مقالات ودراسات

حصريا.. العراقي د. عماد هادي يكتب: هل أدرك المخرج نصه؟ قراءة تفكيكية في عرض “شواهد ليل” لمؤلفه ومخرجه الأردني خليل نصيرات


المسرح نيوز ـ بغداد| د.عماد هادي الخفاجي.

أكاديمي ومسرحي عراقي

ـ

هل أدرك المخرج نصه..؟

قراءة تفكيكية في  مسرحية  ((شواهد ليل))  لمؤلفها ومخرجها  الأردني  خليل نصيرات..  تم تقديم هذه القراءة عبر فعاليات  مهرجان المسرح العربي الذي أقامته الهيئة العربية للمسرح في دورته العاشرة- بتونس

المـَتن الحكائي:

ينبني المتن الحكائي (بشواهد ليل) ابتداءاً من بداية النص، بوحدات من السرد المشهدي تَضُج بدلالاتِها الصارِخة بان ارتبط واقع الليل بشواهد والتي تُفيد بمعناها الحَرفي وتداعيها, دالات الموت والتفسخ والانهيار الذي احتواه الليل في بطنهِ مستعيرةً بوقائع التفسخ البايلوجي الذي يُصّدُرهُ المَتن الحكائي في فضاء التداول ليضعَنا أمام مستويين مستوى (السِـتر) فالليل حاوٍ وساتر ما بين صمته وظلمته, ومستوى (الفضيحة) الكبرى التي لا يمكن أن يحتويها بَطنُ القبر أكثر من ذلك حينما يتفسخ وتُعلن الرائحة عن فضيحة البطن.

وبتلك الجدلية ما بين السِتر والافتضاح تُهيئ بداية النص ذهن المتلقي جمالياً بإزاحة أُفق توقعاته إلى مستوى العُرفي، الأخلاقي والاجتماعي. فيطرح المتن الحكائي وقائع لقاء الهامشي، والمرذول، الملعون المنبوذ, والمُنحط ، من القاع ليُصعدهُ إلى مستوى التداول مُحدِثاً صدمةً أخلاقية وهزةً قيمية بالبنية الثقافية التي تهشمت صلادتها بهذا الحضور الغاضب للقاع للرذيلة لأبناء السِفاح عندما يلتقي(عزمي) مجهول النسب وابن لذةٍ محرمةٍ مُختَطفةٍ ليلاً، من عيون الحرس والرقيب الأخلاقي، (عزمي) الشاب في الثلاثين من العمر، والعامل المُستباح، في كراج لصقل وتلميع السيارات، والذي احتواه وانغلق عليه، فكان كل عالمه منسياً ملعوناً مرذولاً، يلتقي بفتاة ليل (رتيبة) وهي الأخرى في الثلاثين من العمر تعمل نادلة في ملهى (نادي السجائر) ، هويتُها جسَدها الذي يُقدمها موضوعاً دائماً للشهوةِ وموضع تحقيق لذة زبائن الملهى, فما يُصدره المَتن الحكائي هو فضاءاً أحمراً من الانتهاك والذِل والعبودية الجنسية بتفاصيلها المتنوعة فيؤسس المتن الحكائي لمشهدية محاكمة أخلاقية كُبرى ولكأنها تستدعي كلمات الرؤوف بآيات الرحمن (وإذا الموءودةُ سُئِلَتْ  بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ). فالمتن الحكائي بما يُصدر من سردٍ هو أقرب إلى التداعي والبوح التعبيري وتساؤلات، هي أصلاً موجهة للذات، ولكأنها سؤال واحد يتآكل أرواحهم المضطهدة  ما فرقُكِ أيتها النفس عن الآخر؟ أبذنبٍ جنيتيه أم بذنبٍ جناه من استولدكِ بهذا العالم؟ وما شأنك أيها العَالم بي والجُناة كانوا غيري؟

وبهذه التداعيات يتصاعد المَسرد الحكائي إلى مستوى الموقف الأخلاقي الكبير وتساؤلات فلسفية رغم إنها ظلت قاصرة في معالجات المؤلف على مستوى الواقعة البيئية الافتراضية التي يطرحها المتن كونها انحصرت بالتشريع القانوني المحلي فيما يتعلق بالمواليد مجهولي النسب ولم تنفتح على أبعاد العالم الإنساني الشامل.

 

المعالجات الأدبية للنص بالمتن الحكائي:

إن النص (شواهد ليل) بمتنه الحكائي الذي عَرضنا له آنفاً يستندُ في بناءهِ الجمالي على المعالجات التعبيرية الحادة القائمة على البوح والتداعي واستدعاء الغائب ومجابهة أَخيلة لذات في عرض الأزمة الإنسانية التي تعاني منها شخصيات ولعب أدوارها في حضور لَحظي ما بين شخصية (عزمي ورتيبة) دون وجود الجَدل الحواري في الموقف الذي يرتبط بالبناء النفسي للشخصيات والذي يتصاعد نحو حالة التنوير ورفع الموقف الدرامي إلى ذروةٍ أعلى، فكان أن أصبح التقابل الحواري ما بين الشخصيات أقرب إلى الاتصال المُغيب فوقع النص بمعالجاته الأدبية في إطار الجمالية التعبيرية أكثر منه خلق حالة تواصل عضوي في فضاء تشاركي فاعل يؤثر في القناعات الفكرية والجمالية للمتلقي ويعيد تشكيل الوعي الجمالي له. فموضوعة بمثل هذا الزخم الإنساني الكبير والامتداد الهائل عمودياً(زمنياً عبر التاريخ) وأفقياً(جغرافياً عبر مساحات الحرب والصراع) كان لها أن تتخذ ما يلائِمُها من البذخ الجمالي والعمق الإنساني بالطرح إلى ما وراء تفصيلات البيئي المحلي الضيق فمن الثابت تأريخياً أن واقع الانتهاك الجنسي والرق والاستغلال نتيجة المُعطى الجنسي هو أمرٌ متلازم وحتمي مع واقع الحرب والصراعات حيث يُقدم لنا التاريخ الحديث واقعة انتهاك واغتصاب أكثر من 5000,000 خمسة ملايين امرأة ألمانية ما بين 10 عشر سنوات و80 ثمانون سنة في أعقاب الحرب العالمية الثانية من قبل القوات الأميركية والسوفيتية والجيوش المتحالفة معها، وليس تلك الواقعة هي الوحيدة بالتاريخ، وليس الاسترقاق والاستعباد الجنسي بالواقع الذي يُمكن أن يَخفى عن الإنسان العادي في ظل الاحتلالات التي تعرضت لها المنطقة والحروب والصراعات الأهلية الداخلية الطائفية والعرقية التي استولدتها أصابع الشيطان في البلاد العربية, وليست جرائم داعش ومعاناة النزوح والهروب واللجوء إلى التــيــه ببعيد عن تلك البيئة المحلية التي افترضها المؤلف المخرج فضاءاً لمتنه الحكائي فكان عليه أن يفتح الثيمات التي يُصدرها المتن الحكائي على هذا الفضاء الإنساني الممتد وان يضرب بمنجزه  الإبداعي الرائع هذا عميقاً في الموقف الإنساني العالمي الشامل فما أروع أن نتخاطب بفضاءٍ عالمي نتصل بجسد الآخر ونكتشف عالميتنا فيه, لأننا كيان واحد وإنسان واحد بمواجهة عوامل الضعف والفناء والتفسخ الأخلاقي والانحراف القيمي الذي يهدد حضارة الإنسان الذي هو بناء الرحمن, فلذلك كان عليه أيضا أن يتصاعد بخطابه إلى هذا العالمي الشمولي.

 

المعالجات الإخراجية:

إن واحدً من أكبر المخاطر في الجمع ما بين التأليف والإخراج هو السقوط في واحدية الرؤية وبالتالي تكثيف نظام العرض بأنساقه على إنتاج خطابات متوازية تعيد تشكيل الوعي في العمل الفني ذاته حيث يتقيد المخرج المؤلف لا شعورياً وباستحكامات الرؤية الأدبية واشتراطات تجسيدها في خلق الشكل المسرحي طِبقاً لما تُصدرهُ مدونة النص وبالتالي تسطيح الشكل وعزلهِ عن إمكانية تحقيق العُمق الفلسفي له بفتح أبعاد الرؤية الإخراجية إلى ما وراء البناء النصي, فنجد في العرض (شواهد ليل) حضور تلك المخاطرة الجسيمة على الرغم من اجتهادات المخرج في إعادة فلسفة الشكل وتعميق خطاباته في نظام العرض المسرحي مُستغلاً انساق العرض وتشكُلاتها الجمالية حيث ان العرض يجسد الثيمات النصية ويَعرض للمسرَد الحكائي بلقاء (عزمي) المجهول النسب بفتاة الليل (رتيبة) المجهولة النسب والتي تحمل في بطنِها ثمرةُ الخطيئةِ الاجتماعية والعُرف وتبِعات الاستغلال الجنسي فيجري اللقاء بكراج حيث يعمل (عزمي) على تصليح سيارتها عند مساء بارد موحش تقطعت فيه الطرق فتوقف فيه السير والانتقال.

 

هكذا يجدون أنفُسهم عالقين في تلك اللحظة من الزمن على هامش المجتمع في الورشة المُدهنَة للتصليح, كلٌ يحمل عواقب خطيئة المجتمعكلٌ يبحث عن منَفذ يجري فيه بوح وتداعي وكأنه الإعلان اليائس عن الذات التي في طريقِها إلى الانتحار وهو ما ينتهي إليه فعلاً بحرق (عزمي) للكراج والسيارة والتي تضمه هو (ورتيبة) إذ نجد إن خطاب العرض كان تجسيداً حسياً للرؤية الأدبية المُنطلقة التي تطلُقها مُدونَة النص مُحددة بالتقابل الحواري ضمن فرضية الاتصال المغيب حيث إن الحوارات اتخذت طابع المنولوج والتداعي وحتى في حالة التقابل الحواري فليس هناك من تصعيد جدلي في الفكرة بالحوار ولا تطور في الموقف الدرامي مما يحيلنا إلى فرضية التواصل مع ذات غائبة يُمثل المقابل قريناً لها وتتعزز تلك الفرضية في المشهد الأخير حين تُطالب (رتيبة) (عزمي) أن يكون أباً لما في بطنِها بينما تكون هي أُماً له-ولعزمي وبتلك المفارقة التي تجعل من الشخصيات المتقابلة حوارياً قرائن لشخصيات غائبة تعيد وتصب في اتجاه تكثيف الخطاب النصي الذي يُصدره النص بشان ثيمة جزئية تتعلق بالموقف التتشريعي القانوني والاجتماعي المحلي لمجهولي النسب ولابناء اللذة العابرة.

 

فكان على المخرج أن يكتشف الفجوات في النص وان يبحث عن الطيات فيه ويفتحها بما يُعمق الشكل مسرحياً ويُثري خِطاب العرض إنسانياً بالامتداد والشمولية.

اما بالنسبة للمعالجة الإخراجية للمخرج(خليل نصيرات) كانت على الرغم من تجسيده للرؤية الإبداعية فنياً بالإنشاء السينوغرافي وبعث فضاء التشكيل الحركي البصري القائم على قيم جمالية متحركة بالإنشاء السينوغرافي المُحكم من خلال الحساب الدقيق للامتداد الزمني والمكاني للحركة والإضاءة والمحدودية الدقيقة لاستخدام اللون, فالمحدودية الدقيقة لاستخدام اللون كانت بقصد الحفاظ على فضاء الإنشاء والتشكيل السينوغرافي دون عوامل البذخ والزخرفة التي تُثقل العين بالمُتع والمسرات الحسية بما ينقل الذات المتلقية على سطوح وحدات المشهد دون التوقف عندها وربط ثيماتِها وخلق وإعادة تشكيل خطاب العرض بفعالية تلقي ناجعة ولكأن هدف المخرج كان واضحاً ودقيقاً ومحدداً بالضرب المباشر والكثيف الدقيق على وترٍ بعينهِ أفرزته الثيمات الُمرحلة من مدونة النص إلى خشبة العرض وهو الموقف الأخلاقي من هذه الأزمة الإنسانية أزمة مجهول النسب والمجتمع والعُرف والبيئة لذلك أعتمد على تشطير مساحة اللعب المسرحي إلى ثلاث مناطق يمين ويسار والمركز الوسط حيث في كل منها بقعة تَفرِزُها إضاءةً بيضاء حادة هي موقف الذات في بث إعلانِها الإنساني بما يخُص مَوقِفها من بيئتِها وعالمها الذات الواقعة على الاستباحة نتيجة المعطى الجنسي وإطاره المتمثل بعلاقة الوالدين المحرمة وما أنتجته من ثمرة مجهولة النسب. فالعرض هذا هو يَعرف جيداً أين يتوجه وكيف يتوجه والى أين يتوجه وعرضاً موجهاً بتمامهِ لغايةٍ بتمامِها ولكأنه إعلان للبيئة وللواقع إعلان قبل الإعلان الأخير لذات مستباحة قبل فعل انتحارِها فكل زُخرف بصري أو منظري حركي هو يأخذ مساحتهُ من الإدراك الحسي على حساب تلك الرسالة العنيفة ولكانه بيان حاد اللهجة صارم في كلماته يتوسل الآليات المسرحية بتحقيق غاياتهِ بوساطة التوظيف الدقيق والمحسوب في بناء المنظر بحضوريته الدقيقة وسيمتريته العالية والإضاءة حيث كان مجمل أداء الوحدة البصرية خاضعاً للجماليات التعبيرية بالحِدة والعنف والتوتر والحركة الأفقية لتراصف المشاهد المسرحية وهي حركة من مجموعة من اللوحات على نسيج تحتي رابط حضر من بداية العرض وحتى أداء الممثلين بالتحية وهو التقاسيم الوترية الشجية المفعمة بالأحاسيس والوجدان فكانت آلية الانتقال من مشهد إلى مشهد مع حفظ طاقة الزخم الدرامي بتوظيف هذا المحمول الموسيقي وبالتالي الحِفاظ على سريان الطاقة الدرامية في المَشاهد أو اللوحات المتتابعة دون حدوث هبوط بالإيقاع للعرض كما إن الزي بتحديده الايقوني جاء تكريسا للثيمات التي يطلقها المتن الحكائي في مدونة النص وتجسيداً لايقونية الشخصية (عزمي) وفتاة الليل (رتيبة) وبذلك نجد إن معالجات المخرج الفنية في بناء رؤيته الإخراجية والتي مثلت اتفاقاً مع رؤيته الأدبية بوصفه كمؤلف جاءت بضبط انساق العرض المسرحي وأنظمته العاملة من إضاءة ومنظر وزِي وماكياج وموسيقى ومؤثرات ضبطاً سيمترياً لتجسيد الرؤية الإبداعية التي شغلت المؤلف المخرج حيث إن ما كان يشغله هو أكبر من الحشد البالغ للمُتع والمسرات البصرية ما كان يشغله هو التجسيد السيمتري لخطاب صدمة أخلاقية موجهة إلى مجتمع يطلب استيقاظه ووضعهِ موضع المراجعة والحكم والتقويم النقدي لمسار العُرف والتشريع القيمي الأخلاقي,

 

ولكن تمنيت على المخرج بهذه الغاية التي يطرحها العرض إن يكون مُخرجا مُركِبا لِما وراء الثيمات النصية، وليس مجرد مُفسر بصري لها بالحوار وحركة الممثل، والذي تركهُ عالقاً في فضاء المدونة النصية، والبنِية اللغوية للمتن الحكائي للنص كون عملية الإخراج المسرحي هي جُهد استقرائي مُفَلسف، بوساطة المخرج صاحب الإرادة الإبداعية الخلاقة، لإعطاء الشكل على المسرح، بحيث كان عليه الانتقال بالأشياء من داخلِها وليس من خارجِها إلى فضاء التصور الخيالي الذي يحيل الواقع إلى واقع فني بسعة الواقع وأوسع، لإبراز الدور الفلسفي متجاوزاً المفهوم الحِرفي التنفيذي لمكونات النص الأدبية وعناصرهُ الدرامية هذا من جانب ومن جانبِ آخر كان على المؤلف المخرج أن يتجنب اللهجة المحلية في بناء النص فحتى لو أسلمنا جدلاً بان اللهجة المحلية كانت ضمن المعالجات الفنية للنص فمن غير المقبول جمالياً أن تستمر لأكثر من بضِع جُمل باللهجة المحلية الدارجة مما اضعف البناء اللغوي للعرض وضيع الكثير من الجماليات التي كانت ستتألق في حال استخدامه اللغة العربية الفصحى مع ايماضات اللهجة المحلية .

 

ونؤشر، على تجسيد خطاب العرض المسرحي، التألق الأدائي الذي اطلع بهِ كل من عزمي الفنان(ثامر خوالدة)  ورتيبة (سوزان البنوي) بتلك القدرة على المرونة العالية في التحول بالموقف من التداعي السيكولوجي إلى الاتصال المُغيب بالتقابل الحواري إلى التجسيد المباشر للموقف فنؤشر لديهم الجهوزية واللياقة الذهنية العالية واللياقة البدنية التي مكنتهم من تجسيد الدور، واستحضار العمق السيكولوجي للشخصية، وتأثيث الفضاء المسرحي بالعلامات الأدائية، بما يُغني الشكل المتداعي على خشبة المسرح بالتفصيلات الدقيقة بوضع مفردة اليومي البيئي المألوف ضمن تصميمية الخطاب الأدائي لمواجهه تلغرافية الانفعال السيكولوجي والبرقية العصبية التي شكلت سطح الكتلة الأدائية للممثل سواء عزمي(ثامر خوالدة) أو رتيبة (سوزان البنوي)  لذلك اثني عليهم وأوجه لهم التحية وكذلك أثني على المخرج  لالتزامه العميق وقُدرتهِ العالية على الضبط المنهجي السيمتري بتكريس أداوته الإخراجية في بعث وتوجيه خطاب رؤيته الإبداعية وأتمنى له كامل التوفيق ودوام التألق له ولممثليه.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock