وجوه مسرحية
جرجس شكري يكتب: عبد الغنى داود … الكاتب الذى آمن بالثقافة الشعبية وعاش فى بيت بعيد!
المسرح نيوز ـ القاهرة| وجوه مسرحية
ـ
جرجس شكري
شاعر وناقد وكاتب مصري
….. ….
أراه يقف فى شرفة عالية وينظر بعيداً فيرى أشياء كثيرة ، يكتفى بالمشاهدة ولايهبط حتى يمسك بما رأى ، يظل فى شرفته يراقب ويضحك ! هذا هو عبد الغنى دواد الذى يُقبل عليك مبتسماً ، لايحمل ضغينة أو شراً لأحد.
كنا نلتقى فى المسارح والمقاهى ، فى المسارح نشاهد ما تيسر من المسرحيات أو نتابع عروض المهرجانات ، وفى المقهى تدور بيننا أحاديث طويلة عن شخصيات ونصوص مسرحية وأشعار وقصص ، عن بشر من هنا وهناك ..و لا تفارقه الإبتسامة حتى حين كان ينتقد ويختلف مع عرض مسرحي ويمزق مفرداته واحدة وراء الأخرى ،عبد الغنى دواد الذى منحته الطبيعة بنياناً جسدياً ضخماً منحته أيضا وعيا عميقاً وثقافة متنوعة لا تجمع فقط بين المسرح والسينما والترجمة والأدب ، والإبداع والنقد بل بين عوالم متباينة ومتناقضة فى أحيان كثيرة ،
إذ يجمع بين جابر أبو حسين شاعرالسيرة الهلالية وربندرات طاغور وبيتر وبروك ! بين شخصيات من التراث الشعبى وبين رموز المسرح الغربي مثل تينسى وليامز وأرثر ملير ومارتن إسلن وسارتر، كنت أشعر وأنا معه أنه لايشاهد فقط المسرح ، بل يشاهد الحياة كمسرحية ، ثم يبتسم ويظل مقيما في بيت بعيد عن كل هذا .
عبد الغنى دواد الذى رحل منذ أيام كاتب مسرحى وقاص وناقد ومترجم ، منحه هذا التنوع رؤية عميقة وشاملة فى النقد المسرحى وكل كتاباته بشكل عام، ورغم ثقافته المتنوعة انحاز هذا الكاتب إلى الثقافة الشعبية بل ويمكن القول أنه آمن بالتراث الشعبى وانحاز إلى شخصياته ،
فقد كتب مايقرب من خمس مسرحيات من وحى السيرة الهلالية التى كان يستمع إليها فى طفولته من شاعر الربابة ، كتب نصوص ” السفيرة عزيزة – الجازية الهلالية – غريب فى بلاد المغارب – غريب فى بلبيس – تنوعيات هلالية ” خمس مسرحيات عن سيرة بنى هلال ولا أظن أن أحداً سبقه من كتاب المسرح فى معالجة السيرة من خلال هذا الكم من النصوص ، ففى مسرحية “السفيرة عزيزة” يقدم معالجة درامية لشخصية مثيرة آمنت بالحب فى مواجهة الحرب. ولأنه يعرف أن كل من تناولوا السيرة وضعوا أبوزيد ودياب وخليفة الزناتى فى المقدمة فهم الأبطال، ذهب هو إلى شخصيات الهامش مثل عامر الخفاجى الفارس العراقى الذى عشق وتزوج من بنى هلال وخاض معهم الحرب فى تونس ولقى مصرعه هناك من خلال مسرحية ” غريب فى بلاد المغارب “
فهو الغريب عن بنى هلال ومات أيضا فى بلاد غريبة ، بالإضافة إلى تناوله أجزاء من السيرة تبدو غير مطروقة مثل الجزء الخاص بمرور أبوزيد فى مصر مع أبناء أخته فى مسرحية ” غريب فى بلبيس ” فثمة ولع بالسيرة برره بمحاولة الحفاظ عليها من الانقراض من خلال هذه النصوص وأيضا أنسنة هذه الحكايات ونزع القداسة الشعبية منها ، وإن كان قد انحاز للسيرة والتراث الشعبى والثقافة الشعبية بشكل عام فقد أكمل ولعه هذا بأبطال من التاريخ المصري وتناول شخصية أحمد عرابي فى نص ” هوجة عرابى وخيانة الولس “
و النصوص التى اعتمدت على أبطال السير الشعبية ، وأبطال التاريخ الحديث محور اهتمام عبد الغنى فى نصوصه المسرحية ، وكان قد نشر أولى أعماله ” شجر الصفصاف ” مسرحيات من فصل واحد عام 1981 وتوالت أعماله “القبة والضريح ، حلم الأباريق المهشمة ، اللعنة من فوق المنبر ” وغيرها والملاحظ ليس فقط انحيازه للتراث الشعبي والثقافة الشعبية بشكل عام بل وأيضا أن هذه النصوص لم تصعد إلى خشبة المسرح فى القاهرة ، فقط تم تقديم مسرحيتين أو ثلاثة مع فرق الأقاليم فى قصور الثقافة وكان آخرها السفيرة عزية فى أسوان . ونضع أمام هذه الإقصاء من مسرح الدولة علامة استفهام كبيرة .
عبد الغنى داود الذى ينتمى إلى جيل السبعينات واسميه جيل النهضة والسقوط ، الجيل الذى عاصر وشاهد ولو من بعيد أفول ازدهار الستينات ، وبداية التحول العنيف الذى أصاب المجتمع المصري فى سبعينات القرن الماضى بتأثير نكسة 1967 والتى سقط معها الحلم القومى، بالإضافة إلى الانفتاح الإقتصالدى وإنهيار مجموعة من القيم ، وربما هذا ما جعله وأبناء جيله ينحازون إلى الثقافة الشعبية ويحتمون بأبطال السير والملاحم والرموز التاريخية فى مواجهة الحاضر المؤلم فقدم معالجة للسيرة الهلالية كما فعل يسرى الجندى ،
وأيضا كتب مسرحية عن عرابي كما كتب أبو العلا السلامونى فقد وجد هذا الجيل الملاذ الآمن فى التراث الشعبى والتاريخ / فى الماضى ، وكانت أولى كتبه النقدية ” الأداء السياسى فى مسرح الستينات وهذا يتسق بقوة مع مشروعه الذى اختطه لنفسه أي البحث عن ملاذ آمن ، البحث عن المخلّص ، وتلا هذا كتابان الأول عن أحد رموز المسرح المصري ممثلاً ومخرجاً ومعلماً وهو زكى طيمات ، والثانى عن بيرم التونسى شاعرا ومسرحيا ومناضلا دفع الكثير من حياته دفاعا عن هذا الوطن وحمل الكتاب عنوان ” بيرم التونسى قيثارة الفن “
و من أعماله المهمة كتاب ” المسرح فى الأقاليم – مبدعون خارج القاهرة ” ليسلط الضوء فى هذا الكتاب على أبطال الهامش خارج أضواء القاهرة وقال فى مقدمته أنه يسعى من خلال هذه الدراسة إلى متابعة خريطة كتاب المسرح فى الأقاليم ومحاولة حصر هؤلاء الكتاب ومواقعهم على الخريطة المسرحية المصرية وتقييم أعمال العرض ، ومدى اسهامهم فالوصول إلى حلول مايسمى بأزمة كتاب المسرحية ، وفى دراسة أخرى تنحاز إلى الهامش أيضا كتاب ” مبدعون بلا نقاد ” الذى يتناول فيه مجموعة من أعمال مجموعة من الروائين لم ينالوا حظا كبيرا من الشهرة أو الشعبية كغيرهم مثل ” سعد مكاوى ، يوسف جوهر ، أمين ريان ،محمد كمال محمد ، فوزية مهران ، رضا البهات ، فؤاد قنديل وغيرهم ” وهم مجموعة من أجيال مختلفة جمع بينهم عبد الغنى دواد تحت عنوان أعمال لم تحظ باهتمام النقاد ، وصاحب الكتاب نفسه لم يحظ باهتمام النقاد أو باهتمام قطاع المسرح الحكومى الذي أهمل نصوصه التى زادت عن العشرين نصا مسرحياً !
عبد الغنى زكى على داود 3 ديسمبر 1939- 13 يوليو 2024 مواليد كفر الغاب مركز سعد محافظة دمياط ، عمل مديرا للأرشيف القومي بالمركز القومي للسينما مما أتاح له فرصة الإضطلاع بشكل شامل على أرشيف السينما المصرية حيث صدر له عام 1996 “من أجندة السينما المصرية – الراحلون فى مائة سنة ” وكتابه الهام ” مدارس الأداء التمثيلى فى السينما المصرية ” ومصر مائة سنة سينما ” وأيضاً ” مخرجو السينما المصرية جيل وراء جيل ،
بالإضافة إلى كتاب ” أعلام السينما فى الشرق والغرب ” وكلها أعمال وإن كانت لا تخلو من رؤية إبداعية إلا أنها دراسات توثق جوانب من تاريخ السينما المصرية ، هذا بالإضافة إلى جهده فى الترجمة ومن أهمها ترجمته لمسرحية طاغور ” ملك الغرفة المظلمة ” وشارك مع أخرين فى ترجمة دراسات مهممة منها ” مسرح الشارع ” ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى ” وكتاب ” دراما العرض المسرحى “
وأنا أكتب هذه السطور فى وداع عبد الغنى دواد أتمنى أن ظهور نصوصه على خشبة مسرح الدولة ، فإهماله غير مبرر ، والرجل كان لايسعى ولا يطلب ، فقط أكتفى بالكتابة والإقامة فى بيت بعيد عن الصراعات التى كان يكتفى بمشاهدتها من شرفة عالية .