“ديالكتيك Dialectic ” مسرحية ديودراما .. من تأليف: واصف الدلالعة ـ الأردن

المسرح نيوز ـ القاهرة: نصوص
ـ
ديالكتيك
Dialectic
مسرحية ديودراما
تأليف واصف الدلالعة
المشهد الأول
إضاءة زرقاء باهتة، الكرسي في الوسط بلا معنى. أصوات قلب بطيئة. تدخل سلمى بخوف، تنظر للكرسي. من الجهة الأخرى تدخل رنا بخطوات ثابتة، كأنها تعرف الطريق
سلمى: (بتردد) غريب… خشب في فراغ. هل هو مقعد؟ أم شاهد قبر؟ أم مجرد خشب ميت؟
رنا: (تضحك) ليس ميتًا… هذا الكرسي حيّ أكثر منك.. أنتِ التي لا تعرفين الجلوس على نفسك
سلمى: الجلوس على نفسي؟ أي لغة هذه؟
رنا: (تقترب وتلمس الكرسي) الإنسان، يا عزيزتي، يملك عرشًا في داخله. إمّا أن يجلس عليه بوعي، أو يتركه فارغًا لتجلس عليه أشباح الآخرين
سلمى: (ترجع خطوة) أنا أخاف العروش… كل من جلس على عرش سقط
رنا: ليس السقوط موتًا. أحيانًا السقوط هو اليقظة إنه قلبك، لكنه بلا سيد
سلمى: (بتوتر) قلب بلا سيد؟ وهل يملك الإنسان قلبه أصلًا؟
رنا: طبعًا! ما لم تملكيه، ستملكه مخاوفك. وما لم تجلسي عليه، ستجلس عليه أشباح الآخرين
إضاءة بيضاء خافتة. سلمى تقترب من الكرسي
سلمى: (بهمس) أشعر أنه يرفضني… كأن الكرسي نفسه يسأل: من أنتِ؟
رنا: (بابتسامة لئيمة) وهو على حق. من أنتِ حقًا؟ اسم؟ جسد؟ ذاكرة؟ أم أنتِ مجرد خوف يتنفس؟
سلمى: (بصوت يرتجف) الخوف حارس… بلا خوف نموت
رنا: (تصرخ) بل بالخوف نموت ألف مرة قبل الموت
سلمى: (بهمس) لكنه ثقيل… كأن الخشب يرفضني
رنا: لا يرفضك… يسألك: “من أنتِ؟
سلمى: أنا؟! مجرد ظل يمشي فوق تراب، يذوب حين تسقط عليه الشمس
رنا: (تضحك بسخرية) ظل؟! إذن أنتِ لستِ سوى غياب
سلمى: الغياب أحيانًا راحة… الوجود عبء
رنا: (تصرخ) لا وجود هو العدم! هل جئتِ لتكوني غيابًا؟
صمت. موسيقى طفولية هادئة. الكرسي يُضاء كأنه مقعد مدرسة
سلمى: (تجلس بخجل) أشعر أني تلميذة… أكتب أول كلمة. لكني أنسى دائمًا النقطة في آخر الجملة
رنا: (ساخرة) النقطة يا عزيزتي هي الموت… وأنتِ تخافين أن تنهي أي جملة
(تضحك) الطفلة التي بداخلك لا تكبر أبدًا… وهي السبب في كل ضعفك
سلمى: (تلمس صدرها) أتركها تموت؟
رنا: (تقترب بحدة) بل دعيها تتحوّل
المشهد الثاني
إضاءة حمراء متقطعة. الكرسي يصبح منصة محاكمة. رنا كقاضٍ، سلمى كمتهمة
رنا: (بصوت حاد) لماذا تختبئين؟ هل الخوف صديقك؟!
سلمى: (ترتجف) الخوف يحميني. إنه جدار بيني وبين السقوط.
رنا: (تصرخ) الجدار هو السقوط! أن تكوني محبوسة خلفه يعني أنكِ لا تعيشين أصلًا
رنا: قفي! أنتِ متهمة بالخذلان… خذلان نفسك أولًا
سلمى: (بهمس) لم أخذل… كنت أخاف
رنا: الخوف خيانة، لأنه يقتل قبل أن يأتي القاتل
سلمى: (بهمس) كنتُ أخاف أن أؤذي… كنت أخاف أن أنجر
رنا: قفي أمام نفسك! ما جريمتك؟ أنكِ لم تعيشي؟ أنكِ انتظرتِ كل شيء ولم تفعلي شيئًا؟ آذيتِ نفسك بصمتك، وجرحتِها بخوفك
تدور حولها مثل المفترس ، تقترب منها بعنف
سلمى: (بصوت منخفض) لكن… ماذا لو اخترتُ الطريق الخطأ؟
رنا: الطريق الخطأ؟! لا يوجد خطأ أو صواب… هناك فقط تجربة. كل خطوة تقودك إلى نفسك.
سلمى: (تغطي وجهها) نفسي… نفسي هي سجني.
رنا: وأنا مفتاحك
رنا: أخبريني، ما قيمة حياة بلا نار؟
سلمى: وما قيمة نار تلتهم البيت؟
رنا: النار تضيء وتطهّر
سلمى: لكنها تحرق وتُبيد!
رنا: (تضحك بجنون) ها أنتِ تقولين الحقيقة: أنا وأنتِ وجهان. أنا الضوء وأنتِ الظل. أنا الطوفان وأنتِ السد. لكن من قال إن السد لا ينكسر؟
ماذا يعني أن تعيشي وأنتِ سجينة جدار داخلك؟ الحرية أن تكسر الجدار
سلمى: (بصوت مرتجف) لكن الحرية وحش… الحرية أن أُترك وحدي في صحراء بلا حدود
رنا: الحرية ليست صحراء… الحرية هي أن تصنع حدودك بنفسك
سلمى: وماذا لو صنعتها خطأ؟
رنا: (بحدة) الخطأ هو المعلم الوحيد. الصواب لا يعلّم شيئًا
إضاءة تتحول إلى زرقاء. الكرسي يصبح كرسي انتظار. سلمى تجلس عليه
سلمى: (بهمس) أنتظر شيئًا لا أعرفه… ربما قطارًا، ربما خلاصًا.
رنا: (تضحك) الانتظار هو الموت ببطء. الحياة لا تنتظر أحدًا.
تنهض وتصرخ
رنا: اكسري الباب! اقفزي من النافذة! كوني مجنونة!
سلمى: (بذعر) الجنون ظلام.
رنا: لا… الجنون هو الحرية التي تخافين منها
سلمى: (ببطء) انتظرتُ كثيرًا… انتظرتُ إشارة، معجزة، يدًا تمسكني. لكن لم يأتِ أحد
رنا: (تجلس قربها ساخرة) لأن لا أحد يأتي لمن لا يسير. الانتظار وهم… والوقت مقبرة للأحياء
سلمى: (بحزن) لكن إن تحركتُ بلا بوصلة… ألا أضل الطريق؟
رنا: الطريق يُخلق حين تمشين… لا توجد بوصلة أعظم من الخطوة الأولى
سلمى: (ببطء) كم من عمري ضاع في الانتظار… كنت أقول “غدًا سأبدأ، غدًا سأواجه، غدًا سأحيا”. لكن الغد لم يأتِ
رنا: (بابتسامة مرّة) الغد وهم. الوقت لا يعطيك شيئًا، بل يأخذك شيئًا فشيئًا
سلمى: (بحزن) إذن ماذا أملك؟
رنا: (بقوة) اللحظة! اللحظة وحدها حقيقية. الماضي ذاكرة، والمستقبل حلم. اللحظة هي الأرض الوحيدة التي يمكنك أن تقفي عليها
سلمى: لكني سجينة الماضي. صوره، أوجاعه، خيباته… تلاحقني كالكلاب الضالة
رنا: (تقترب منها) الذاكرة ليست كلبًا… إنها مرآة. أنتِ التي تختارين أن تنظري فيها كل يوم، أو تكسرينها وتتحررين من انعكاسها
إضاءة تتحول إلى بياض بارد. الكرسي يصبح قبرًا. سلمى تلمسه وكأنه شاهد
سلمى: هنا يرقد خوفي… لكنه ينهض كل ليلة، يزحف إلى أحلامي، يشدني من قدمي
رنا: (تجلس فوق القبر) دعيني أدفنه… بدوني لن تخرجي أبدًا من هذا الظلام ،لا بد أن يدفن كي تُولدي أنتِ
سلمى: (بصرخة) وإن دفنتُ خوفي… من سيحميني منكِ
هنا ينام خوفي… لكنه لا يموت. كلما دفنته، عاد أعمق
رنا: (تجلس فوق القبر) لأنه ليس عدوكِ. الخوف جزء منك. لكنه يجب أن يتوازن مع شجاعتك
سلمى: (بصرخة) لكنكِ شجاعة قاتلة! كلما اتبعتكِ، جرحتُ نفسي
رنا: (بهدوء فلسفي) الجرح أحيانًا هو الباب الوحيد للشفاء. الجسد الذي لا ينزف… لا يشعر
صمت عميق. إضاءة تنخفض. كل واحدة تجلس في زاوية المسرح، كأنهما نفس مقطّعة
المشهد الثالث
الكرسي يوضع كمرآة. إضاءة ساطعة تنعكس عليه. كل واحدة على جانب، كأنها انعكاس للأخرى
سلمى: (تنظر إليها بتركيز) ربما لستِ عدوي. ربما أنتِ أنا… لكن بشكل آخر
رنا: (بصوت متعب) وأنا لستُ وحشًا… أنا فقط صرختك المكبوتة، (بابتسامة حزينة) نعم… أنا غضبك حين تُكبتين
سلمى: وأنا لستُ ملاكًا… أنا فقط خوفك المتجمّد ، أنا خوفك حين تتهورين
رنا: (تقترب من الكرسي) حين تصمتين، أنا أصرخ. وحين تتهورين، أنا أحذر ، أنا جرحك حين تسكتين
سلمى: حين تنفجرين، أنا أخمد. وحين أنهار، أنتِ تنهضين، أنا ندمك حين تتكلمين .
ربما لم أفهمكِ… ربما أنتِ لستِ عدوي
رنا: وأنا لستُ بطلة. أنا فقط صرخة الروح حين تُخنق
سلمى: وأنا لستُ ملاكًا. أنا فقط قيد العقل حين يجنّ
تتقدمان خطوة بخطوة نحو الكرسي
يتحركان بتناغم كأنهما مرآة حقيقية. تبدأان حوارًا شعريًا متوازيًا
رنا: أنتِ ضعفي
سلمى: وأنتِ قوتي
رنا: أنتِ قيدي
سلمى: وأنتِ جناحي
رنا: أنتِ ظلي
سلمى: وأنتِ شمسي
رنا: من نحن إذن؟ خير وشر؟ خوف وشجاعة؟
سلمى: لا… نحن أكثر تعقيدًا. نحن سؤال لا إجابة له
رنا: سؤال؟ عن ماذا؟
سلمى: عن معنى أن نكون.
رنا: (تفكر) أن نكون… هل يعني أن نحب؟ أن نتألم؟ أن نترك أثرًا؟
سلمى: أن نكون… ربما يعني أن نجرّب، ولو خسرنا. أن نمشي، ولو سقطنا. أن نبحث، ولو لم نجد
رنا: (بهدوء) إذن الإنسان ليس نتيجة… الإنسان رحلة
سلمى: (تبتسم لأول مرة) نعم… رحلة بين ضفتين: أنا وأنتِ
يصعدان معًا على الكرسي، كأنهما جسد واحد. يحاولان التوازن
سلمى: (بصوت واثق) لا أحتاج أن أخفيكِ
رنا: (بصوت هادئ) ولا أن أبتلعك
سلمى: (بصوت عالٍ) لا أحتاج أن ألغي صوتك
رنا: (بصوت عالٍ) ولا أن أهيمن عليكِ
سلمى: (بصوت واثق) لستُ مضطرة لأُقصيكِ
رنا: (بصوت هادئ) ولا أنا لأُسيطر عليكِ
معًا: (بصوت واحد، عميق) الإنسان ليس خيرًا ولا شرًا… ليس خوفًا ولا شجاعة… الإنسان هو الصراع
معًا: (بصوت واحد، عميق) نحن الاثنتان… وجه واحد
إضاءة بيضاء قوية تملأ المكان، ثم تخفت فجأة إلى عتمة كاملة. صمت طويل.
رسالة المسرحية
الحرية ليست غياب الخوف، بل توازنه مع الشجاعة
الماضي والمستقبل مجرد أوهام، واللحظة هي الوجود الحقيقي
الإنسان ليس إجابة، بل سؤال مستمر
الخير والشر، الخوف والشجاعة، كلها ليست أعداء بل أجزاء تكوّن الكل