حوار في مساحة 25 سم بين الزيدى و شوان جلال (الجزء الثاني)
المسرح نيوز ـ القاهرة| حمه سوار عزيز
ـ
حوار في مساحة 25 سم بين الزيدى و شوان جلال (الجزء الثاني)
حمه سوار عزيز
أين الكينونة و أين هو العدم؟
أضافة الى ما سبق في الجزء الاول من هذا المقال، هناك نقطه مهمه جدا أبهرنى بها المبدع على عبدالنبي الزيدى، وهي القصدية التى كتب بها الكاتب المسرحية في شقيها الظاهرى و المضمر، السطحي و العميق، في الجزء الاول أشرت الى مجموعة من تأويلات رمزية التي حملتها النص في الاشارة الى الواقع السياسي الراهن في العراق و الوطن العربي والمنطقة والكيفية التي صور بها الكاتب هذه السلطات من خلال فندق متهاوٍ لا يمتلك الادارة، والادارة فيه ليست مسؤولة عن صقوط (سقوط) الطابوق أو أنهيار الفندق، هذه بعض من تأويلات أو القراءات السيمولوجية التى يمكن أن نقرأ من خلالها الثيمة السياسية للمسرحية،
وهذه الثيمة مقصودة بالتأكيد، لكن هناك قصديه أخرى عمل عليها الكاتب بشكل واضح من خلال القراءة السطحية لما هو ظاهر و متجلى في المسرحية وهي مسألة اللاجئين و الفرار من الوطن الى أوروبا باعتبارها جنة الخلاص، الكاتب من خلال هذه المسرحية يفضح أوروبا التي تدعي حقوق الانسان و المساواة و حق الحياة والامان المشروع لكل فرد، فيذهب الى داخل ذلك التفكير و التعامل الجروتيسكى لأوروبا مع اللاجئين، حيث تسخر من قصصهم الحقيقية حين يتعرضون للقتل و الذبح والابادة وتلك البيوت التي تخرّ على رؤوسهم و جثامينهم، تلك البيوت التي تحمل جدرانها ذكرياتهم وماضيهم وحاضرهم، فأوروبا ليست معنية بهذا الامر ولا يتحرك لها جفن من جراء تلك المأساة، لأن الانسان كما هو كائن في الشرق بهويته و انتمائه و قيمه و تقاليده، مرفوض و منبوذ وغير مرحب في أوروبا حتى لو إنهار الكون كله على رأسه، الذى يهم اوروبا ليس الانسان بحد ذاته ولا حقوقه المسلوبة أو حرياته المستلبة، انما هناك مسألة واحده فقط يمكن أن تنظر من خلاله اوروبا اليك كأنسان، وهي أن تكون حريتك مقيده في المسائل الجنسية الشاذة، حين يحرم عليك حق ممارسة اللواطة والانحراف، فاذا كنت (منيوكا أو منحرفا) فتحت لك أوروبا ابوابها لكى تدافع عن حريتك في تلك الممارسات الشاذة والمنحرفة، ولكن ان كنت معرضا للقتل والذبح والتهجير والتدمير، فذلك هو شأنك و انت وحدك ستواجه مصيرك.
هذه الازدواجية في التعامل مع الانسان يبرز لنا الكذبة الكبيرة التي تتحدث عن حوار الحضارات و التعايش مع الاخر المختلف، فأوروبا لا يتيح لك أن تعيش على أرضها الا بعد أن تتنازل عن ثقافتك و هويتك و انسانيتك و كرامتك بمفهومها الشرقي، لانك اذا اردت أن تجد الجنة المنشودة، يجب أن ترتكب جنح أدم و تأكل من الثمرة المحرمة و تتنازل عن هويتك و انتمائك وتذوب في داخل تلك ثقافة جديدة التي تستنسخ منك فردا أوروبيا مُقلدا و يفرض عليك ان تكون مثلهم أو على أقل تقدير مشابهاً لهم.
جانب أخر عمل عليه المؤلف بذكاء، مسألة رسم و بناء شخصيات المسرحية، فهناك شخصيتان رئيسيتان في المسرحية، الشخصية الاولى متمثلة بشخصيه أبو درب وما تمثله هذه الشخصية من تأويلات سياسية و اجتماعية و ثقافية و دينية، هذه الشخصية جامعة لمجموعه من سلطات مختلفة تعمل على قتل الكينونة الثقافية و الانسانية للفرد و تسلب منه جميع ما يمتلك من القيم و المبادئ و المعتقدات التي تجعل منه انسانا ذو هوية و صورة واضحة ومعينة، فهو كالسلطة السياسية تهدم عليه البيوت و الجدران و تقتل فيه الذكريات والاحلام، وكسلطة اجتماعية و ثقافية تجرده من الانتماء والكينونة و العائلة والوطن، وكسلطة دينية تصدر اليه الرذيلة في ثوب الفضيلة وتحاول أن تجعله يدفع من أجل أن يفقد كرامته وعزة نفسه و يترك سجادة صلاته وانتماءه لعقيدته لكى يتحوّل الى فرد ساقط أخلاقيا وفق ثقافته و عقيدته وبذلك تضربه في المقتل و تجرده من انسانيته.
الشخصية الثانية متمثلة بشخصية الشاب الاول والشاب الثاني، وفي الواقع هما ليسا بشخصيتين انما هي شخصية واحدة يمكن أن تتمثل في جسدين أو ثلاث أو عشرات أو مئات أو الاف وملايين الاجساد، فهذه الشخصية تمثل الجزء المقهور من الوطن، الجزء الاكبر الذى يرضخ تحت وطأة الظلم والاستبداد التي تمارسه عليه الجزء الاخر المتمثل بشخصية أبو درب، لذلك نرى نفس التفكير، نفس الذكريات، نفس الميول، فالكل أتحد هنا في الواحد والواحد أصبح يمثل الكل، لذلك نراهم عندما يتصارعون لا أحد منهم ينتصر على الاخر، حتى في الغرفة نرى فقط سرير واحد، لأن الشاب الاول ما هو الا الشاب الثاني، والثاني نسخه مكرره للشاب الاول، حتى عندما يتفرقون في نهاية المسرحية بأن يخرج الشاب الثاني ويبقى الشاب الاول بالغرفة، المسألة كلها لا تتجاوز الحيرة و الضياع بين ما يقع فيه الانسان من التفكير باتجاهين مختلفين، تفكير بأن يبقى كما هو بهويته و كينونته و يواجه مصيره الاسود الغامض، أو أن يتنازل عن هويته و معتقداته و كينونته الثقافية لكى يدخل الجنة المزعومة، وهذا الصراع الداخلي يقود الشخصية الى الجملة الشكسبيرية المعروفة، أكون أو لا اكون ذلك هو المسألة، ولكن في هذه المسرحية كيف يمكن لهذه الشخصية أن يكون، أو أن لا يكون، من دون أن يميز بين الكينونة والعدم.أت
25 سم على خشبة العرض:
حاول المخرج شوان جلال ان يركز على الخطاب السينوغرافي لكى يوازى بين الجانب المسموع و المرئي في العرض و حرص على أن يخرج لنا بصوره مجسده للفندق الذى تدور فيه الاحداث من خلال ديكور عملاق يمثل الصورة المتكسرة والمشتتة لواقع المجتمع الذى تدور فيه الاحداث، فكان الديكور عبارة عن بناية كبيرة و عملاقة أخذت حيز كبير من فضاء المسرح و المقدمة العلوية للقاعة، بحيث أشعرنا كمتلقين بأننا نعيش تحت سقف هذا الفندق الهرم المتشرخ الذى قد ينهار في اي لحظة على رؤوسنا و ياخذ معه ذكرياتنا التى هي رمز كينونتنا وهويتنا الانسانية، لذلك أستطاع المخرج أن يصور لنا الاجواء النفسية للعرض من خلال هذا الديكور الواقف والجامد الذى مثل الصورة الثابتة في الخطاب السينوغرافي، ولكن عاب على العرض بأنه أكتفى بهذه الصورة الثابتة لرسم الخطاب السينوغرافي و لم يمده من حيث الحركة و التشكيلات و الصور المسرحية، بصورة أخرى موازية للصورة الثابتة و هي رسم الخطاب السينوغرافي الحركي للعرض من خلال جسد الممثل موازيا للعناصر الاخرى السينوغرافيه الموجوده بالعرض مثل الاناره و الموسيقى و المؤثرات الصوتية و البصرية والإكسسوارات و قطع الديكور الثابتة و المتحركة لكى يخلق لنا صوره مرئيه و متحركة موازية لصوره الثابتة التى اكتسحت فضاء العرض، فترك ممثليه وسط فضاء مسرحي مرسوم بدقه متناهي، ولكنه كان فضاءا واقفا معزولا عن الممثل وما يدور فيه من الاحداث الانيه في العرض، فترك ممثليه وسط العزله دون أن يستطيع ان يمدهم من هذا الفضاء بما يسهل عليهم المهم ويقربهم الى الحال المثلى لرسم فورمة و صورة العرض.
حتى الدمى التى مثلت ستة عرائس (أربعة منهم بيضاء و أثنان سوداء) في المشهد الاخير، لم يستفد منه الممثل بالشكل المطلوب بل أكثر من ذلك لم يتجاوز وجود هذه الدمى داخل المشهد، الحال الدرامي الميتة بأن يتحول الى كائنات حي في العرض تمثل جزء من الخطاب المرئى والحركى للعرض، أكتفى المخرج في هذا المشهد بأن يوزع دمى داخل الفضاء دون أن يحركهم دراميا من خلال الممثل والخطاب السينوغرافي للعرض، فكانت الدمى في عزلة مما يدور داخل نسق العرض، الاّ انها ساهمت فقط في تغير شكل الغرفة عندما تحوّل الشباب من غرفتهم الى غرفة شخصية ابو درب، أعتقد ان وجود هذه الدمى بهذه السلبية في التوظيف لم تخدم العرض أطلاقا الا في لحظات الاولى من المشهد عندما ينبهر المتلقى بوجودهم و لكن يصيبه الاحباط عندما يرى هذه الدمى تبقى عناصر سلبية ولاتدخل في سياق خطاب السينوغرافي للعرض وتبقى معزولة عما يجرى حولها.
ملاحظة أخرى مهمة موجوده بالنص تغاضى عنها المخرج وهي الفرق بين غرفتى الشباب وابو درب، غرفة أبو درب غرفه نظيفه وغرفه الشباب غرفه متعفنة ووسخة في النص، هذه الملاحظة مفيدة جدا في رسم التناقض الموجود بالمجتمع و الصورة الهزلية لمجتمعاتنا، فالامكنة التي تمارس فيها الرذيلة و المنكرات دائما ما يظهر للسطح بصورة مخادعة كأمكنة نظيفة وجميلة، وهذا هو التسويق المزيف التى تمارسه السلطات على الفرد بأن تسوق له القبح في صورة الجمال و تصدر اليه الرذيلة والبشاعة في هيئة الخير والفضيلة، على العكس من الغرفة الاولى المليئة بالمبادئ و العقيدة و القيم و لكن ظاهريا تبدو كأنها وسخة ومتعفنة، هذا التناقض في رسم صورة وفضاء النص، كان يمكن أن يفيد العرض لانها تأتي ضمن السياق العام للنص التى عملت على هذا المنوال وبرزت لنا الصورة الجروتيسكية لمأساة المجتمع الذى يجبر الانسان أن يمارس الرذيله لكى يستعيد الحياة ولكن بالمقابل يفقد أنسانيته و كينونته.
الملاحظة الاخيرة على تعامل المخرج مع النص مرتبط بنهاية المسرحية، في النص ينقسم الشابان على انفسهم ازاء التعامل مع الحدث حيث يخرج الشاب الثانى ويبقى الشاب الاول بالغرفة، وهذا يتأكد من خلال المشهد الاخير في النص الذى هو مشهد مكرر للمشهد الاول عندما يظهر شاب ثالث ورابع لكى يدخلوا غرفة ابو درب، ولكن في العرض اراد المخرج بأن يخرج العرض من هذه البقعة و يسحبه الى المساحة المرجوة جماهيريا وهي مساحة الثورية و التمرد على هذا الواقع من خلال رفض الشابان لممارسة أبو درب و خروجهم من الغرفة، أكثر من هذا ان الشاب الاول يخرج من الغرفة وهو يردد شعارات وهتافات منددة بهذا الواقع المرير الذى يعيشه الفرد في ظل هذه السلطات، يخرج وهو يلعن جميع من تسببوا بهذا الوضع المؤلم و يتفاعل معه الجمهور بتصفيقات حارة تملأ القاعة.
طبعا يحق لكل مخرج بأن يقود العرض الى ما يرجوه و يصبوا اليه، ولكن بالنسبة الى هذه الشعارات والهتافات لم تفيد العرض ولم ترفع من وتيرته الدرامية والابداعية، لأن الزيدى بطبيعة الحال كاتب يتجنب الشعارات والخطابات المباشرة، فالقيمة الفنية لهذه المسرحية تجعلها في منأى من هذه الكلمات والجمل الحماسية التى أمتلأ بها مسرحنا وتعمل على تنويم المتلقى مغناطيسيا لكى لا يتفاعل عقلانيا مع الصورة الحقيقية التي تصدره العرض اليه و يقع في متاهة الخطاب الحماسي الانفعالى المؤقت.
التمثيل كان عنصرا مهما في رسم الصورة الابداعية للعرض و استطاع الممثلان (بيباك محمد و راويز كريم ) الذين أدا دور الشابان ، ان يرفعوا من وتيره العرض من خلال أحاسيس صادقه و حركات منسقة و تفاعل حسي و جمالي مع الاخر ومع المتلقي و كانوا بحق نموذج للشباب الذى يعاني معاناة كارثيه وهما لاحول ولا قوة لهما، قد حاولا كثيرا بأن يمسكوا بايقاع العرض في غياب الحركة السينوغرافية المتوقفة للعرض والذى أشرت اليه سابقا، ونجحوا كثيرا بالرغم من أن المخرج قد تركهم وسط هذا السينوغرافيا الضخم و الجامد الذى لم يساعدهم في بلورة الحالات الدرامية المختلفة، ولكن الممثل (محمد قهرمان) الذى مثل دور ابو درب كان بعيدا نوعا ما عن سياق الشخصية والعرض، ولم يستطع أن يواكب الممثلين الاخرين في المشهد الاخير، لهذا رأينا بأن الايقاع قد هبط في المشهد الاخير على العكس من التوقعات، لان المشهد الاخير هو ذروة المسرحية و كان لابد أن يرتفع فيه الايقاع لانه كان مشهدا حاسما، ولكن أداء الممثل الثالث لم يكن في السياق المطلوب فخرج المشهد بهذه الصورة غير المتوقعة، طبعا المخرج يسأل عن هذا لانه هو وحده المسؤول عن أختيار الممثلين و كشف طاقاتهم.
في النهاية يجب أن لاننسى أن العرض قدم في سياق مهرجان في قضاء لاتمتلك كثير من مقومات و تقنيات المطلوبة لصنع عرض مسرحى متميز، لذلك هناك قصر في الاضاءة و الموسيقى و الوسائل التقنية السمعية و البصرية التى كان يمكن أن تفيد العرض أكثر، لكن البركة فيما هو موجود و لم يقصر طاقم العرض من المخرج والممثلين و التقنين بأن قدموا لنا عرضا جميلا مبهرا، أمتعنا و أمتع الجمهور وكان حدثا فريدا في الملتقى.
(تمت)