“خمس دقائق فقط” نص مسرحي للكاتب العراقي عماد مصطفى إبراهيم
المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص
ـ
عماد مصطفى إبراهيم | العراق
الستارة لمّا تفتح بعد.. بينا يعم المكان أصوات سَحبِ قطع من الأثاث على خشبة المسرح.
تفتح الستارة عن سيدة في العقد السابع من العمر تحمل بيدها عكازاً تسير بمساعدته في ما يشبه غرفة ضيوف، فتقوم بترتيب عدد من الكراسي بهمة الكبار وحرص المُخرج الذي يريد لعمله الكمال بحسب الصورة المطبوعة في الخيال.
تضع لنفسها كرسياً في منتصف خشبة المسرح. ثم تبدأ بوضع بضعة كراسي عن اليمين واليسار على شكل نصف دائرة، وهي تصدر همهمة ودندنة تعبر عن التفاعل مع الحالة، تراجع الوضعية وتفاصيل المكان مراراً وتكرارا، فتقوم بالتعديل على بعض الأمور، كوضعية الكراسي وطبق الضيافة الكبير الذي كانت قد أعدت محتوياته سلفاً بما يرضي أذواق أبنائها..
وبعدما ترضى عن الجو العام لصالة الجلوس التي تقوم بإعدادها تذهب لتجلس على الكرسي الذي كانت قد خصصته لنفسها وتطلق تنهيدة عميقة دلالة على التعب. وتنظر للساعة المعلقة على الجدار في انتظار ضيوفها بشوق ولهفة…
ـ الآن… (تنهيدة).
نعم.. الآن صار كل شيء جاهزاً لاستقبال أحبائي.. (تنظف نظارتها الطبية)
نعم.. هكذا أفضل. كي أتمكن من رؤيتهم جميعاً وبشكل جيد. (لحظة صمت وتنهيدة ).
(تنهض وتمشي للأمام قليلاً وتتنهد) آه كم أشعر الآن بالسعادة وأنا أعد العُدة لهذا اليوم البهيّ الذي طال انتظاري له… (لحظة صمت).
لهفي على تلك الساعات التي طالما كنت أُمني النفس بها.. ساعات تعيد لي الروح.. ساعات تجعلني أشعر بطعم الحياة.. ساعات تجمعني بفلذات كبدي الذين طال شوقي لهم.. ولأزواجهم… وأحفادي.. (بلهفة شديدة) أحفادي الذين لم أكحل عينيّ برؤيتهم حتى الآن..
(تستدير نحو الكراسي وتتمعن بها وتقوم بعدها وتسرح قليلاً وتتساءل)…
يا تُرى.. هل هذه الكراسي ستكفي؟
هل ما زال عددهم هو ذاته كما أخبروني منذ سنين؟. أم أن الزمن قد فرض زواراً جدداً لم أعرف بوجودهم حتى اليوم؟؟!..
( تقترب من الكراسي بحنان وهدوء وتومئ بيدها للكراسي لتضع لكل شخص كرسياً)..
الكرسي الوسطي سيكون لي بالتأكيد.. نعم يجب أن أجلس في الوسط كي أتمكن من رؤية الجميع. أجل، كي أتمكن من رؤية من يجلس عن يميني وعن شمالي..(تنهيدة حالمة) لكي أراهم جميعاً.
أما الكُرسي الأول عن يمني فسيكون لولدي الأكبر الذي لا أرضى بمكان له غير هذا.. فهو الأكبر.. (بتردد) هو … هو الفرحة التي طال انتظاري لها.. هـ هو ..هو أول صرخة حياة انبعثت في هذه الدار.. هو أول من أرضعته الحب والحنان.. وهو أول من جعلني أشعر بمعنى الأمومة.. (بلهفة وشجن)هو ولدي الأكبر. نعم الأكبر. (لحظة صمت).
أما الكرسي الذي يليه فهو لزوجته الغالية… وأما الذي يليه فهو لولدي الأصغر،(بابتسامة وحنان) قرة عين أمه وهو الفتى المدلل. والكرسي الذي يليه لزوجته هو الآخر.. والبقية لأبنائهم وبناتهم ، الذين طال شوقي لأكحل عيوني برؤيتهم..
(بلهفة وحنان) (تنتقل للجهة الأخرى)، أما الكرسي الأول من اليسار، فهو لابنتي الكبرى (تنهيدة وتعود للذكريات).. ابنتي، وأختي، ومرآتي، وبئر همومي.. أحسست..(لحظة صمت). منذ ولادتي لها بأنني اكتسبت أختاً لي.. فمنذ الطفولة ربيتها على أنها كبيرة.. وانها ستكون في المستقبل شريكتي في امور المنزل.. أعتمد عليها وأشدّ أزري بها. (لحظة صمت وتنهيدة).
كانت رفيقتي في شؤون البيت.. شريكتي في المطبخ.. موضع اسراري.. كانت تلوذ بيّ في الملمات، (بحزن) وكذلك أفعل أنا حين يضيق صدري، فألجأ لها. (لحظة صمت وتنهيدة عميقة). أعلم بأن تلك الأيام لن تعود..
نعم .. لن تعود..
(تنهيدة) لن تعود ..
(تجلس للحظة على الكرسي الذي خصصته لإبنتها الكبرى وتغرق في لحظة صمت مع موسيقى مصاحبة تعبر عن شوق للماضي).
(انتباهة من الحالة التي كانت عليها )على العموم.. سيكون الكرسي الذي بجانبها لزوجها، (تنهيدة) الذي هو بمثابة ولدي..(لحظة صمت)… (تتنهد وتنهض لتسير في أرجاء المسرح ).
كأنه كان بالأمس.. كان يوماً سعيداً حينما انظَمَّ فرد جديد “وللمرة الأولى” لعائلتنا، ليصير واحداً منا. شعورٌ عظيم أن أزف ابنتي الأولى. شعورٌ غامر أن أشاركها فرحتها بينما أخفي بين ضلوعي مرارة بُعدها عن بيت أبيها.. تتصارع الفرحة والدمعة في عينيّ وكأنهما مزيج من… (لحظة صمت وتفكُر).. مزيج من… مزيج من ماذا؟؟ (تنهيدة عميقة).
يكفي أن يكونا مزيجاً. فالفرحة.. والدمعة.. الزغاريد وأغاني الفرح (خلفية، موسيقى أفراح وزغاريد مصاحبة).. والتفكير بالفراق…. (تنهيدة). كل ذلك يمتزج في لحظة يمر فيها شريط العمر سريعاً.. (تنهار للأرض وتتنهد مع (صوت طبول يرافق الإنهيار.)).
لهفي على تلك الأيام والسنين التي مرت سراعاً كدقات قلبٍ هزّه الشوق فراح يطوي العمر وراءه طياً… (لحظة صمت) (تنهيدة وتفكر ثم تنتبه وتعود لوعيها ولحالها الأول)..
إلى أين وصلت في عدّ الكراسي؟؟
أها… الكرسي الثالث من جهة اليسار..
نعم.. سيكون الكرسي الثالث للؤلؤة بيتي.. ابنتي الصغرى، وبجوارها سيجلس زوجها طبعاً. ثم احفادي الآخرين… الذين ما زلت بانتظار اللحظة التي تجمعني بهم..
(تعود مسرعة للمنضدة التي وضعتها في الوسط، والتي ملأتها بما لذ وطاب من عمل يديها).
(بتردد) أ..أ.. أظن بأن وضعية المنضدة بهذا الشكل ستكون مناسبةً.. أليس كذلك؟. (لحظة صمت).
(تستدير للجمهور) ولكن.. مَن أخاطب؟؟ وإلى من أتحدث؟؟
(تسير نحو مقدمة المسرح) أنا أتحدث مع نفسي!..(ضحكة بسيطة تعبر عن الحالة النفسية التي تعانيها) وأوجه السؤال لها..! ثم أنتظر الجواب منها.. يا ليَ من عجوز!…(ضحكة بسيطة). ولكن…. (لحظة صمت وتنهيدة مع موسيقى تدعو للترقب فتتغير ملامحها).
ولكن.. هل نفسي راضية عن الحالة التي أعيشها الآن؟.
هل هذا هو الوضع الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه الحياة؟.
(ترمي العكاز من يدها وتعود أدراجها نحو وسط المسرح لتجثو على الأرض والحزن يخيم على ملامحها)..
(تعيش اللحظة بصمت. تتذكر الوضعية نفسها عندما كانت تضع صغارها في حضنها.. تهدهد وتغني لهم حتى يغلبهم النوم (مع موسيقى تعبر عن الحالة).).
(تنهض بتثاقل وتأخذ عكازها وتسير في أرجاء المسرح ثم تتوقف بمواجهة الجمهور).
يا لها من لذة..!
نعم.. يا لها من لذة..!
هي لذة.. ما بعدها لذة.
لذة أن تكون إحدانا أماً..
فمعنى الأمومة شيءٌ لا حدود له..
ليس من كلمة تعبر عن تلك المشاعر التي تشعر بها الأم عندما ترضع وليدها الحب والحنان.
لا يوجد في كل قواميس اللغة ما يصف أو يترجم ذلك الشعور..
(بصوت منفعل). ببساطة… لأنه شعور زرعه الإله العظيم في كيان الاُنثى حينما خلقها..
شعورٌ غريب لا يعرفه أحد.. سوى الأنثى… الأم. (لحظة صمت) (تسرح في خيالها)
آه… أتُراه. حباً..؟
أم… هل هو يا تُرى..! رحمة؟ عطف؟ حنان؟ (موسيقى مصاحبة ومناسبة للحالة)
أم… (صوت تصاعدي) أم هل هو مزيج من الحب والرحمة والعاطفة واللذة وغيرها من المشاعر النبيلة التي زرعها الله في الاُنثى؟!
(بهدوء وحزن) ولكن…
(تعود متثاقلة لتجلس على كرسيها والحزن يملئ تعابير وجهها).
ولكن. بالمقابل.. يا له من ألم..!
نعم.. أم الوحدة.. (تنهيدة وحسرة).
نعم.. ألم الفراق والجفاء.. جفاء الأبناء.!
ولكن…. ولكن ما سبب جفاءِ أبنائنا لنا؟.
هل.. هل أخطأنا في تربيتهم؟!
هل علمناهم الجفاء ضِمناً ولم نكن ندري؟!
(بصوت أعلى) أم هي التربية الحديثة التي لم نُحسن التعامل معها نحن أولاً؟!
(بصوت أعلى وتضرب الأرض بعكازها وتدير وجهها للجانب) أم أنها قسوة الحياة؟
(بهدوء تدريجي) نعم… قسوة الحياة…. قسوة الحياة.
(تتنهد وتنهض بتثاقل وغضب) ما أشد قسوتكِ أيتها الحياة!.
(هدوء تدريجي) ما أشد قسوتكِ أيتها الحياة!.
ما أشد قسوتكِ أيتها الحياة!.
(تنهار للإرض باكية).
نربيهم، ونتعب في تربيتهم… نعلمهم الصواب وكيف يكون.. نحذرهم من الخطأ ومن الوقوع فيه.. نشدُّ على أيديهم إن أحسنوا… نسامح هفواتهم… نعضد نجاحاتهم… (بألم وحسرات) نسهر على راحتهم.. نتعب لكي يرتاحوا.. ننسى أنفسنا حينما نفكر فيهم..(تنهيدة عميقة) ننسى طعم النوم إذا ما مرض أحدهم.. وما نزال معهم.. نرقبهم ونتابعهم ليكبروا (بصوت أعلى) ويكبروا……حتى إذا ما اشتدّ عودهم، أخذتهم الحياة من بين أيدينا.. (لحظة صمت)
أخذتهم الحياة ليدخلوا معتركها.. ليكتووا بنارها..
(بألم) ونحن نراقبهم.. ولكن…
ولكن ما باليد من حيلة.. (تنهيدة)
لأنه.. لا بد لهم من دخول معتركها..
(صرخة ألم) آه… ما أشد قسوتكِ أيتها الحياة!.
(هدوء تدريجي) ما أشد قسوتكِ أيتها الحياة!.
(بهدوء وحزن) ما أشد قسوتكِ أيتها الحياة!.
(تمسك بصدرها من جهة القلب دلالة على ألمٍ أصابها.. فتعود إدراجها لتجلس على كرسيها وتتنفس بصعوبة). (تتضرع لله، والحزن والألم يخنقانها)
إلهي…..(تتكلم وتتنفس بصعوبة بالغة).
إلهي.. أمهلني خمس دقائق فقط.. لعلّي أراهم..
لعلهم يجيبون نداء قلبي (بألم شديد).. ونداء روحي… فيجمعهم هذا البيت من جديد..
أو لعلهم يشتاقون لأحضاني.. (تجمع كلتا يديها) فيجمعهم دفئها…
إلهي.. من أجل ذلك أعددت العدة هذا اليوم..
أجل.. على أمل اللقاء.. أعددت العدة.. (يعصرها الألم).
(صمت يتخلله صوت النَفَس، يتحرك شهيقاً وزفيراً بصعوبة كبيرة بينما تنظر هي إلى الساعة).
(تخاطب عقارب الساعة بحزن وألم).
مالكِ ايتها العقارب؟!.
لماذا تسرعين؟
لِمَ أحس بأنك صِرتِ تسابقين بعضك البعض لتنتهي الدقائق الخمس التي طلبتها من ربي!
(بألم وحزن شديدين)
أيتها العقارب… (تتنفس بصعوبة).
أيتها العقارب. (تتوسل) تثاقلي في دورانك..
إهدائي قليلاً … لا تتسارعي.
فلعلهم يأتون الآن..
لعلهم يأتون الآن..
أو يأتون بعد لحظة.. (صمت قليل، بينما صار الألم أشدّ وهي تراقب عقارب الساعة والموسيقى المصاحبة توحي بامتزاج صوت عقارب الساعة مع صوت نبضات القلب الكسلى. تقطع كل ذلك دقات ناقوس الساعة لتعلن انتهاء الأجل).
إلهي.. (التنفس يزداد صعوبة)
إلهي… لقد انقضت الدقائق الخمس التي طلبتها… ولم يأتِ أحد…
لم يأتِ أحد..
(بصوتٍ ضعيف بالكاد يُسمع)… لم يأتِ أحد..
إلهي… لكَ الأمرُ من قبل ومن بعد.
(تشهق شهقتها الأخيرة وتزفرها.. وتسقط العصا من يدها).
(موسيقى حزينة لثواني قليلة..) ثم…
(يرنّ جرس الباب).
يرنّ الجرس.
وما زال يرنّ..
ويرنّ..
ويرنّ…..
إظلام تدريجي…
أسدال.
تموز 2020