذي كتبه الشاب (حمد الظنحاني) يبدو للوهلة الأولى أنه نص تقليدي، فهو بالفعل يعتمد على الوحدات الثلاث في بنيته الدرامية، وبنية الصراع.. إلخ علاوة على استخدمه للعربية بجمالياتها البلاغية، إلا إنه في صياغته لمضمونه حاول الهروب من تقنيات التراجيديا التقليدية حيث قدم لقطة مأساوية واحدة من حياة رجل عادي عرضه خطأه بنومه في سرير صديقه المريض إلى الموت الذي كان من الممكن أن يصيبه بشكل طبيعي بسبب معاناته الصحية الوخيمة، لكنه القدر الذي أنهى الكاتب من خلاله حياة بطله، وكأنه استنبت قول الشاعر (ابن نباتة السعدي ت405هـ) وَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِه.. تَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدُ. فلو لم يمت المريض الخطأ بجرحه نتيجة تهور الجراح، لمات من أمراضه السرطانية.
وفي الكتيب الذي حمل متن النص، صدره الكاتب بقوله: (هى حكاية من زمن ما..في مكان ما.. لا نعلمها حدثت فعلا.. أو لم تحدث) ولكننا نؤكد أن الحكاية عادية من حكايات البشر العاديين المأزومين بالحياة، إنها حكاية حدثت وتحدث وستحدث ربما ليس بنفس الأشخاص ولا المعطيات، ولا الزمان ولا المكان، لكنها وقعت وستقع وإن اختلفت التفاصيل، طالما ظل الإنسان معلقا من رقبته في طاحونة اسمها الحياة.
السينوغرافيا:
ساهمت السينوغرافيا عبر (استخدام مستويات الإضاءة التي صممها المخرج ونفذها المصري عز حلمي وقد تم توزيعها لتملأ فراغات الخشبة، أما الأزياء التي صممها ونفذها هزاع الظنحاني فقد كانت واقعية ومناسبة. والديكور الذي الذي صممه ونفذه راشد العنتلي فقد خلت منه خشبة المسرح تقريبا سوى سرير العمليات الذي يعتليه مصدر الإضاءة اعتمادا على إيماءات الممثلين وحركاتهم الجسدية، والموسيقى المعبرة عن المواقف العديدة) في صياغة صورة بصرية مأساوية، أدخلت الجمهور دائرة الحدث واستثارت مشاعر الخوف والشفقة والتعاطف، حتى لكأن كل منهم رأى نفسه مكان البطل المأزوم.
الرؤية الإخراجية:
من يقرأ النص الدرامي الذي بنى عليه رؤيته الإخراجية، يدرك جيدا كيف استطاع المخرج (إبراهيم القحومي) بناء عالمه المشهدي الخاص به، فلم يستسلم لإشارات الكاتب بشكل تام، فحوّل الأوفرتير إلى صورة بصرية غاية في الدقة للتعبير عن عمق التجربة ولم يكتف بالمنطوق الكلامي للشخصيات.. مجردا المسرح من الأثاث والمناضد والدواليب والأسرة.. إلخ، مكتفيا بسرير العمليات تحت منطقة الضوء مستخدما الترميز عبر المايم وقد فعله بشكل جيد ومدروس ليتيح حرية الحركة لممثليه ومثلما فعل في الأوفرتير حسنا فعل في الفينال.. حيث حول الإرشادة التي اتسمت بالسردية القصصية وكأن الكاتب كان مقدرا لها أن تأتي على لسان شخص ما كتعليق على ما حدث ليعلن ستار النهاية، إلا أن المخرج حولها هى الأخرى لصورة بصرية ديناميكية، صانعا حالة من الهرج والمرج لتجسيد الشعور بالخوف، ثم الرثاء والشفقة بما يدل على وفاة المريض الخطأ، عضد ذلك ظهور الطفلة التي تبحث في كل الأرجاء عن أبيها، وينتهي العرض بمحاولتها إيقاظه وهى تفتح فمها بصرخات مكتومة تثير تعاطف الجمهور وتمنحهم مزيدا من التطهير. مما يشير إلى محاولة المخرج الهروب من دائرة الهيمنة الأرسطية للشخصية التراجيدية والنزول بها من مصاف الأساطير والشخصيات السامية إلى البشر العاديين الملطخين بالحياة.
الممثلون:
سادت حالة من التناغم الأدائي بين شخصيات العرض.. لنجد شخصية الجراح المسن الذي قام بدوره (عادل سبيت) الذي يصر رغم معرفته أن المريض الذي أمه ليس هو المريض على فتح بطنه، فقط ليتم مهمته متخليا عن أية مشاعر إنسانية، حتى بعد موت المريض ظلت شخصيته على حالها من الاهتزاز والضعف والانتهازية على غير عادة سمات شخصيات الأطباء الرحيمة!
وقدم ذياب ناصر شخصية (الممرض) بعمق معبرا عن حالاتها المتعددة.. فمن القسوة والاعتداد بالنفس، إلى السخرية أحيانا، ثم الشعور بأزماته النفسية واعترافه بها لزميلته، وتردداته الشعورية أثناء إجراء العملية..
أما أيمن الخديم فجسد شخصية (المريض) المستلبة المستسلمة حينا والمقاومة أحيانا، حتى حينما يفجر المفاجأة بأنه المريض الخطأ، نرى في أدائه ثمة استسلام مدغم رغم محاولته للانفلات منهم.. ثم باعترافه بمرضه وإظهار مشاعر الخوف على مستقبل زوجته وطفلته.
كانت جودي النبهان (الطبية /المتدربة) أكثر شخصيات العرض دينامية فجاء أداؤها مشعا بالحياة والتحولات التي مرت بها منذ بداية العرض حتى نهايته.. وذلك ربما لأنها الشخصية الوحيدة التي عبرت عن مشاعر التعاطف الإنساني وإن كان لدافع ذاتي وهو معاناتها مع مرض والدها إلا أن ذلك الدافع الذاتي صار دافعا إنسانيا عاما، في زمن سادت فيه المادة واللامشاعر، وتجسدت فيه الآلة وصار الإنسان مهما امتلك من قدرات وشهادات علمية ومباديء بلا قيمة في عالم لا يعترف إلى بالوساطة والبرجماتية.
ولا أدري لماذا لم يُذكر اسم الطفلة التي قامت بدور ابنة المريض الخطأ؟ وكان أداؤها في الحقيقة أداء جيدا ومعبرا عن ذعر الطفولة لرؤيتها موت أعز ما لديها.
أخيرا..
قد يبدو عرض «إبرة» للبعض بسيطا، أحداثه مكررة، ربما يشعرون أنهم عاشوه من قبل عبر جار، أو صديق، أو حتى قريب، لكنهم سيستشعرون كم كان عميقا، كمن يحاول النبش بإبرة مدببة موجعة وحقيقية حد الجرح عن منابت الألم، الألم الذي تسببه مشاكل الانتماء لواقع يتسم بالمخاتلة وطمس الحقائق، وسلب حقوق الإنسان في مجتمعٍ.. الأجدر به أن يكون بيئة صالحة تتكاثر فيها أقانيم الخير والمحبة والجمال بعيدا عن الوصولية والبرجماتية والبطولات الزائفة.. ويكفي أنه جاء بتوقيع مجموعة مبشرة من شباب المسرحيين الواعدين.
المصدر: جريدة مسرحنا العدد 889