حصرياً.. “المسرح نيوز” ينشر النص المسرحي: “هذيان آخر الليل” للكاتب د. هشام زين الدين ـ لبنان

المسرح نيوز ـ نصوص مسرحية ـ هذيان آخر الليل

ـ

تأليف: د. هشام زين الدين

لبنان ـ  2015

ــــــ

“هذيان آخر الليل”

· الشخصيات:
– الممثل
– الممثلة 1
– الممثلة 2
– البواب
· الزمان والمكان :
(تجري الأحداث على خشبة مسرح عربي في الزمن الحالي)
· الديكور:
( خشبة المسرح، تظهر الجدران الخلفية والجانبية للخشبة والستائر الداخلية وبعض الأدوات وبقايا الديكورات كما يكون المسرح في العادة في أوقات البروفات، عدد من بروجكتورات الإضاءة موزعة على الخشبة، مجموعة من الأزياء المسرحية الملونة بعضها مرمي على الأرض وبعضها الآخر معلق على حمالات مخصصة للأزياء موضوعة على يمين المسرح وعلى يساره وفي وسطه بشكل متوازن سينوغرافياً، دمى موزعة في أرجاء الخشبة بعضها مرمي على الأرض والبعض الآخر معلق على حمالات الأزياء أو على الكراسي، فوضى توحي بالإهمال واللاحياة)
(الإضاءة خفيفة، يدخل البواب إلى الخشبة من الخلف يحمل رزمة مفاتيح نسمع صريرها ويحمل حقيبة، يمشي بين الأشياء والأزياء يتمعن فيها وينتقي بعضها ويضعها في الحقيبة، ينظر إلى الأزياء والدمى يظهر عليه الانزعاج، يتأفف، يُخرج بعض الأشياء من الحقيبة ثم يعيد بعضها، تبدو عليه الحيرة)

البواب : (ينظر باتجاه الجمهور، يُخرج من جيبه ورقة ويقرأ) بمزيد من الأسى واللوعة… سأتلو على
مسامعكم نص القرار رقم 3456 الصادر عن الجهات العليا في الدولة… الموضوع… يقفل
مسرح البلد نهائياً… ويتم تحويله إلى بيت من بيوت الله… وتنتقل إدارته من وزارة الثقافة إلى
وزارة الأوقاف… يُبلغ هذا القرار إلى أصحاب العلاقة… هههههه… لم يحدد القرار أصحاب
العلاقة… ههههههه… أنا شخصياً لست من أصحاب العلاقة… أنا البوَّاب في هذا المسرح أعمل
هنا منذ 40 سنة… مرّ على هذه الخشبة عشرات بل مئات الفنانين والممثلين والجمهور…
وحدي الثابت هنا وهم المتحولون… نعم قرأت كتاب الثابت والمتحول… لم أكن أقرأ في
شبابي… لكن الخشبة وأهلها علموني القراءة… صرت مثقفاً… بوَّاب مثقف…ههههه … أشعر
برغبة شديدة في البكاء لكني لن أبكي… جئت لكي أودع هذا المكان ولكي أنقذ بعض الأشياء…
الأزياء … الدمى… لا أعرف … لن أتمكن من إنقاذها كلها فحقيبتي الكبيرة صغيرة جداً… غداً
صباحاً سوف ترمى كل هذه الذاكرة في براميل النفايات… أشعر برغبة بالبكاء ولكني لن أبكي..
الشخصيات … الممثلون… أراهم أمامي الآن… أشعر بحرارة وجودهم هنا… إنهم هنا…
(يخاطب الجمهور) هل تشعرون مثلي بوجودهم؟؟؟ لا بد أنني تأثرت بأجواء الخشبة وجنونها…
ها أنا أتكلم مع مقاعد فارغة… لكني أشعر بأنهم هنا… أحياء… هذه الشخصيات التي كانت تضج
بالحياة على الخشبة… هل يعقل أن تختفي من الوجود… هكذا… بهذه البساطة…
( من بين الأزياء والدمى ينهض الممثل، يمشي ببطء، يتأمل الخشبة وجدرانها بحسرة وحزن،
يبدو عليه القلق، يمشي باتجاه مقدمة الخشبة، يقف)
الممثل: هل من أحد هناك…؟
(البواب يتفاجأ وينظر الى الخلف حيث الممثل بعيون مندهشة ويبتعد الى جانب الخشبة خائفاً)
الممثل : أيتها الشخصيات… أيها الممثلون… هل أنتم هنا؟؟
(يمشي الممثل في أنحاء الخشبة يتفحصها يحمل بعض الازياء ثم يتركها، يحمل بعض الدمى ثم
يتركها)
الممثل : (يصرخ بصوت عال) هل من أحد هنا؟؟؟
البواب : ( بحذر) أحم أحم… نعم… أنا هنا…
الممثل : سمعت صرير مفاتيحك…
(البواب ينظر الى الممثل بدهشة وفرح مكبوت)
البواب : وأنا كنت أقول لنفسي أنني أشعر بوجود أحد ما هنا…
الممثل : نحن دائماً هنا… لا نترك الخشبة التي خلقنا عليها…
البواب : (صمت، ينظر الى الممثل بحيرة ودهشة)
الممثل : ظننت أنني وحدي هنا…
البواب : وأنا أيضاً…
الممثل : ما الذي جاء بك في آخر الليل…؟
البواب : جئت… للتأكد من الأقفال…
الممثل : تأكدت …؟ ألم تصدأ هذه الأقفال بعد؟؟
البواب : الأقفال عندنا لا تصدأ… نجددها دائماً…
الممثل : أعلم ذلك… وأشعر به… كلنا هنا نشعر بذلك…
البواب : لم أفهم…
الممثل : الخشبة مخيفة من دون ممثلين…
البواب : صحيح…
الممثل : تبدو كمدينة هجرها أهلها…
البواب : عذراً لكن… هل سمعتني أتكلم… يعني … أتلو القرار…؟
الممثل : نعم…لكننا لا نعترف بقرراتهم… نحن الأصيلون وهم المزيفون…
البواب : لكن… هذا ليس في الواقع…
الممثل : نعم صحيح …لكنه في الحقيقة…
البواب : أنا لا أفهم في أمور الفلسفة…
الممثل : ليست الفلسفة… بل الحياة يا عزيزي … هل كل شيء جاهز…؟
البواب : ماذا تقصد بجاهز أستاذ… ؟؟
الممثل : للبروفا… سنقوم بالتمارين … ككل ليلة…
البواب : لكن … المسرح مغلق…والمسرحيون وحده الله يعلم أين أصبحوا…
الممثل : إنها حياتنا يا رجل… نحن خلقنا للحياة على هذه الخشبة وليس للتعبئة في الصناديق والحقائب…
البواب : لكن… (يحاول أن يقول شيئاً ما لكنه لا يفعل)
الممثل : هل أنت معنا… أقصد هل ستشاهد البروفا؟؟
البواب : حقاً… لا أعرف ماذا أقول لك… لكن… ليس لدي مانع… استطيع انتظاركم حتى الصباح…
الممثل : عظيم … لكني لست على ما يرام الليلة… أشعر بضيق في صدري… ولا أعلم كيف ستكون
البروفا… قد نبدل في المشاهد… قد نضع البداية في مكان النهاية … والنهاية في مكان البداية…
البواب : وما علاقتي أنا بالبدايات والنهايات… أنا مواطن بسيط… لا دخل لي بهذه الأمور…
الممثل : هل يمكنك أن تضيء لي المكان هنا في الوسط؟
البواب : اكيد … (يبتعد الى خلف الستار الجانبي ويضيء وسط المسرح، يقف الممثل في بقعة الضوء )
هكذا جيد؟
الممثل : نعم نعم … جيد … شكراً …
(يأخذ الممثل فأساً من بين الأدوات الموجودة على الخشبة، يقف في وسط بقعة الضوء)
الممثل : رباه ! هل هذا يمكن…؟ هل أستطيع أن آخذ فأساً بيدي فأضرب به الرأس وأجعل الدماغ
يتناثر…؟ هل يمكن أن أسبح فى الدماء الحارة اللزجة…؟ سوف أرتعد، سوف أرتعد وأنا
مغطى بالدم… هل هذا ممكن…؟
البواب : (يصرخ) راسكولنيكوف، من رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي.
راسكولنيكوف… الجريمة والعقاب… دوستويفسكي… الجريمة والعقاب… الجريمة والعقاب… من
أهم وأجمل المسرحيات التي عرضت على هذه الخشبة… (يتوجه الى الممثل) لماذا تذكرتها
الآن…؟؟
الممثل : إنها أيقونة هذه الخشبة… أستذكرها دائماً لكي لا أنساها…
(يرى في خلفية المسرح حركة بين الأزياء والدمى ثم تخرج من بينها ممثلتان، يعود أدراجه الى
جانب المسرح وينظر بشغف)
الممثلة 1: تأخرنا قليلاً أستاذ… نعتذر…
الممثل : (ينتبه لوجودهما) أنا أنتظركما…؟
الممثلة1: الخشبة كئيبة هذه الليلة…
الممثل : تقصدين … كئيبة هذه الليلة أكثر.
الممثلة 1: نعم…
الممثلة 2: هل نعيد قراءة الأدوار؟ أم نبدأ على الفور…؟
الممثل : (يضع يده على قلبه ويبدو عليه التعب) لا أدري…على راحتكما… المهم بالنسبة لي هو
الاستمرار بالتمارين…
الممثلة 2 : أستاذ… يبدو عليك الإرهاق… أنت تتعرَّق… هل أنت بخير؟
الممثل : أنا بخير نعم … نعم… الجو حار … قد يكون هذا هو السبب…
الممثلة 1: يمكننا تأجيل البروفا إلى الغد…
الممثل : لا لا لا … أنا بخير … لكنني أفكر بإعادة النظر بكل مشاهد المسرحية…علينا دائماً إعادة النظر
بكل شيء…
الممثلة 1: كل المشاهد؟؟؟
الممثل : ليس بالمطلق … لكن يجب إعادة تركيبها بما يتلاءم مع هذا الجنون الذي يحيط بنا…
الممثلة 2 : لكن الوقت يداهمنا… بقي أسبوع واحد للافتتاح…
الممثل : أسبوع واحد… بأسبوع واحد تتغير أشياء كثيرة…تنهار دول وأنظمة ويموت المئات بل
الآلاف… قد نقتل نحن… قد يقتل الجمهور…قد يقصف هذا المسرح ويحترق… ونختفي عن
وجه هذه الأرض البائسة.
الممثلة 2 : لم أرك يائساً في حياتي كما أنت هذه الأيام…
الممثل : فلنبدأ … هل أنتما جاهزتان؟
الممثلة 1 : أي مشهد ؟
الممثل : الأول … راسكولنيكوف… الجريمة والعقاب… سأبدأ…(ينظر إلى الفأس الذي لا يزال في يده)
رباه … هل هذا يمكن؟ هل أستطيع أن آخذ فأساً بيدي فأضرب به الرأس وأجعل الدماغ يتناثر…؟
هل يمكن أن أسبح فى الدماء الحارة اللزجة…؟ سوف أرتعد، سوف أرتعد وأنا مغطى بالدم… هل
هذا ممكن؟
الممثلة 1 والممثلة 2 معاً: رباه … هل هذا يمكن؟ هل أستطيع أن آخذ فأساً بيدي فأضرب به الرأس وأجعل
الدماغ يتناثر…؟ هل يمكن أن أسبح فى الدماء الحارة اللزجة…؟ سوف أرتعد، سوف أرتعد وأنا
مغطى بالدم… هل هذا ممكن؟
الممثل : لا لا ليس بهذه البساطة… يجب أن يكون الإحساس بهذه الكلمات أعمق… الانفعال والتوتر
والرعب يجب أن ينتشر في أجواء الخشبة وأن يصل إلى الصالة… إلى كل مشاهد… يجب أن
يقتحم هذا الكابوس وعيه ولاوعيه…
الممثلة 1: هل نعيد ؟
الممثل : (بانفعال ) نعم… نعم … القتل شيء فظيع… فعل لا إنساني… حيواني… كيف يستطيع بني آدم
عاقل أن يحمل الفأس وينهال به على رأس إنسان آخر… كيف ؟؟؟
الممثلة 2: حسناً… سنعيد …
الممثل : (بانفعال وغضب ) نحن نُقتل… ليس الموضوع مجرد نص مسرحي… إنهم يقتلوننا… يقتلون كل
شيء جميل وحي في حياتنا…(بهدوء مفاجئ) عذراً…أعتذر بشدة…
الممثلة 2: عادي استاذ… لا داعي … سنعيد …
الممثل : حسناً حسناً…
الممثلة 1 والممثلة 2: (بانفعال وغضب وتوتر) رباه … هل هذا يمكن؟ هل أستطيع أن آخذ فأساً بيدي
فأضرب به الرأس وأجعل الدماغ يتناثر؟ هل يمكن أن أسبح فى الدماء الحارة اللزجة؟ سوف
أرتعد، سوف أرتعد وأنا مغطى بالدم… هل هذا ممكن؟
الممثل : أفضل … أفضل…(يبدو عليه الانزعاج والضيق) أكاد أختنق… لم أكن أتوقع يوماً أن هذه الخشبة
ستشهد هكذا حوار… لم يخطر في بالي يوماً أن هذا الموضوع سوف يصبح من أولويات حياتنا…
جنون… جنون…
الممثلة1: هل تشرب الماء؟؟
الممثل : لا لا شكراً… إنه ضغط الدم يزعجني قليلاً…
الممثلة 2: لا ليس ضغط الدم… بل ضغط الموت الذي يحيط بنا…هو أكبر من قدرتنا على التعبير عنه..
هل أصبت؟
الممثل : نعم… هذا صحيح…لكن الصمت عما يحصل هو شكل آخر للموت…هل أصبت؟
الممثلة1: ومن قال إننا سنصمت؟؟؟ نحن هنا لنقول كلمتنا… نريد أن نواجه هذا الشبح بسلاحنا الذي
نملكه…
الممثل : سلاحنا…؟!! تقصدين المسرح؟؟
الممثلة 1 : نعم …
الممثل : لن يبقى لنا مسرحاً يا صديقتي… لن يبقى…سيلتهم الموت كل شيء…
الممثلة 1 : بل سيبقى… وسنعرض المسرحية أمام الجمهور…
الممثل : نحن الممثلون، الفنانون… كائنات ضعيفة نحارب السيف بالكلمة والفكرة والإحساس… معادلة
غير متكافئة… إنه نوع من الجنون… ها؟؟؟ أليس كذلك؟؟؟
الممثلة1: نحن نفعل ما بوسعنا…
الممثل : وما نفعله لا يوقف القتل… أنظروا من حولكم… من مشرق بلادنا إلى مغربها… قتل قتل قتل قتل
قتل قتل… هل أوقفت مسرحية ما القتل في العراق، في ليبيا، في سوريا، في اليمن، في لبنان، في
فلسطين.؟؟؟ هذا الفأس سيحطم كل شيء… سيحطم كل شيء…
الممثلة1: (محاولة التهدئة وتبريد الجو المتشنج) هل نتابع التمارين على المشهد الأول…؟
الممثلة2: أرجوك اعطني الفأس…
الممثل : (ينظر إلى الفأس في يده) الفأس… أشعر برغبة شديدة في حمله…
الممثلة 2: قد يؤذيك… فهو حقيقي وحاد…
الممثل : نعم … كل شيء على هذه الخشبة وهمي أم اصطناعي… وحده هذا الفأس حقيقي…
الممثلة 2: أرجوك… اعطني الفأس ولنبدأ العمل…
الممثل : حسنا … (يعطها الفاس فتاخذه وتضعه على جانب الخشبة بالقرب منهم)
الممثلة 1: فلنترك هذا المشهد ولننتقل الى مشهد آخر…
الممثل : مشهد آخر غير الجريمة والعقاب… ؟؟ أي مشهد؟
الممثلة 2 : العروس ووالدتها.
البواب : لقد أثارت هذه المسرحية خلافاً بين المؤلف والمخرج حول العنوان… المخرج أراد تسميتها
“عرس الدم” والمؤلف رفض هذا الاسم لكي لا يظن الجمهور أنها لفريدريك غارسيا لوركا…
في بداية المسرحية …
الممثل : (يقاطعه) أقف أنا في مقدمة المسرح وأخاطب الجمهور صارخاً كالثور… أنظروا … هذه هي
العروس التي فقدت عريسها ووالدها وأخيها في ليلة عرسها… سقطت عليهم قذيفة… أحرقتهم…
دمرت بيتهم… انتشرت جثث الاطفال في المكان… نجت العروس ووالدتها بأعجوبة… هربت من
المجزرة بفستانها الابيض الملطخ بالدماء…ما كل هذا الإجرام… ما كل هذا الإجرام… ولأجل
من؟ لأجل ماذا…؟
الممثلة1: أستاذ…؟ هذا الكلام لم يكن وارداً في نص المسرحية…
الممثل : عندما عرضت المسرحية سابقاً لم يكن وارداً… لكن في المستقبل…
البواب : أي مستقبل يا أستاذ… أي مستقبل…؟
الممثل : أنا أعلم عمّا أتكلم… قلت في المستقبل سأضيفه إلى النص… سأتوجه إلى الجمهور وأنظر بعيون
المشاهدين فردأ فرداً… وسأصرخ بهم… ما كل هذا الإجرام… ما كل هذا الإجرام… ثم تبدأ أحداث
المسرحية بعد ذلك…
البواب : حسناً حسناً… حسبي الله ونعم الوكيل…
الممثلة2: عفواً استاذ… لكن… أليس هذا الكلام مباشراً…
الممثل : نعم… أكيد أنه مباشر… وماذا في ذلك…؟
الممثلة 2 : تعودنا أن نبتعد عن المباشرة… في المسرح…
الممثل : (بانفعال) فلتذهب كل قوانين المسرح والحياة والأرض إلى الجحيم… عن أية قوانين تتحدثين…؟؟؟
أية قوانين…؟؟
الممثلة 2: القوانين التي تحكم العلاقة مع الجمهور… جماليات طرح الأفكار والمواضيع…
الممثل : من يطبق القوانين في هذا العالم…؟؟ من يهتم للجماليات؟؟؟ يجب أن نشعر جميعاً بحجم الكارثة،
المأساة، الزلزال الذي زلزل كياننا وتاريخنا ومستقبلنا… مباشر أو غير مباشر لم يعد يهمني …
(بهدوء وتوتر) ما أريده الآن فقط… هو أن تبقى لنا هذه الخشبة… أن أقول هذا الكلام من على
هذه الخشبة التي سقيتها من عرقي ودمي طوال حياتي… وأنا خائف من أن تُسرق مني كما سُرقت
كل الأشياء الجميلة من حياتنا ومن أحلامنا.
( تتناول الممثلة1 من بين الأزياء المتناثرة على الخشبة فستان عرس أبيض ملطخ بالدماء،
ترتديه، وتتناول الممثلة 2 فستاناً أخر يصلح لدور أم العروس وترتديه)
البواب : في تلك الليلة كان يجلس في الصف الامامي مستشار رئيس الحكومة… رئيس الأمن العام… قائد
الشرطة… المحافظ ومديرة مكتبه… (يخاطب الممثل ) نظرت إليهم وقلت جملتك الشهيرة هذه…
الممثل : أنا خائف من أن تُسرق مني كما سُرقت كل الأشياء الجميلة من حياتنا ومن أحلامنا.
البواب : جن جنونهم… نهض المستشار وتبعه رئيس الأمن العام وقائد الشرطة والمحافظ… ورئيسة مكتبه
بالطبع… (يخاطب الممثل) ثم صرخت من جديد بصوت يشبه الرعد…
الممثل : أنا خائف من أن تُسرق مني كما سُرقت كل الأشياء الجميلة من حياتنا ومن أحلامنا.
البواب : عندها… خرج الجمهور… لم يبقى أحد في الصالة… أطفأ مشغل الإضاءة النور على المسرح
وخرج خوفاً من اتهامه بالارهاب… هههههههه… كان يركض باتجاه الباب الرئيسي للمسرح،
تعثر، وقع على الأرض ثم نهض بسرعة وتابع هروبه خوفاً من اتهامه بالارهاب… هههههههه
… أنا رأيته بنفسي … هههههه … مسكين… ألقي القبض عليه في اليوم التالي لانه لم يبلغ
السلطات عن نوايا الممثلين في توجيه الانتقاد للدولة…
الممثل : وألقي القبض علي وسُجنت وضُربت وأُهنت… وخرجت من السجن منتصراً…لأني لم أغير رأيي
وقناعاتي بهم هؤلاء المتخلفين…
البواب : عذراً لم أقصد تذكيرك بهذا الحدث… كان قاسياً فعلاً…
الممثل : (بانزعاج ) أجبرنا أنفسنا على الالتزام بقوانين المسرح والجمال… فيما قوانين الحياة تنتهك
وتدمر أمامنا… أيهما أهم ؟ المسرح أم الحياة…؟؟؟ أنا أتحدث عن هذا السرطان الخبيث الذي
نهش عقولنا وأجسادنا نهشاً منذ أربعين وخمسين سنة بل منذ مائة سنة…هذا الموت الذي افترسنا
كوحش كاسر… هل يمكن لعقل إنسان أن يفهم ما يجري حولنا الآن… إننا عاجزون عن الفهم…
هؤلاء السفلة الذين تكاثروا كالفطر السام في بلداننا وحكمونا بالرعب والقمع… لقد قتلوا فينا العقل
والجمال… هل يمكن أن يعيش الانسان بلا عقل وجمال…؟؟
البواب : إهدأ من فضلك… لا تنسى إنك… معرَّض لـ …
الممثل : نعم نعم… لدي أسباب كثيرة للموت… القلب الملعون، الضغط والسكر، حبي للخشبة… وحبي
للحياة…
البواب : (ينظر الى الخلف فيرى الممثلتان وقد ارتديتا فستانيهما ) العروس جاهزة …
الممثلة 2: هل نبدأ…؟
الممثل : موسيقى…
(تصدح موسيقى الفرح (العرس) تتمازج معها أصوات الرصاص بحسب إيقاعها كأن
الرصاص من ضمن المعزوفة، تمشي الممثلة 1 بدور العروس من وسط المسرح والممثلة 2
بدور والدتها ترقص حولها بانتشاء كالسكرانة وهي ترش عليها زهور اصطناعية، تتقدم
العروس الى الأمام بخطى بطيئة جداً وتصل إلى مقدمة المسرح، تتوقف الموسيقى)
الممثلة 1: أنا أحلام عبدلله … متزوجة من الشهيد أحمد عبدلله… أرملة الشهيد أحمد عبدلله… متزوجة من
الشهيد أحمد عبدلله…(تغص وتتوقف عن الكلام)
الممثلة 2: (تنظر اليها) أنظري إلي… هل تبكين…؟؟؟
الممثلة 1: لا…لا أبكي…
الممثلة 2:(بغضب مكبوت) لقد اتفقنا أن البكاء ممنوع…
الممثلة 1:(مستدركة الموقف) لا يا أمي… أقسم لك أنني لا أبكي… أنا فرحانة …
الممثلة2: لكنني رأيت دموعاً في عينيك…؟
الممثلة 1: إنها دموع الفرح …
الممثلة2: (بغضب وانفعال) لا… ليست دموع الفرح… أستطيع أن أميِّز بين دموع الفرح ودموع الحزن…
الممثلة 1: وما الفرق؟ كلها دموع…
الممثلة2: لا ليست كلها دموع… وأنا أعرف جيداً الفرق بينهما… هل تعرفين لماذا؟؟
الممثلة 1: (صمت)
الممثلة2:(ترفع صوتها) هل تعرفين؟
الممثلة 1: (صمت)
الممثلة2: (بتأثر وقهر) لأنني لم أذرف دمعة فرح في حياتي… لأننا جميعاً هنا… في هذه البقعة من
الأرض…وعلى هذه الخشبة… لم نعرف الفرح يوماً… لأن عيوننا لم تتعود أن تذرف دموع
الفرح…عيوننا خلقت لتذرف دموع الحزن والألم فقط.
الممثلة 1: أرجوك أمي لا تبدأي …
الممثلة2: أنا لا أبدأ…؟؟ أنا ؟؟؟ وماذا فعلت أنت للتو؟؟؟ ألم نتفق على أننا لن نبكي بعد اليوم…؟ وأنّنا
سنحبس الدمع تحت أجفاننا لأننا مللنا البكاء…
الممثلة 1: لكنني تعبة ومنهكة…ولم يعد لدي القدرة على التحمُّل…
الممثلة2: (بصرامة) لا لست منهكة… ممنوع علينا أن نتعب…يجب أن نكمل رقصة العرس…
الممثلة 1: رقصة العرس من دون العريس… ؟؟؟
الممثلة 2: رقصة العرس لكي نستمر بالرقص…
الممثلة 1: نرقص فوق دماء أغلى الناس على قلوبنا… نمشي بين أشلائهم… لماذا كل هذا الجنون؟؟؟
الممثلة 2: لكي لا نموت مرتين… مرة عندما يقتل أهلنا وأحبائنا ومرة عندما نستسلم لهذا القدر… ونحن
قررنا ألّا نستسلم لهذا القدر…سنرقص …
الممثلة 1: (تبكي) لكنني موجوعة… مقهورة… مدمرة… مشاهد المجزرة لا تزال تتراءى لي… لقد رأيت
أشلاء أبي وزوجي وأخي تتطاير أمامي… ولا تزال دمائهم على فستان عرسي… أنظري…
(بتأثر شديد) أنظري يا أمي… كيف سأرقص؟ ولماذا؟؟
الممثلة 2: (تجلس باستسلام وضعف، وتضمها الى صدرها وتمسد شعرها بحنان، تهدأ) آه يا صغيرتي…
يا حبيبتي…
الممثلة 1: أول مرة لبسْت فيها فستان العرس
الممثل : أول مرة لبسَت فيها فستان العرس…
الممثلة1: … لم أكن أعلم أنه ثقيل ومزعج … كنت أخاله خفيفاً متل ريشة طائرة في الهواء…
الممثل : مثل ريشة طائرة في الهواء…
الممثلة 1: عندما كنت أحلم به وأنا صغيرة… كنت أبكي من الفرح وأتخيل نفسي فراشة بيضاء تطير فوق
بستان زهور ملونة…
الممثل : فراشة بيضاء تطير فوق بستان زهور ملونة…
الممثلة1: أكتر من عشرين مرة ذهبت إلى الخياط… وأكتر من عشرين مرة غيرت وبدلت فيه، طولته،
قصرته، وسعته ثم ضيقته وشكشكته بالخرز…
الممثل : شكشكته بالخرز…
الممثلة1: عشرون مرة جربته أمام المرآة وفي كل مرة أغير شي ما فيه… لأنني كنت أحلم بأن أكون
عروساً حلوة…
الممثل : تحلم بان تكون عروس حلوة…
الممثلة1: طوال عمري وأنا أحلم بأن أكون عروساً حلوة… وكان يجب أن أكون عروساً
حلوة… أتذكرين … عندما لبست الفستان سألتك… ماما… هل أنا حلوة؟؟ قلت لي، يا عمري
انت مثل الملاك…لقد كنت في عينيك حلوة كالملاك… وعيناك لم تكذبا عليي في حياتي…
عيناك لم تعرفا الكذب أبداً… لم تعرفا إلا البكاء…لماذا يا أمي لماذا كل هذا البكاء ؟؟؟
الممثل : لماذا يا أمي كل هذا البكاء… لماذا؟
الممثلة2: نعم …لا أعرف… لماذا… كل هذا البكاء…
الممثلة 1: ( تختنق من البكاء المكبوت) أغمريني يا أمي… أغمريني… هل تتذكرين الأغنية التي
كنت تغنيها لي وأنا صغيرة… قبل أن أنام..
الممثلة 2: (تضمها وتمرِّر أصابع يدها بين خصلات شعرها وتغني)
نامي نامي يا زغيرة
تانغفى عالحصيرة…
نامي عالعتيمة…
تتنزاح الغيمة
ويصير عنا ضو جديد
يضوي عاكل الجيرة…
الممثل : مشهد حزين كئيب… قاتم كحياتنا العفنة اللعينة… لا أدري إذا كان يصلح للتقديم على المسرح…
لن نقدم هذا المشهد للناس…
الممثلة 1: لماذا …؟ ألم يكن الآداء جيداً؟؟
الممثل : لا لا لا … ليست المشكلة في الأداء … المشكلة في هذا السواد القاتم…هذا الاحباط… إنه الوجه
الآخر للموت… لقد اقتحم الموت عقولنا ولغتنا وأفكارنا… هذا هو الخطر الحقيقي الذي يجب علينا
مواجهته…أين الفأس…؟؟
البواب : لماذا الفأس أستاذ…؟
الممثل : لا أعلم… أحسست برغبة في حمل الفأس من جديد… أين هو ؟؟؟
البواب : (يتناول الفأس من الأرض ويعطيه للممثل )
الممثل : علينا مواجهتهم بالفأس…
الممثلة 1: (باستغراب شديد) كيف؟؟ بالفأس؟؟
البواب : استغفر الله العظيم …
الممثل : على هذه الخشبة قدمنا الأم شجاعة… قدمنا الكوميديا الالهية… يونيسكو وسارتر وبيكيت… قدمنا
روائع الأدب والفكر العالمي… الكوميديا والفودفيل… كان هذا المسرح يضج بالثورة والحياة…
كنا متاكدين من أن التغيير قادم… ونحو الأفضل بدون أي شك… هنا في هذه القاعة كانت تحصل
بعد المسرحيات نقاشات حادة تصل إلى حد التضارب بين اليسار واليمين…بين الاسلاميين
والليبراليين…( يتحول إلى ما يشبه الهذيان والهستيريا) ماذا جنينا من كل هذا الهراء…لا شيء…
الآن … عما نتكلم؟؟ عن الموت، عن الموت، عن الموت… يجب علينا قتل هذا الشبح… سأحمل
هذا الفأس وأفتش عليه في قصور الرؤساء والحكام… في الجامعات والمدارس والمساجد ووسائل
الاعلام… في كتب التاريخ والجغرافيا … في أقبية المخابرات النتنة وفي منتجعات أرباب
التجارة والمال الفاخرة… سأقتل هذا الشبح… قسماً بالله الواحد الذي يؤمن به جميع خلق الله
الأسوياء سأقتله… قسماً بالانبياء والقديسين وبرسالاتهم السماوية التي وجدت من أجل حياة
الانسان وليس من أجل موته… سأقتله… سأقتله.
(الممثلتان مذهولتان وهما تنظران الى الممثل الذي خرج عن طوره وبات كالمجنون)
الممثلة1: (بشيء من الحدة) هل تريدنا نحن الممثلين أن نحمل الفؤوس ونقتل…؟؟
الممثل : هذا واجبنا… يجب أن نساهم في المعركة…
الممثلة 1: (بحدة أكثر) كيف… هل نترك المسرح ونذهب الى ميادين المعركة… هل نتحول من فنانين إلى
مقاتلين؟ هل هكذا نقتل القتل وننتصر عليه ؟؟… هل المطلوب أن نتحول جميعاً إلى مشاركين
في هذه اللعبة الجهنمية…؟؟
الممثل : (بحدة وانفعال) إذا كان هذا هو الحل… لما لا… لقد قتل راسكولنيكوف في رواية الجريمة
والعقاب من أجل هدف شريف… حمل الفأس وضرب به رأس العجوز…
الممثلة 1: القتل في الرواية ليس كالقتل في الواقع… يمكنك أن تقتل في المسرح كما في الرواية… المهم أن
لا تقتل الانسان والفنان الذي فيك…(صمت قصير) عد إلى رشدك…
الممثل : (بهدوء وتوتر) هذيان… ما أقوله هذيان … نعم إنه الهذيان… أليس كذلك…؟
البواب : (بترقب وخوف) لدي اقتراح… أرجو أن تتم الموافقة عليه…أتمنى عليكم أن تعودوا إلى أماكنكم…
فأنا هنا وحدي…أحمل بيدي قراراً بإقفال المسرح وتحويله إلى بيت من بيوت الله عز وجل… ولن
أسمح لحفنة من الشخصيات المسرحية بأن تفقدني عقلي… أرجوك أستاذ إرم الفأس من يدك…فهو
لا يليق بك وبتاريخك…
الممثلة1: أستاذ… إرم الفأس… من فضلك…
الممثلة 2: إرميه أستاذ…
الممثل : لا تخافا… أنا بحالة جيدة… سنتابع… (يرمي الفأس) سنتابع…
الممثلة 1: أي مشهد؟
الممثل : لا يهم…أي مشهد تختارونه… أشعر بالخوف والرعب والضياع…أشعر بأنني قطعة حية من هذه
الخشبة… كأنها تنازع… كأني بها تبكي والدماء تسيل من جانبيها وتتسرب إلى صالة المشاهدين…
تبلل ثيابهم الأنيقة… تصبغ وجوههم بلونها الأحمر…أراهم مجموعة من الجثث المستسلمة التي لا
تحرك ساكناً…
الممثلة 1: مشهد الدم…
البواب : أرجوك… قد يفقده صوابه من جديد…
الممثلة 2: لا داعي… قد يزعجه…
الممثل : قاس… مشهد قاس… لا أدري لماذا كتبته… ومن أين أستلهمت أفكاره…
الممثلة1: من فيلم اميركي…
البواب : كنت تلعب فيه دور مخرج الافلام الذي يصور فيلماً عن الحرب في الشرق الاوسط.
الممثل : أذكر ذلك طبعاً… هل اللون الاحمر موجود؟
الممثلة 1: نعم…
الممثل : أنا ألعب دور المخرج…
الممثلة 1: نعم … أنت تبدأ…
البواب : يا رب أستر…
(يأخذ كل منهم مكانه على الخشبة ويبدأ المشهد )
الممثل : يجب أن يعبر وجهك أكثر عن حجم المأساة… عن الألم… عن المجزرة.. يجب أن يكون مغمساً
بالدم أكتر… أريد دماً أكتر… أريد دماً أكتر…؟؟
الممثلة1: ألا يكفي هذا الجرح النازف من جبيني…؟
الممثل : لا لا لا يكفي…
الممثلة : تريد دماً أكتر؟؟؟ موجود… يوجد الكثير منه …
( تسحب من شنطتها سكين وتبدأ بتشطيب نفسها وتمرغ وجهها ويديها بالدماء الاصطناعية
بشكل هيستيري)
الممثلة1: تريد دماً أكتر… ليس في هذه الأرض أرخص من دمائنا… ليس في هذه الأرض أرخص من
دمائنا…
الممثلة2: أحلام… ما هذا الجنون؟؟؟… توقفي توقفي…
البواب : أحلام… شخصية من مسرحية أخرى… هذه من مسرحية فيلم أكشن وتلك من مسرحية عرس
الدم… ما الذي يحصل…؟؟؟
الممثل : لا فرق بينهما… أشكال مختلفة لمضمون واحد…
الممثلة1: أنظري يا أمي هل ما زلت حلوة كالملاك؟؟؟ انظري إلي؟؟ هل ما زلت حلوة ؟؟؟
الممثلة2: أحلام يا حبيبتي أرجوك توقفي … يكفي…؟ هل تريدين العودة إلى البيت؟؟
الممثلة1: إلى البيت…عن أي بيت تتكلمين يا أمي؟؟ نحن… هل لدينا بيوت لكي نعود إليها…؟؟؟ البيت هو
المكان الذي يشعر فيه الانسان بالأمان… هل شعرنا يوماً بالأمان يا أمي… ؟؟؟ البيوت هناك خلف
الحدود… خلف البحار والمحيطات… حيث يعيش الناس بهدوء وسلام … يعودون من أشغالهم…
يتناولون العشاء… يشربون قهوتهم… يمارسون الرياضة… يغنون لصغارهم أغنيات ما قبل
النوم… يقبلونهم على جباههم ويغطونهم بأغطية تحميهم من برد الليل… ويجلسون لمشاهدة
التلفزيون… فيتفرجون على برامج الحيوانات التي تفترس بعضها البعض وعلينا نحن أيضاً كيف
نفترس بعضنا البعض… فيتحرك فيهم الشعور الانساني والشفقة على شعوب العالم الثالث …
حرام يا أمي… فإذا لم يشاهدوا صور الدم والدمار والحرب والقتل فكيف سيشعروا بالنعيم الذي
ينعمون به… وبالسلام والأمان والرقي والحضارة… يتفرجون علينا كأننا في حلبة مصارعة
الثيران… بعيونهم وأفكارهم يغرسون خناجرهم في ظهورنا… ونحن الثيران المساكين نتحمل
الألم والضرب بالسوط والجروح الدامية ونخبط رؤوسنا بالارض من القهر… والجمهور
المتطور المتحضر بكامل سعادته وأناقته يصفق للابطال الذين يتمكنون من امتطائنا لأكثر وقت
ممكن… الجمهور يصفق ونحن نخبط رؤوسنا في الأرض من القهر… الجمهور يصفق ونحن
ننزف… الجمهور يصفق ونحن نموت … هل تريد المزيد من الدم…؟ هل يوجد في هذا العالم
ألم يفوق هذا الألم…؟
الممثلة2: انتهى المشهد…
(صمت)
الممثل : نعم… يجب أن ينتهي… أنا حزين… تجتاحني رغبة في الاختفاء عن وجه هذه الارض اللعينة…
(صمت)
البواب : الصمت مرعب… لما هذا الصمت…؟ فليتكلم أحد منكم…
الممثل : هنا في هذا المكان… كنت ألعب دور أسير محرر من السجون الاسرائيلية… يقرِّر من جديد أن
ينفذ عملية عسكرية ضد الاحتلال… هل تعلمون لماذا؟؟
(صمت)
الممثل: لأنه يريد العودة إلى سجونهم… تخيلوا… لأنه وجد نفسه في سجن أكثر قسوة… تخيلوا… وقفت هنا
في هذا المكان ونظرت إلى وزير كان يجلس في الصف الأمامي يحمل جنسية أخرى يهرب إليها
كلما أزعجته رائحة الشعب… نظرت في عينيه وقلت… تفو… تفو… تفو… في اليوم الثاني حصل
احتكاك كهربائي في سيارتي واحترقت وفيها كل أوراقي وكتبي ومسرحياتي… (يضحك)
الممثلة 1: احتكاك كهربائي … (تضحك)
الممثلة 2 : (تضحك بهدوء)
(يضحك الجميع بشكل متصاعد يدل على توترهم النفسي الشديد)
الممثل : رباه… ما أجمل الضحك… (كأنه ينهي ضحكه المصطنع) أريد أن أرقص… هل تريدان الرقص
معي…؟؟؟
الممثلة 1: نرقص؟
البواب : نعم نرقص… نرقص… هكذا … (يحرك اطرافه بشكل مضحك)
الممثلة 2 : (تضحك باستغراب)
البواب : هيا هيا … فلنرقص…
الممثلة 1: هكذا من دون موسيقى ؟؟؟
الممثل : موسيقى …
(نسمع موسيقى شرقية مناسبة للرقص الشرقي ويرقص الأربعة لوقت قصير تتحول خلاله
تعابير وجوههم من الابتسامات العريضة المصطنعة في البداية الى الجدية الحيادية في وسط
الرقص ثم الى الوجوه العابسة في النهاية، تتوقف الموسيقى، يتابع الثلاثة الرقص بشكل آلي
من دون فرح كأن أجسادهم ترقص بلا حياة).
البواب : من فضلكم…
(الممثلون الثلاثة يتابعون الرقص كأنهم في حالة رقص صوفي لكن حركاتهم عشوائية)
البواب : اسمحوا لي … أرجو أن تستمعوا إلي…
(يتوقف الممثل عن الرقص، ثم تتبعه الممثلتان ويستمع الجميع الى البواب)
البواب : سيداتي سادتي…حضرات الشخصيات المأساوية… وبمناسبة قرار إقفال المسرح وتحويله الى
بيت من بيوت الله عز وجل… يسعدني أن أعرض عليكم بعض الحلول المتبقية أمامكم… الحل
الأول … يأتي غداً في الصباح عامل التنظيفات ويرميكم في مستوعب النفايات بعد تمزيقكم
وتكسيركم … الحل الثاني… التحول من فنانين وممثلين ومبدعين إلى عاملين في الحراسة في
نفس المكان… بشرط الالتزام بما يفرضه عليكم العمل في بيوت الله عز وجل… الحل الثالث …
أضعكم في حقيبتي وأخرجكم من هنا وأرسلكم الى أوروبا حيث يوجد متاحف للشخصيات
المسرحية والدمى… لقد جمعت صوركم على هذه الخشبة منذ بداياتكم وحتى اليوم… إنها هنا في
الحقيبة… نرسل الصور معكم… والمتاحف الأوروبية كما تعلمون … مكيفة ونظيفة ومريحة…
تحلم بها كل شخصيات المسرح من العالم الثالث.
الممثل : حقيبة السفر لا تتسع لكل الشخصيات المسرحية التي شهدتها هذه الخشبة…
الممثلة2: وقد يفرغ منها الهواء ونختنق في البحر خلال رحلة الهروب…
الممثلة 1: قلت أن الصور هنا في الحقيبة؟؟؟
البواب : نعم… ذاكرة هذا المسرح كلها هنا…أحاول إنقاذها من الموت.
الممثلة 1: هل يمكن أن نراها…؟
البواب : طبعاً هي لكم… (يعطيهما الحقيبة)
الممثلة1: (تفتح الحقيبة تاخذ منها صورة ) هذه الصورة عندما كان عمري يوماً واحداً، أنا وأنت في
المستشفى، كنت سعيدة، كنتِ مفعمة بالحب والسعادة والأمل والأمومة، هل ترين بريق الحلم
والفرح في عينيك. (تعطيها الصورة)
الممثلة 2: (بتعابير جادة وقاسية تأخذ الصورة تنظر فيها وترميها الى الخلف)
الممثلة1: (تمسك صورة ثانية) هذه عندما كان عمري ثلاث سنوات، أول دخولي إلى المدرسة، أرتدي
المريول وأحمل الشنطة، وهنا أيضاً الدمعة في عينيك (تعطيها الصورة)
الممثلة 2: (تأخذ الصورة، تنظر اليها وترميها إلى الخلف)
الممثلة 1:(تأخذ صورة ثالثة) هذه عندما تخرجت من المدرسة.(تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة 1:(تاخذ صورة رابعة) هذه عندما تخرجت من الجامعة، (تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة 1: ( تأخذ صورة أخرى) هذه عندما انتقلنا إلى البيت الجديد أنا وأنت وأبي وأخواتي…(تعطيها
الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة 1: وهذه من عرس أخي (تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة 1: وهذه عندما رجع أبي من السفر(تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة 1: وهذه عندما دخل أبي الى السجن (تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة 1: وهذه عندما خرج أبي من السجن (تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة 1: وهذه أول صورة لي… مع خطيبي (تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة1: وهذه ثاني صورة لي أنا وخطيبي (تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة 1: وثالث صورة أنا وخطيبي(تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة1: ورابع صورة مع خطيبي (تعطيها الصورة)
الممثلة 2:(لا تنظر الى الصورة وترميها فورا الى الخلف)
الممثلة1: وخامس صورة (ترميها بنفسها الى الخلف) وسادس صورة(ترميها) وسابع صورة وثامن
صورة وتاسع وعاشر وخمسين صورة ومية صورة وميتين وثلاتمية صورة أنا وخطيبي…
( تزحف الممثلة 1 على ركبتيها وتدور خلف الممثلة 2 وتلملم بهض الصور تحملهم بيديها
عشوائياً ثم تعود إليها ) أنظري يا أمي… أنظري… هذه صورنا…على الطريق وفي الساحة
وفي القهوة وقرب الجامعة وعند عمتي وعند خالتي وعند خالي وفي بيت جدي… هل تتسع
حقيبة السفر لكل هذه الذكريات…؟
الممثلة 2: هل انتهيت… (بقسوة وحزم) لملمي كل الصور… (العروس تقف متفاجأة) قلت لك لملمي كل
الصور…(تصرخ بها بعنف) لملمي الصور قلت لك لملمي كل الصور… ( تبدأ بلملمة الصور
بنفسها وتمزيقها قطعا صغيرة وهي تصرخ بهستيريا) لملميها… قلت لك لملميها (عندما تنتهي
من تمزيقها) خلص… لم يتبقى لنا أي صور…
الممثلة 1: إذاً… سنترك خشبتنا ونسافر…
الممثل : عندما يخرج السمك من الماء يموت… والشخصية المسرحية المولودة من رحم الابداع والفكر
والفن والجمال مكانها المسرح وليس أي مكان آخر… قمة المأساة أن يكون الحل الوحيد المتاح
أمامك للنجاة هو الموت غرقاً في البحر… وقمة البطولة أن تبقى حيث أنت…
الممثلة2: لكنك لن تبقى حيث أنت…
الممثلة 1: سنركب قارباً صغيراً نتجه به شمالاً ونغرق في بحور النسيان … ولن نصل…
الممثلة2 : احتمال الموت أفضل الموت المحتم…أنسيتم أننا محكومون بالأمل…
الممثل : (غاضباً) لا لا لا …. لسنا محكومون بهذا الأمل… ليس بهذا الأمل…
الممثلة2: الأمل بالحياة … أليس كذلك؟
الممثل : أكيد … الامل بالحياة وليس بالموت …
الممثلة1: والحياة هناك… خلف البحار… اعترف يا صديقي واستاذي… اعترف…
الممثل : لن أعترف…
الممثلة2: برفضك الاعتراف أنت تدرك أنك تعترف …
الممثلة 1: فلنركب البحر ولنأخذ صورنا ونغرق…قد يأكلنا السمك… لكن رياح البحار ستأخذ الصور إلى
شواطىء جديدة… هناك سترتاح ذكرياتنا وتموت بعد وقت طويل بهدوء وبكرامة…
الممثل : (وشعورالأسى يتفجر من عينيه) نعم … الكرامة … الكرامة…
البواب : بعد قليل سيبزغ الفجر…
الممثل : (بغضب) الفجر… أي فجر ؟؟
البواب : الفجر الذي يبزغ كل يوم…
الممثل : لكنه لن يكون الفجر الذي تعودنا عليه في كل يوم…
البواب : نعم لن يكون… عليكم أن تتخذوا القرار؟؟؟
الممثل : نعم … القرار… بين الموت والموت…
البواب : بعد قليل سيصل عمال التنظيفات…
(صمت، الممثلون الثلاثة يتأملون الخشبة وما عليها)
البواب : وبعدهم سيصل مهندسو الكهرباء والعمارة والديكور… لكي يزيلوا آثار المسرح نهائياً… وليبدأوا
بالزخرفة.
(صمت، يتابع الممثلون النظر الى الخشبة وما عليها )
البواب : وقد بدأت المساعدات تصل لإعادة البناء… أفخر أنواع السجاد العجمي والقوقازي… متخصصون
بالزخرفة من المغرب العربي… معماريون من مصر والخليج… التكييف ياباني وأجهزة الصوت
والانارة أميركية…
(صمت، الممثلون يودعون الخشبة، يلمسون الاشياء والأزياء والدمى، يشمون رائحتها،
يتأملون بها)
البواب : الاتحاد الأوروبي قدَّم نصف مليون يورو لتزفيت الطرقات المؤدية إلى المكان… وفنزويللا…
الممثل : يكفي… يكفي …
البواب : إنها الحقيقة… لا تدفنوا رؤوسكم في الرمال…
الممثلة 1: سأركب البحر وأموت مع أسماك البحار…
الممثلة 2: سأركب البحر وسأصل إلى شواطئ الشمس… وأموت هناك بمرض الحنين…
الممثل : لن أرحل عن هذه الخشبة… ولن أموت… أنا لن أموت… (يصرخ) انا لن أموت…لن أموت …
لن أموت…

(يسقط الممثل على الأرض ويلفظ أنفاسه الأخيرة، يقترب البواب منه، يحمله ويجره إلى الخلف ويضعه على كرسي أو طاولة صغيرة موجودة من بين الأدوات على الخشبة، بحيث يبدو كدمية مطروحة على الكرسي من دون حياة، تعود الممثلة 1 والممثلة 2 إلى موقعيهما الأساسييين الذين انطلقتا منه في بداية المسرحية، يقترب البواب من جانب المسرح، يطفئ النور الذي أشعله في بداية المسرحية فتنطفئ الإضاءة عن المسرح باستثناء إضاءة خفيفة كتلك التي دخل عليها في بداية المسرحية، نسمع صوت صرير المفاتيح ويخرج بعد أن يقفل الباب الرئيسي الذي يصدر عنه صوت قوي كالرعد أو الزلزال).

(ستار النهاية)

تأليف : د. هشام زين الدين
بيروت – 2015