فاروق صبري يكتب عن: مسرحية (خنفساء) للمخرج النيوزلندي ديفيد كنتدكتون.. حلول بصرية مقننة وأداء تمثيلي متألق
فاروق صبري
Sabrifarouk446@yahoo.com
مسرحي عراقي مقيم في نيوزلاند
ـ
بين فترة واخرى يحاول بعض المسرحيين النيوزلنديين إعادة عروضهم في قناعة منهم بأهمية الفعل المسرحي ومحاولة من منتجي هذه العروض بأن يشاهدها جمهور أوسع كي يتواصل مردودها المالي من أجل إنتاج عروض مسرحية جديدة ومؤخراً أعيد عرض مسرحية (خنفساء) الذي أنتجتها (فرقة مسرح الحقيقة) عام 1997 والمسرحية من تأليف الأميركي تريسي ليتس الحائز على جوائز عديدة ومنها جائزة البوليتزر عام 2008 ومن إخراج النيوزلندي ديفيد كنتدكتون الاستاذ في معهد الفنون الدرامية والسينمائية.
وعلى خشبة صالة صغيرة لا تستوعب أكثر من 100 متفرج قدمت مسرحية “خنفساء” التي أمتد عرضها قرابة الساعتين تفصل بينهما فترة إستراحة قصيرة للمشاهدين الذين يمكن إعتبارهم من المعتادين أو من النخبة المتواجدين في عروض مسرحية بعكس عروض التهريج الكوميدي وخاصة (ون مان شو) الذي يشاهده الالاف المتفرجين ومن الملاحظ أن مسرحيي هكذا عروض من غير البلدان العربية لا يشكون أو يطرحون إشكالية (أزمة الجمهور) وصالات وأيام عروضهم المسرحية لا يحضرها إلا أعداد قليلة ومحدودة لأنهم مقتنعين بأن المسرح فضاء يخاطب أناس نخبويين يتفاعلون مع الخشبة ويتأثرون بما يقدم عليها من الأفكار والرؤى والمواقف.
وحدث العرض يبدأ من غرفة صغيرة أثاثها متواضع وفقير ، طاولة صغيرة مع كرسين ، سرير وزاوية توحي كانها مطبخ ، المخرج ديفيد كنتدكتون تعمد في سيوغرافية العرض جعل المكان ضيقاً ، خانقاً ، ألوانه باهتة ، مزعجة وزاد هذا الجو الخانق بتسليط الأضواء الصفراء عليه وخلاله نشاهد إمرأة في متوسط العمر تتحرك برتابة وإرهاق ، يبدو عليها القلق وهي ترد بعصبية على تلفون يرن ولا يرد أحد فيزداد توترها وهي تتنقل في أرجاء الغرفة الضيقة وتدخن بشراهة وتشرب أقداح الكحول بسرعة وتتحدث بكلمات تارة غامضة المعنى واخرى شتائم تكليها على زوجها الذي كان في السجن وخرج في الاونة الأخيرة ومع توالي منولجها المشحون بالحزن والتوتر تكشف المرأة واسمها أغنس-الممثلة جو لويد- عن جوانب كثيرة من حياتها حيث توالت عليها المشكلات والخيبات والفقدان وإضطرت إلى بيع وتناول أنواع الحشيش والكحول خاصة بعد أن ماتت إبنتها في ظروف غامضة ، وفي هذه المشاهد المتسارعة تتألق جو لويد بادائها المتميّز تتمكن خلاله بتصعيد إيقاع الحدث درامياً من دون إعتماد المخرج على أية مؤثرات موسيقية أو ضوئية أو صوتية ما عدا صوت طرقات باب غرفتها ، مع أولى الطرقات تفتح أغنس الباب ليدخل بيتر الذي يعرف بنفسه ويطلب السماح له بالدخول ومع مرور وقت قصير من تبادل أحاديث عن حياتهما تشعر أغنس بان هذا القادم سيكون ملجئاً لها وهي التي تبحث عن منفذ للخلاص من عذاباتها النفسية والإجتماعية فيما بيتر يغمره شعور من الراحة مع معها وهو يروي لها بعضاّ من سيرة حياته وما يعانيه من ظروف صعبة بدأت بعد إنتهاء خدمته كجندي في العراق وعودته إلى أميركا إذ يصاب بمرض جلدي خطير بسبب لدغات البق في ساحات الحرب في العراق ، بيتر وأغنس ورغم محاولتها بالتخلص من أوجاعهما النفسية والجسدية عبر إقامة علاقة حب بينهما والذهاب إلى حيث اللهو وتناول المشروبات الكحولية إلا أنهما يفشلان ، فأغنس لا تستطيع الانفكاك من ماضيها ولا حتى من زوجها السابق حيث يداهم غرفتها ويمارس العنف ضدها وتهديدها بقتلها وصديقها بيتر ، وبيتر لا يقدر التخلص من البثور الحمراء الموزعة في كل ركن من جسده وفي مشهد بصري يمتزج فيه الحزن بالسخرية يحاول بيتر وأغنس البحث عن حشرة البق في الأرض والجدران والسرير وحينما يتعبان من البحث يصرخ بيتر قائلاً وهو يشير إلى ذراعه : حشرة البق ليست في هذه الغرفة فقط إنها أيضاً هنا تحت جلدي ….
هنا الصرخة ومنولوجها المكثف إشارة واضحة من أن حشرة البق دلالة فاقعة على إنعكاس أثار الحروب الخطيرة بعد إنتهائها على المجتمع وخاصة على أؤلئك الذي يورطون أو يشتركون فيها ، ففي غرفة الفندق حيث تعيش أغنس وبيتر نلمس بشاعة الحرب ووحشيتها من دون أن نسمع أصوات المدافع وأنين الجرحى ودماء القتلى ، في الغرفة الخانقة تلك تتراءى أوجاع ضحايا الحروب ، حروب العساكر والسياسيين ، وتلك الأوجاع تصل ذروتها وأقصى دارميتها المفجوعة حينما يقرر بيتر وأغنس إشعال النار في غرفتهما ، مقتنعين بان تطهير جسديهما ونفسيهما من تلك الأوجاع لا يتحقق إلا بالنيران وهنا يجسد المخرج المشهد الاخير ، النيران عبر حل بصري بسيط ، اذا نرى جدران الغرفة وأرضيتها وزواياها مغلفة بمادة السليفون دلالة إلى حريق قادم حيث يرش بيتر واغنس الغرفة بالبترول ومن ثم إشعال عود الثقاب وينتهي العرض.
الممثلون جو ليود والكس ئيوان وكريس مولوي وإدوارد نيوبورن وتي بيترسون تألقوا بادائهم لشخصياتهم المتناقضة والمربكة وهم يسردون حكاية العرض وفي أثناء السرد لا تنكشف سياقات العرض من حيث المضمون وإنما تشابك الخطوط الدرامية وتقاطعاتها وإحتدامها ، حيث تظهر أيضاً الشخصيات هي الأخرى تتطور بنيتها وتتغير سلوكياتها عبر أداء تمثيلي متألق ومتقن أضاف بعداً جمالياً على مقترحات المخرج البصرية التي إنحصرت في فضاء صغير ومحدد في التخييل والسينوغرافيا اذ بنى كنتدكتون فضاءه البصري بواقعية مدروسة ومقننة غادرها أو كثّف تفصيلاتها الزمكانية الكثير من المسرحيين الذين يتناولون نصوصاً مسرحية تنتمي إلى الواقعية التقليدية .