د. بشار عليوي يكتب: الظاهراتية مسرحياً

المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات
ـ
د. بشار عليوي: العراق
أكدت الظاهراتية بتأسيساتها الأولى على يد “أدموند هوسرل” على الفعل القصدي في إنتاج المضمون، بوصفه المعنى الموضوعي للشيء كما هو معطى في فعل التكوين،
المعنى الذي تحققه ذات عارفة يتمخض عن وجود للشيء أو الموضوع مدار التأمل، وينتج بمقتضى التأويل، أي أن المعنى الموضوعي في العمل الفني هو المعنى الذي يقصده الفنان،
كما أن الظاهراتية أقرت أن الإدراك الحسي ظاهرة، والتخيل ظاهرة، والانفعالات المختلفة ظاهرة، فيما شكل التأمل الباطني الانعكاسي أهمية في أسس تكوينها، وهو وصف لماهية تلك الخبرات القصدية للوعي، أو معناها وما تأكيدها للخبرات إلا تأكيد على التجربة العملية الإنسانية، ومن ثم التجربة الفنية. هذه الخبرات التي أصبحت أساساً ومنطلقاً للفلسفة البراجماتية فيما بعد.
هناك اتجاهان لتعريف الظاهراتية, الاتجاه الأول, يشير إلى أنها المبدأ الفلسفي الذي ينكر معرفة الشيء، ولكن لا ينكر وجوده خارج حدود عالم الظاهرة، محدداً مدى المعرفة إلى الموضوعات الممكنة للإدراك الحسي والتي هي موضوعات للاستبطان , والاتجاه الثاني يشير إلى أنها (علم الظاهرة) التي يميز بين الأنطولوجيا (علم الوجود) في نظام الفيلسوف الألماني ” أدموند هوسرل” *
هي الوصف العلمي للوعي وقصدية الشيء في الوجود الخالص والظاهراتية منهج فلسفي متعال وقصدي يؤكد مبادئ المثالية الذاتية التي تتجه لدراسة الشعور والكشف عنه بهدف دراسة ماهيات الظواهر، وكيفية كشف ظاهرة الرسم عن نفسها، من خلال العودة إلى الأشياء ذاتها وردها إلى حقيقتها الأولى انطلاقاً من الخبرة المباشرة .
لقد تأسس الأتجاه النقدي الظاهراتي / الفينومينولوجي حينما تطورت آراء “هوسرل” فيما بعد الى نظرية نقدية على يد مجموعة من المفكرين منهم الفرنسيان ميرلو بونتي وغاستون باشلار والبولندي رومان انغاردن ,
وكذلك بالاضافات النظرية والتطبيقية التي اسهم بها من امثال مارسيل ريمون وجان روسيه وجان بيير وجورج بوليه والامريكي جوزيف هيللس ميلر قبل انضمامه الى التقويضيين , ومن اشهر المدارس التي وظفت النقد الظاهراتي بشكل مكثف مدرسة جنيف ومن منطلقاتها ان العمل الادبي عالم خيالي خارج من العالم المعاش عالم يجسد وعي الكاتب .
أن الظاهراتية قد وجدتْ صداها في الخطاب المسرحي بوصفه يهتم بعمليات التفكير والوعي لفهم التجربة الانسانية التي تشكل التجربة المسرحية احد فضاءات هذه العمليات , لانها تعمل على ان تلج الذات الداخلية للوعي الانساني من خلال تقديم فعل ذهني مستتر في الظاهرة المرئية والمقروءة في الخطاب المسرحي ,
ولأن الخطاب المسرحي والظاهراتية يتلازمان فلسفياً من خلال منطلقهما الانطولوجي في الكشف عن ماهيات الاشياء واكسابها ماهيات جديدة , وبما ان الظاهرة الجمالية وفق رؤية برغسون للفن , والخطاب المسرحي هو نتاج لتجربة مباشرة تُحدثها ذات فاعلة بقصدية واعية متعالية لتهب المعنى الجديد المؤسس جمالياً من خلال اعادة انشاء الاشياء بفرض ماهية خاصة بها كأن يكون نصاً مسرحياً او عرضاً مسرحياً بوصفها منهج فلسفي يحاور الوجود بتجاوز الثنائيات بقصدية مثالية , فهذه الذات تؤسس مادتها الجمالية من مادة معطاة اصلاً لتهبها معنى ودلالة،
ولهذا فكل من الظاهراتية والخطاب المسرحي يعملان في فضاء الخلق والتكوين لخلق ظاهرة اخرى جمالياً مستعارة من الوجود الانساني بكل تجلياته الظاهرة والباطنة , فقراءة الخطاب المسرحي على وفق مفهوم الظاهراتية القصدي يفترض ترك اشتراطاً على الوعي وتحريك مدركاته المعرفية برفض أي استباق معرفي مؤسس على الادراك القبلي لوعي الذات الانسانية اذا يشترط عزلها عن ما هو قبلها وبعدها بقصدية واعية لها تأسيسها الخاص بها ,
فضلاً عن ان الظاهراتية تشترط ان تكون هذه الفاعلية القصدية منزاحة ومنفية عن الذات الفاعلة والمنتجة لماهية هذا التأسيس الظاهراتي المحدث عنها لانها تتعامل مع الظاهرة بذاتها ولذاتها حصراً بحيث تكون لها معطياتها الدلالية الخاصة أي انها ترفض أي اسقاط للذات الفاعلة على المنتج الجمالي , والظاهراتية في الخطاب المسرحي تعارض مبدأ الظاهراتية في المعرفة لانها الخطاب المسرحي ادراك جمالي ذو تراكم خاص , وهو تأسيس لذات لها تراكم معرفي باتجاه التأويل وتساؤل باتجاه المستقبل لا بالانعكاس نحو الواقع او الارتداد نحو الماضي ولان الخطاب المسرحي يدفع باتجاه استنفار مدركات العقل للكشف عن الحقيقة في المستتر من هذا الواقع ليعيد تأسيسه وفق اشتراطات جمالية- فلسفية .
ففي تجربة الكاتب المسرحي العراقي ” حسن الغبيني ” ، التي تندرج ضمن تجارب الكُتاب المسرحيين العراقيين ، ممن ينتمون الى الجيل التسعيني ممن تكورت مرجعياتهم فيما مضى من فواجع ومِحَنْ، قد وجد عند الـ” الغبيني ” الماسك بمعول الحفر الكتابي ، مَرجلاً يَضخُ نصوصاً تتماهى مع ذاكرة الشعب الجمعية المُكتنزة ألماً . إن نص حسن الغبيني ” ما “, يكاد يقترب من هذا التماثل بوصفها تؤكد مرجعية الكاتب بتشكلاتها المتشظية في خارطة الألم العراقي راكزة بذلك تجربتهِ التي أصبح يُشار لها بالبنان .
يُطالعنا نص ” ما ” بوصفهِ نصاً مسرحياً ، شكلاً ومضموناً ذات خطاب مسرحي ظاهراتي عبر تحررهِ من الأُطر السائدة والمُكرسة بإبتعادهِ عن الكلائشية في صياغة المُفردات والتراكيب اللغوية والإنفتاح بشكل مُباشر على”الثيمة الأساسية”وهو بذا يندرج ضمن النصوص الطليعية بجميع تساؤلاتهِ وإستفهاماتهِ .
مُجتازاً حدود الإستفهام ( ما _ أين _ لعل _ شيء ما _ هي هي _ هو هو ) بعد أن إتخذت من التشخيص الدرامي لبوساً لها عندما صارت اسماء لشخوص النص الدرامية . كما جعل الكاتب ، ” ما وأخواتها ” ، مكانها بالإستفادة من ماهية كُل ضمير وإسم إشارة فـ( أين ) يرمز للسُلطة التعسفية بكُل أيديولوجياتها القمعية . أما ” ما ” فيرمز للكفة المُتناقضة وهي كفة الحكمة والتعقل والخير، فيما رُمِزَ للحُرية بـ( شئ ما ) .
ينفتح النص على وجود شخصيتين في مكان خرب مُعبأ بالأشياء المُحطمة . حيث كان تحطمها ليس وليد عاصفة أو شئ آخر بل كان.
الإحالات
- د. علي محمد هادي الربيعي ، الخيال في الفلسفة والادب والمسرح ، ط1 (عمان :دار صفاء للنشر والتوزيع , بابل : مؤسسة دار الصادق الثقافية، 2012م) .
- أدموند هوسرل ، تأملات ديكارتية أو المدخل إلى الفينومينولوجيا، تر تيسير شيخ الأرض، ( بيروت : دار بيروت للطباعة والنشر، 1958 ) .
- د. سافرة ناجي ، الظاهراتية في الخطاب المسرحي ، ( بغداد : , مجلة الاقلام , ع1 لسنة 2010) .
- حسن الغبيني ، ما ومسرحيات اخرى ، ط1( بابل : المركز الثقافي للطباعة والنشر , 2009 ) .