“زوجان من فولاذ” مونودراما تعاقبية.. للكاتب العراقي: صباح الأنباري
المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص
ـ
زوجان من فولاذ/ مونودراما تعاقبية
صباح الأنباري
مونودراما 1: الزوجة
على خلفية المسرح تظهر شاشة للعرض. تنطلق من الشاشة موسيقى البداية. لقطة عامة لممر طويل داخل احدى المستشفيات. تتقدم عربة نقل المرضى من أعمق نقطة في الممر حتى يمتلئ الكادر بها. تستمر عدسة الزوم بالتقدم نحو المريضة والعربة حتى يملأ وجهها شاشة العرض. تطفأ الشاشة ويسلط ضوء عمودي على سرير محاط بقماش شفاف تسهل الرؤيا من خلاله، يبدو السرير وكأنه يسبح في فضاء المكان فوق الأرض قليلاً. امرأة في عقدها الثالث، ترقد عليه وترى الى من حولها على الرغم من عدم وجودهم الفعلي. (تستيقظ. تدلي ساقيها نحو الأرض.. تنظر إلى كلّ الجهات بحيرة واستغراب وكأنها ترى المكان للمرة الأولى.. تتوهم أنها ترى زوجها داخل دائرة من الضوء الرأسي.. تنزل ساقيها من على السرير حتى تمسان الأرض.. تنهض، تقترب منه)
حبيبي.. أناديك الآن بصوتي الذي طالما أحبَبْتَهُ.. فهل تسمعني؟ (تكرر السؤال بصوت أعلى قليلاً) هل تسمعني؟ (تنتظر جوابه مستغربة، ثم بصوت أعلى وبتأكيد أدق) هل تسمعني؟! (لحظات من الصمت والانتظار، تهدأ قليلاً ثم بنفس درجة الاستغراب تقول) ما لأذنيك وقد أغلقتهما الحواجز فلا شيء قادر على اختراقهما! (بانفعال ورقة) كنت أعرف عمق صوتي فيهما، وأعرف أنك تسمعني حتى عندما أتحدث همساً، أو مناجاة، فما بالك الآن لا تسمعني! أتظن أنني انتقلت الى العالم السفلي الذي لا رجعة منه أبداً؟ أم تخشى أن تستبدلك عشتار بعالمها الذي لا طعام فيه للموتى غير التراب؟ أنت تعرف أنني لا أتمناك بديلا لي وأنا بهذه الحالة المزرية، ولن أفعل ما فعلته عشتار بـ(تموزها) المغدور جراء نفورها من عالم الظلام، وتوقها لعالم النور، ومباهج الممالك والأمصار العديدة.
أريدك أن تسمعني لأنني لا زلت على قيد محبتك ومشاعرك الدافئة، وأريد أن أحدثك عمن تسبب في وجودي الخالي من الوجود، عن الضمير أو الضمائر المستترة التي حرمتك من محبتي الأبدية. وعن شهوتهم في التخلص من كل شيء جميل في حياتنا القصيرة. لم يدركني الموت بعد ولن يستطيع، فأنا أقاومه ببأس شديد فهل سأفقد بأسي في قادم الأيام؟ اطمئن حبيبي.. لن يتمكّن الموت مني إلا إذا طلبته بنفسي لأخفف عني وعنكم شقاء اهتمامكم بجسدي الذي بدأ يخونني بالغيبوبة الطويلة. اطمئن.. سأظل بينكم حتى يحين الرحيل الأخير، وحتى تتشبع أذناي بأصواتكم الرخيمة الحنون. لكنني لا أريد أن أثقل عليكم وأنتم الأعزاء. ولكي أظل حاضرة معكم وبينكم فان عليكم أن تبددوا غيابي عنكم، وهذا أمر في غاية الصعوبة.. لا مانع عندي إنْ اخترتم لي ما يسمى بالموت الرحيم لأن فيه رحمة لي وراحة لكم. وأنتم العارفون بما أعاني من هذا الرقاد المميت. سبعة أشهر مرت وأنا راقدة هنا بلا حركة ولا نأمة، ولولا جهودكم العظيمة في تحريك دمي بالمساج وتدفئته بمحبتكم لكنت الآن في غياب مطلق. اشعر أنكم تمنحونني حياةً من حياتكم. وانا أتنفس من أنفاسكم (تحدق في الفراغ المحيط وكأنها ترى أحداً تذهب إليه. تسقط دائرة من ضوء عمودي في المكان الذي تتخيل فيه وقوف ابنتها) هيه أنت يا ابنتي الكبرى، وفلذة كبدي الأولى لم أعرف أنك قادرة على التضحية بكل شيء من أجلي، يقتلني صبّ اهتمامك العظيم على جسدي المسجى على كفوف الموت العنيد كي لا تفارقه الروح فأسلم أمري له وهو الذي لا يزال ينتظر الانتهاء من مهمته الأخيرة (تلتفت الى الجهة الأخرى وكأنها ترى ابنتها الصغرى داخل مسقط للضوء أيضاً) وأنت يا صغيرتي لماذا تقفين الى جانبي بهذا الحماس؟ أتظنين أنني سأفوق يوما ما راجعة لأرعاكِ بعد هذا الغياب الطويل.. لأضمك الى صدري بحنو، وأشمُّ عطرَ أنفاسك الزكية؟ حبيبتي… رقدتي لا يقظة في انتظارها، ولا أرى ثمة ضوء في نهاية النفق الطويل. لا تزالين صغيرة يا حبي وأولى بك إن تنصرفي لشؤون الصبا والشباب… كلما تقفين قربي وأنا انظر إليك بعينين تغرقهما الدموع أشعر بمزيد من الحرمان المبكر، حرماني من أمومتي، وحرمانك من مداعبتي لخصلات شعرك المسترسل الداكن (تحاول احتضاها فلا تمسك بشيء) آه… يا لهذا العذاب الأليم! أعجز عن احتضانك وعن آخر ما تمنيته لنفسي في رحلتها الأخيرة. (الى جمهور النظارة) هل تعرفون كيف تشعر أمٌّ لا تستطيع احتضان صغرى بناتها للمرة الأخيرة؟ (تتأوَّهُ بعمق) آه… ما أشدَّ قسوة الحياة، وما أرحم الموت قبل الوداع الأخير! لماذا يتركني الموت على حافة الانتظار الممل؟ لماذا يمتحنني بغيبوبة لم يمتحن البشر بها قبلي؟ أين العدالة في استلاب قوتي، وشل حركتي، ونسياني غائبة عن الوعي بين من أحَبَّهم قلبي وهم ينتظرون استرجاع وعيي بصبر لا صبر له. إني لأعجب كيف يمكن أن يكونوا صابرين وهم ممن لا صبر لهم في موقف مثل هذا؟ إذن لا أحد مثلهم في الصبر ولا أحد مثلي في الغياب. (تحدق عميقاً في الفراغ مستفزة. يسقط عمود آخر من الضوء) من هذه التي تقف هناك شاخصة ببصرها إليكم؟ إنها تقترب منكم.. من زوجي الحبيب.. (مستفزة) ما هذا! ماذا تفعلين أيتها الغريبة! لماذا تحضنين زوجي! من سمح لك بهذا الطيش الذي لا يليق حتى بمراهقة صغيرة! ابتعدي عن حبيبي.. (تلتفت الى احدى بنتيها) لماذا تحضنكم بحنان أم رؤوم. أنا لا أعرفها ولم أرها من قبل. هل جاءت مواسية لكم أم أنها تفكر في التقرب من حبيبي؟ (غاضبة) هيه أنتِ ابتعدي عن زوجي ولا تقتربي منه خطوة واحدة وإلا (تصمت.. تفكر، ثم لنفسها) وإلا ماذا أيتها المسكينة المستكينة؟ ماذا يمكنك أن تفعلي لها وأنت مسلوبة الإرادة والحركة؟ (تنتفض) لا… أنا لست مسلوبة الإرادة والحركة بإمكاني فعل أي شيء (لنفسها باستسلام) هل حقاً أستطيع فعل أي شيء؟ (بحزن عميق) ألا تعساً لي. كيف يمكن لمن أحبه قلبي أن يقبّل امرأة غريبة؟ اسمعي يا امرأة، ابتعدي عن زوجي لا يجدر بك القيام بهذه الحركات النزقة (تقترب منها) يا إلهي ماذا جرى لي كيف لا أميّز بينها وبيني إنها…إنها أنا… يا لغبائي… كيف لم افطن أنها أنا.. أنا المفتونة الأبدية بهذا الحبيب المطلق؟ عذرا حبيبي لقد أعمتني الغيبوبة فلم اعد افرّق بيني وبين نفسي بل صرت أغار عليك حتى من نفسي… يا لأنانيتي القاتلة فأنا لا أفرّط بمن أحبه قلبي حباً أبدياً خالصاً جماً على الرغم من محاولة الموت سَلْب كلّ شيء جميل من حياتي الآيلة الى اندثارها، وغرقها في بحر النسيان. لن أكرر أنانيتي مرة أخرى أعاهدك على هذا الآن مثلما عاهدتك يوم كانت الحياة ملك يديّ. أتذكر… حين كنّا في ريعان شبابنا يوم سلمتَ جارتنا ورقة مصفوفة أثارت شكوكَ وغيرةَ جارتها فأتهمتها بعلاقة حب بينكما أمام الجميع وما كان من جارتنا إلا أن تدافع عن نفسها من (الفضيحة) المزعومة بتسليم الورقة لها قائلة في غضب مكتوم: – خذي هذه الورقة وأخبرينا ماذا كتب فيها. وعندما قرأتها ولم تفهم منها شيئا ارتبكت كثيرا وترددت في قول أي شيء. أما أنا فقد ساورني الشك كثيراً، خطفت الورقة منها ورحت أقرأ ما فيها وقلت للجميع هذا إنشاء من اجل الدرس حينها أقسمت بيني وبين نفسي ألا أشك بك ما حييت. اعذرني حبيبي الغيبوبة جعلتني أحنث بيميني، وانا لا اقصد ذلك على الإطلاق. سبعة أشهر انقضت وأنا غائبة عن الوعي، وبفضلك فقط احتفظَ دمي بدفءِ الحياةِ حتى هذه اللحظة فيا لصبرك الجميل، ومحبتك التي ليس كمثلها في الأولين والآخرين. سبعة أشهر عجاف، وخطأ واحد بجرعة دواء لم أصح بعدها حتى هذه اللحظة (تنهال عليها الأسئلة) هل كان الدواء مغشوشاً؟ هل كانت صلاحية المخدر منتهية؟ هل ثمة خطأ كبير في العملية أو في غرفة العمليات؟ أين الخطأ تحديداً؟ لماذا لم تعمل الجهات المختصة على التحقيق في هذه الحادثة الغريبة؟ كيف اعتبرها الأطباء حالة طبيعية وليس ثمة ما يشابهها من قريب أو بعيد؟ سبعة أشهر انقضت ولا اعرف كم ستنقضي بعدها من شهور لن تكون أقل منها ألما واستلاباً لوجودي؟ لقد سرقوا مني حياتي واسلموني لهذه الغيبوبة التي حرمتني من أحب الأشياء لنفسي، وتركوني مسجونة داخل جسدٍ بدأ رحلة ضموره المميتة. أنا سجينة جسدي، ونزيلته الوحيدة التي لا تريد فراقا عنه، ولا انشقاقاً منه، وفقط تريد ملازمته كتلازم الحياة والموت. أفكر أحيانا بأشياء لا تخطر على بال أحد… ترى هل تقصدوا فعلتهم ليتخلصوا من بَوْحي بأسرارهم الخفية، ومن إعلاني المستمر عن حقيقتهم المشوبة بالشبهات؟ أسئلة كثيرة لا إجابات لها تكويني بسعيرها ولا فكاك لي منها، على ما يبدو لي هذا على الأقل. (تعود الى سريرها) لقد مللتك أيها السرير، ضجرتُ منك، كرهتك وأريد الانتقام منك لا لشيء ولكن فقط لأنك تريدني جسداً خاملاً ممدداً مثل جثةٍ بدأت الديدان تنهشها، تنخرها شيئاً فشيئا (بتحد غير مبالية) فلتنخر كيفما شاء لها النخر فأنا مأدبتها الكبرى. وبجسدي أوفر لها خزينا هائلاً لعشر سنوات قادمة. (تتوقف عن الكلام. تحدق بوجه حبيبها الذي تراه في بصيرتها حسب) حبيبي.. لَمْ أرَ وجهَك مشرقاً كما أراه الآن فهل سمعت خبراً يفرحك وينتزعك من بؤس الفراق المرير. ماذا قال لك الطبيب عني؟ هل سأخرج من غيبوبتي؟ (تقرأ ملامحه) ابتسامتك تدل على أن أمراً يخصني قد وقع فعلاً فما هو يا حبيبي؟ (متوسلة) قل لي أرجوك… أرجوك. (تتبدل ملامحه) لا … لا تحزن مرة أخرى فأنا من سبعة أشهر لم اكحّل عيني بمرأى ابتسامتك الحلوة. أنت تعرف بالتأكيد ما تفعله ابتسامتك بقلبي، وكيف تحول الوجود الى إشراقة حب غامرة… ولا يمكن أن أنسى تلك الأيام التي كنتُ أصحو فيها على جمال ابتسامتك وكأن ملايين الألوان من الزهور تتفتح لمجرد أن افتح عيني على كركرتها الندية. ابتسمْ يا حبيبي ودعني آخذ ابتسامتك الى مثواي الأخير. دعني أواجه الموت بابتسامة عريضة منك لأغيظه بها. فالموت لا يأتي إلا بوجه عبوس قمطرير. هل تتذكر حين كنت تردد على مسمعي قول الشاعر: ما العمرُ إنْ لمْ تملئيهِ دعةً وترقصي فيهِ أيبقى عمرُ فارقص وأرقص لك حتى يدركني التعب فارتمي بين يديك الحانيتين. أتعرف حينَ يحينُ أجلي وأغادركم سأظل منتظرة ساعة لقائي بك سيان عندي في الفردوس أو في الجحيم لأقبّل يديك آلاف القبلات لانهما وبهما منحتني أكثر مما أستحق من الحنان فيا لكرمك الذي ليس كمثله في حياتي. أنت ملاكيَ الحارس ومرساة نجاتي يوم لا نجاة لي إلا على يديك، وسيبارك ليَ الغرقى وهم يتلوون ويصخبون: هنيئا لك أيتها الناجية الوحيدة. وسيظهر لي ملك الموت فتتوسل إليه أن يستبدلني بك فيرفض، وأرفض معه لأنك وحدك الذي لا يستحق الزوال. لأنك حبيبي الى أبد الآباد وفناء البلاد والعباد. آهٍ كم احبك يا صباحي. بك ابتدأت أصباح عمري وبك تأفل إشراقاتها. وقبل هذا وذاك دعني أخبرك أنني عرفت سرّ مأساتي ومأساتك يا حبيبي فقد اعترف الطبيب المسؤول عن التخدير ذات ندم، وذات شعور بفعلته النكراء ـــ وهو العارف أنني لن أصحو من الغيبوبةِ أبداً ـــ أنه أجبر ـــ من جهة مسؤولة ـــــ على حقني بمخدر ذي صلاحية منتهية لأسباب يجهلها وربما يعرفها ولكنه يتجاهلها خوفا من تلك الجهة التي لا تحفظ عهدا إذا عاهدت، ولا تفي بوعد إذا وعدت، وهي تطالب غيرها أن يحفظوا العهود والوعود. لقد أرادوا قتلي ولم يجدوا ذريعة أقوى من التخدير الفاسد المميت ليحرموني منك ويحرمونك مني. إنهم مثل قتلة ريحانة جباري، أدانوها وشنقوها بجرم غير مشهود وذنب غير مقترف. وكل التفاصيل التي فبركوها محض كذب وبهتان. وهم مثل قتلة فخرية جمعة وميادة التي أنجبت ابنها البكر وليد خلال عملية الشنق وبعدها. كانت تتشبث بالحياة لا حباً بها بل رغبة إنسانية في إنجاب وليدها البريء ولم يشفع طلبها منهم تأجيل الشنق لما بعد الولادة. لقد شنقوها ورموها على الأرض، وبقدرة عجيبة انفرجت ساقاها وخرج الوليد الى النور. كانوا على ثقة من أنني سأقول ما يفضحهم ولذا اكتشفوا طريقة تموّه على قتلي بصمت مطبق. قتلوني لأنهم يخشون من مصير ينتظرهم حتماً، مثلما قتلوا المئات بل الآلاف قبلي. لا حاجة بي لتذكيرك يا حبيبي بما اقترفوه وأنت الأعرف بما اقترفوه من تعذيب وحشي، وقتل همجي، وجماعي، وتصفيات عرقية، وقومية وطائفية مذهبية، و، و … ولا أبرئ أحدا منهم. تعبت كثيراً يا حبيبي ولم أعد قادرة بعد على تحمل المزيد من مرارة أتعابهم وشرورهم التي لا يحدها حد (باستسلام) دعني الآن أعود الى رقدتي فقد تكون آخر ما تبقى لي في هذه الغيبوبة الطويلة دعني ارقد من دون أنفاسكم التي أعيش بها فصلاً أخر من فصول غيبوبتي الثقيلة (تذهب الى السرير. تجلس على حافته. ترفع ساقيها وتتمدد عليه) وداعا حبيبي (تبكي) وداعاً… وداعاً (ترقد كما كانت من قبل باستسلام وهدوء عظيمين ولم تعد تتحرك أبداً)
* |
: | الزوجة |
مونودراما 2: الزوج
المنظر السابق نفسه. الزوجة لا تزال راقدة على سرير الغيبوبة وستظل هكذا حتى النهاية. مسقط الضوء العمودي لا يزال موجهاً نحو السرير ولكن صار خافتاً جداً وبالكاد نرى المرأة والسرير. تضاء شاشة العرض. نرى المشهد المصور السابق نفسه وإذ تتقدم المرأة والسرير الى الأمام يتم التركيز على وجه الزوج المرافق لزوجته ثم شيئاً فشيئاً يملأ وجهه الشاشة فتطفأ ويسقط ضوء عمودي عليه وهو يقف في المنتصف أمام السرير.
الزوج | : | (يصرخ بمرارة وألم وقد خنقته العبرة وكأن هذا المشهد استكمالاً للمشهد الأخير من الجزء الأول) لا … لا تتركيني يا توأم روحي وحيداً مع همومي الكثيرة ومعاناتي الطويلة الدامية. لا يجدر بك الاستسلام لمشيئتهم. سبعة أشهر مرت وانا آمل أن تعودي اليَّ… حبيبتي من لي سواك أذا فارقتني! أردتك أن تظلّي معي على الرغم من الغيبوبة ووحشيتها. لم اشعر ولو لحظة واحدة بالملل مما أقوم به. سبعة أشهر كنت أدفئ جسدك البارد كي لا تضجر روحك فتقرر مغادرته في غفلة مني وكان الأمل يحدوني أن تعودي لي قبل فوات الأوان.
سبعة أشهر وأنا أتخاطر معك كلّما جنَّ الليل، أو جن جنوني. وكلما كنت انظر إلى السماء أراكِ نجمة تتلألأ بزهو، وتميس بتوهجها بين الكواكب المنيرة. أنت قدري يا حبيبتي ولا أحد قادر على تغييره. كان حبك هو الوجود الذي نشدته يوما، وعشت عليه دهراً، ثم حرموني منه لما تبقى لي من حياتي. أعرف أنك ضحية أخرى من ضحاياهم التي لا تعد ولا تحصى ولا تحتويها مقبرة واحدة. أرادوا موتي في الحياة فاختاروك يا حبيبتي لاعتقال روحي ووضعها في قفص غيبوبتك وما ظنوا أنني سأظلُّ على قيد محبتك الأبدية (يلتفت إليهم وكأنهم على خشبة المسرح) أوغاد كلكم أوغاد. تلغون الدم وتقيمون الولائم على أرواح ضحاياكم. وعلى موائدكم ما لذ وطاب وأتخم بطونكم بالمزيد من الأرواح البريئة. سبعٌ عجافٌ وقد كنَّ السمانَ لكم فيها اللَها واللُهى والجاهُ والرغد (الى جمهور النظارة) تسلطوا علينا وما هم بأفضل منا، ولأنهم يعرفون أننا الأفضل دوما لذا بدأت نار أحقادهم المستعرة تلهب أجسادنا بمختلف الوسائل والطرق الخبيثة. حاربوا الحب وشوّهوا الجمال وملأوا نفوس أتبعاهم بالحقارة والقذارة حتى فاضت بنفوسهم رغبة الانتقام مِنْ كلِّ مَنْ طابت نفوسهم، وترنمت بأناشيد المحبة والإنسانية والرقي. لا أنسى يوم سئموا من بقائك على قيد الحياة فقرروا إيقاف رعايتك الطبية. وسلموك لنا يحدوهم الأمل في موتك داخل منزلنا وبين أيدينا ولم يعرفوا أننا سنتكفل بكِ أكثر من مشفاهم وأطبائهم. وهكذا أبقيناك على قيد الحياة كل هذه الشهور متشبثين بأمل أن تفوقي يوما ما فتعود إليك العافية وتعود لنا الحياة التي افتقدناها بغيابك. كان بعض الأقارب يثنون على صبري وانتظاري لك طوال غيبوبتك القاسية. أصدقك القول يا حبيبتي إنني لم أفقد الأمل في التغلب على جنون غيبوبتك ولم اصدق أنك ستودعينني يوما ما، ولم تخطر على بالي أي امرأة بديلة ولا بديل لك يا حبيبة روحي في هذا الوجود الهش. وعندما ضاقت بهم الحياة وأقفلت عليهم الدروب والخطوب مدّوا لنا يد الصداقة والألفة وكأننا لم نكن أعداء الأمس، وعلى الرغم من هذا عضّوا اليد التي امتدت إليهم مصافحة ومسامحة ما اقترفوا من جرائم بحق الجميع. وعندما أشعلوا نيران الحروب مع المقربين لهم وغير المقربين منهم زجّونا فيها وأرغمونا على الاحتراق في أوارها، ولأنهم لا يثقون بولائنا فقد شكلوا حضيرة إعدام لقتل من يحاول النفاذ بجلده من تلك المحارق. فمن لم يمت بالسيف مات بغيره. هكذا وضعوني بين المطرقة والسندان وكنت تموتين كل ليلة هماً ولوعة وانتظاراً لعودتي المرتقبة. وكنت كلما أعود سالماً توقدين شمعة وكأن حياتي بدأت من جديد تتوهج نورا في ظلام لا قرار لسوداويته المطلقة. شخصياً لم أكن اشعر بالحياة إلا لحظة أضمك فيها الى صدري وتشتعل روحي بنار الحب الذي يأججه فيها حنانك العظيم وإنسانيتك الهائلة. تلك أيام بل سنوات يا حبيبتي لم أذق فيها طعم النوم لا خوفاً على حياتي بل اشتياقاً لك يا حبي. كنت وانا اشتعل بنارهم المستعرة يرسلون في طلبي للمثول بين أيدي محققيهم الملوثة بدم الأبرياء. ويقولون بعجرفة نحن نثق بك ولكننا فقط أردنا تذكيرك بموقعك بيننا. ارجع إلى وحدتك. الوطن لا يزال بحاجة لك في محنته العظمى، وكانوا يقصدون عودتي الى حربهم المشتعلة. لقد فقدت الكثير من حالتي النفسية والعصبية والبدنية أكثر مما تتطلبه الحرب نفسها لا لشيء إلا كوني مارست دوراً وطنياً بغيرة وبسالة هم لا يحبون لعب هذه الأدوار، من قبل الغير، والتي لا يكون لسيدهم فيها حصة التقديس والتبجيل. عذرا حبيبتي لقد بدأت باجترار الماضي وأهواله ونسيت أنني انفتحت على عالمك الهادئ الجميل. دعيني أذكرك فقط بوحشية أفعالهم يوم طاردونا وهم حلفاء لنا فتركنا وليدنا البكر عند جارتنا وغادرنا هاربين كلُّ الى طريق ثم التقينا على طريق الجنوب؟ أتذكرين كيف كان الهمُّ يأكلنا، والشوقُ يمزقنا، والخوفُ واللهفةُ تدمرنا للقاء صغيرنا؟ وكيف استطاعت شقيقتك الصغرى جلب الصغير لنا الى الجنوب الذي لم يسلم من همجيتهم ووحشيتهم القاتلتين؟ حاولنا الهرب من تلك الهمجية المميتة فاختفيتِ في الداخل واختفيتُ في الخارج ولكنهم ظلّوا يطاردون حبنا بلا يأس مثل كلاب مسعورة. لم يستطيعوا الظفر بي على الرغم من محاولاتهم تتبع خطواتي في البلد المجاور. استطعت فيه الحصول على عمل مهم في شركة ما، لكنهم بدأوا يطالبون البلد المجاور تسليمي لسلطتهم الجائرة. لقد جن جنوني حين سمعت انهم القوا القبض عليك وأجبروك على ثلم إيمانك الفولاذي دون نية الاعتداء عليك كما اعتدوا على غيرك من النساء. وعلى الرغم من كل شيء بقيت محافظة على العهد الذي قطعناه على أنفسنا بمحبة وصدق كبيرين. وعندما استسلموا صاغرين ويائسين من إلقاء القبض عليّ شخصياً أصدروا عفوا عني وطالبوني بالرجوع لكن البلد الذي اعمل فيه لم يوافق على طلبهم لأن رجالاته يعرفون حق المعرفة إنني لو رجعت إليهم فان ابسط عقوبة يوجهونها لي هي إعدامي الفوري. أليس هم من أخذوا عهدا من قائدهم ألا يذبح نسيب له بعد أن أصدر عفوا عنه ومع ذلك ذبحه من الوريد الى الوريد؟ ثم برأ نفسه والقى التهمة على أبناء عشيرته. لقد خدمت بلادي وانا في الغربة لا منّة مني ولكن حبا وكرامة لا يفهمونها على الإطلاق. ويوم أدخلتك المستشفى وجدوا أنفسهم أمام أمنية تمنوها من السماء فوجدوها على الأرض مهيئة لهم ليمارسوا بث سمومهم في دمك الطاهر. أجروا لك العملية بعد أن حقنوا جسدك الطاهر بمخدر فاسد فاستسلمت لغيبوبة لا حدود لها زمنياً، وعندما سئموا من وجودك المحير طلبوا منا نقلك الى البيت الذي أحببته بكل ما تملكين من الحب والعاطفة، كنتِ بيننا بروحك الشفافة وأنفاسك النقية. وكنا نوقد صبرنا من نار عودتك المنتظرة. انتظرنا سبعة أشهر كانت قاسية عليّ وعلى أبنائنا يا حبيبتي. وكنتُ كلّ صباح أصبح عليك وعلى إشراقة وجهك التي لم تطفئها مباضع الجراحة. وكنتُ أراك وأنتِ تبتسمين كلما قلت لك بصوت هادئ “صباح الخير يا حبي” فاشعر أنك تتواصلين معنا بجميل مشاعرك، ورقة إحساسك، وطبيعتك الممهورة بالمحبة والصدق والنبل البشري. وعندما أغادرك مودعاً إياك الى عملي، كنت اشعر باطمئناني من أن أبناءنا لن يغفلوا عنك ولو برهة واحدة. يجددون كيس المغذي بكيس آخر ثم تبدأ مرحلة المساج وهم العارفون أن من دونها سيذبل جسدك الغض وتزول إشراقتك التي عودتهم عليها طوال سني عمرك. هم مثلي لا ينسون أبداً أنك غرست لنا في حديقة الدار فسيلة نخل صارت باسقة فيما بعد، ولم ننس رعايتها أبداً. كنت كلما اقتربت منها اشعر فيها بجزء من روحك حتى اضطررت بعد رحيلك الى معانقتها وكأني أعانق روحك الطاهرة. كبرت النخلة وصار لها سعف أنيق، وفي غيابك صارت تعطينا الذّ ثمارها كما أعطيتنا ثمار كبدك يا حبيبتي. أرأيتِ يا حياتي كيف دمروا أشياءنا الجميلة وأحالوها الى عذاب يومي مرير؟! وعلى الرغم من كل هذا ستظل ليالينا تزهو بأنوارك الوهاجة الزاهية كحقل من ورود صفر مصطفة كعقد من اللؤلؤ البراق. (ينظر الى جهة ما على المسرح. يشع النور على تلك البقعة المتوهجة يتأملها الزوج تتبدل مشاعره وتتأجج عواطفه إذ يرى في البقعة زوجته وهي تطلبه إليها وباستغراب ينقل نظره بين جسدها المسجى على السرير وبين هالة النور التي برزت إليه. يتقدم منها يمد يده إليها. يمسك كفيها ويبدأ الرقص معها داخل هالة النور كما لو أنها لا تزال على قيد الحياة، ينتشيان، يشعران بالغبطة والمرح والسعادة، يدوران معا يتوقفان معاً، يحملها ويدور بها بنشوة هائلة، يضعها على الأرض. يحاول تقبيلها لكنها تختفي، يصرخ بها متوسلا) لا أرجوك لا تغادريني يا حبيبتي… اعرف أنني أتوهم وجودك ولكن لا يهم حتى وإن كان وهما فانا اعشقه اعشق وجودك فيه، وحضورك غير المعلن كواقع يزول بلحظات لا بأس في هذا أبدا، ابدأ يا حبي أريد أن أتمتع بحضورك العذب، أريد أن تطبع صورتك على حدقات عيوني وفي قلبي الذي لا يخفق إلا بمحبتك العظيمة. أريد أن تثبت صورتك في يقيني فلا أرى امرأة غيرك ما دمت حياً فلا قيمة لحياتي إن لم تكن صورتك فيها نابضة ومؤثرة وسارية في دمائي. سنين طويلة مرت بي وانا انتظر امرأة تملأ الفراغ العميق الذي ساورني منذ بزوغ فجر مراهقتي الوردي ولم اعرف أنك أنت من سيملأ هذا الفراغ العجيب، لا تغادريني أرجوك أتوسل إليك ولا تدعي نورك ينطفئ في دنيا وجودي. عودي اليّ لأكحل عيني بمرآك يا حبيبة روحي. رحيلك قسوة، وغيابك عذاب وانا الكائن الضعيف بين هذه المرارات التي لا قدرة لي على تحملها. ارجعي ثانية أرجوك (يتوهج النور ثانية ينظر إليه منتظرا ظهورها، فيشعر بالانكسار) يبدو أنني كنت أتوهم ظهورها في غياب الواقع المعيش الذي لا عودة فيه لأي محبوب، ولا إياب لأي عاشق اكتوى بنار الفراق. (الى جمهور النظارة) هل استسلم لقدري الغشوم؟ هل اقرّ بهزيمتي أمام قسوتهم المفرطة. أم اكتفي بالنواح والشكوى وهذا ما تمنوه دوما. لن ادع قسوتهم تغلبني وعلى الحب إن ينتصر تحت رحمة أي زمن غادر. الحب لا يعرف الاستسلام لأحد مهما عظم جبروته، وطال مفاصل الحياة بظلمه وظلامه. (ينتبه مرة أخرى لظهور النور المشع، يقترب منه، يتحدث إليه) أيها النور الأزلي استمر في تدفقك حتى لا يغرق العالم في دياجير الظلم الحالكة. دعني أراها فيك أو أراك فيها فأنتما من نبع واحد، من شجرة درية تتوهج أغصانها كلما قر قرار الظلام وانتشر في أرجاء المعمورة مدمرة ذرات الهواء بفايروساته القاتلة. جائحته لا قرار لها ولن تتوقف يوما ما إلا بعد لأي، وبعد تراجعك أيها النور الأبهى من مشكاة الحقيقة. دعني أتوارى فيك علني أجدها ثانية أو اقبلها ثانية قبلة الحياة ولعل قبلتي تغريها بمغادرة الموت والحضور ثانية أمامي لنمثل معا في صومعة المحبة. أيها النور البهي، استودعك روحها فما من أحد أحق بروحها منك. سبعة أشهر من الانتظار السقيم، والنتيجة واحدة. الرحيل الأبدي الذي لا يليق إلا بمن جبل من مضغة من نور. آن الأوان كي تختفي وآن لعيني أن تنطفئان وتغلقان شرفتيهما فلا تريان المزيد من القسوة ومن لسعات الموت الذي تركونا تحت رحمته سنوات طويلة. وقل لها أيها النور نيابة عني وداعا يا حبيبة قلبي الغالية.. وداعا يا نور عيني… وداعاً ولا تيأسي فإننا سنلتقي يوما ما في عالم مختلف يتسع حبنا الكبير. يختفي النور تدريجياً وتختفي معه أضواء المسرح ويعم الظلام بشكل تام. تفتح بقعة ضوء وهاجة على الزوجين وهما متماسكان بمودة، ينحنيان لتحية الجمهور وينسحبان الى خارج المسرح.
أستراليا 2021 |