وقفة مع كتاب “تصورات في الثقافة المسرحية الصورية”: إبتكار الصورة.. إتقان اللعبة !
المسرح نيوز ـ القاهرة| إصدارات
ـ
بقلم: فاروق صبري
مخرج عراقي مهاجر
في كتابه الصور-الزمن يقول المفكر الفرنسي جيل دولوز (أن لسان الواقع هذا ليس لغة على الإطلاق.
إنه منظومة الصورة-الحركة) ، ولأن من إنشغالات المسرح ، بل أهم إنشغالاته هو صياغة الواقع إن كان حقيقياً أم متخيلاً عبر مجاورة لسانه-الواقع- كمقروء معرفي مع عينه-الواقع أيضاً- كمرئي جمالي ، أي الصياغة المبتكرة للصور المأخوذة من سياقات الواقع المتنوعة والمختلفة ، المتفاعلة والمتعارضة ،
لذلك يرى دولوز أن الصورة الخلّاقة تتشكل حينما يتوفر (قطبان ، موضوعي وذاتي ، واقعي ومتخيل ، مادي وذهني ) ومن ثم مزج القطبين والتفاعل بينهما وصولاً إلى بناء ذائقة واعية في تلقي المنجز الإبداعي. بعد إنهاء قراءتي لكتاب (تصورات في الثقافة المسرحية الصورية) للفنان المسرحي الدكتور عبدالكريم عبود عودة كانت مقولات دولوز حاضرة عندي حيث ألحّ عليّ هذا التساؤل : وهل هناك مسرح بلا صورة !!!؟
ربما تكون الإجابة المعروفة والمتكررة ، طبعاً لا… فاي عرض مسرحي فيه مشاهد مرئيّة تتوالى ولكن هل ما الذي يميّز العروض المسرحية لجهة سيناغرافيّتها البصرية !!؟؟ فصول هذا الكتاب وعبر قراءته المعرفية الأكاديمية تفرش الطريق خضراء أمام إجابات متنوّعة مستقاة من مشاهدات ومعايشات لمعالجات النص الشكسبيري ولتجارب الفنان سامي عبدالحميد في عرضه ( إحتفال تهريجي للسود ) وللفنان صلاح القصب في (أحزان مهرج السيرك) وللفنان عوني كرومي في عرضه (تداخلات الفرح والحزن )
وهذا الأمر يشير إليه الباحث المصري الكبير أبوالحسن سلام في تقديمه للكتاب ،يؤكد أهمية تحليلاته-أي الكتاب- الجمالية والفكرية ، حيث يعتبره كـــ(أحدث ما كتب في العربية عن مسرح الصورة وتمثلاته ) ويدعم رأيه هذا في موضوع هو يشير إلى توالد الصور وتلاقيها وتفاعلها وبنائها وإختيارها ، حيث يستشهد بالفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه الذي يقول (أن جمع الصور والتخيير بينها وضمها بعضها إلى بعض في عمل فني ،
كل ذلك يفترض أن يكون الفكر متمتعاً بملكة الإبداع) ، وهذا التجميع الصوري وإختياره وصياغته جانب من جوانب البنيّة السينوغرافيا ، بل هو الجانب الجوهري والذي يسميه المؤلف عودة بـــ(فلسفة الصورة) كونها (ذائقة جمالية ، إسطورية ، سحرية ، طقوسية، ما ورائية يبحث عنها مسرح الصورة ليشيد خطابه الفني) ، لذلك تركز فصول الكتاب على قراءة وتحليل ماهيّة بناء الصورة في العرض المسرحي . ومن هذا المنطلق ، منطلق العرض المدهش ، المختلف ، المغادر للنمطية وتدوير الحلول البصرية ، يشكل النص الفضاء الأول لأولى الخطوات في سينوغرافية العرض ، من هنا يبدأ الشغل وطرح التساؤلات على المقروء-النص من قبل التقنيين والفنيين وفي مقدمتهم المخرج الذي يتبنى مهمة خلق بيئة العرض كأمكنة والأحداث والشخصيات وأبعادها النفسيّة والتأويلية والجمالية ويثبت الدكتور عودة بعضاً من المهمة الإخراجية عبر إتجاهين ، في الأول نشاهد ( تشكيلاً حركياً يعتمد في إستنباط مصادره الإبداعية من الفهم الواقعي للأدب والفن) ،
أما في الثاني يذهب إلى المخرج إلى فضاء أخر مختلف لكنه مدهش حيث يبني بصريات (تهتم بإثارة الخيال لدى المتلقي في تحليل تشكليلاتها الحركية من خلال دراسة التراكيب الإبداعية غير الواقعية ) وانا شخصياً أميل إلى هذا الإتجاه الذي يمهد الطريق إلى حيث البحث والكشف والإبتكار، إنه طريق ممتع لكنه ليس سهلاً ويحتاج إلى موهبة فذّة ومعرفة متقدة وطاقات تخيللية إمتلكها وعمل بها فنانون مسرحيون مازالت عروضهم المسرحية تعتبر محطات مهمة ومختلفة ومثيرة للتساؤلات والنقاشات والدراسات وفي هذا السياق يتحدث الدكتور عبدالكريم عبود عودة عن ثلاث تجارب مسرحية عند الفنانين صلاح القصب وسامي عبدالحميد وعوني كرومي والتي أصبحت (ركائز معرفية متجددة للتعامل مع العرض وفق الإجتهاد المنهجي والتجديد )
وهذه التجارب رغم إختلاف وتباين بنيتها الفكرية ومعالجاتها البصرية إلا أنها خلقت وعياً متقدماً وذائقة متميّزة عند المتلقين ، المشاهدين الذين صاروا بعداً فعالاً ومتفاعلاً من أبعاد العرض المسرحي في العراق. يأخذنا مؤلف هذا الكتاب الدكتور عبدالكريم عبود عودة- كناقد يقرأ ويفسّر ويطرح مقترحاته النقدية- إلى فضاءات العروض المسرحية ليست كونها فرجة ممتعة ومختلفة فقط وإنما يدعونا-كخبير يدرك ويتقن سر وماهيّة اللعبة المسرحية- إلى مشاهدة كيفية تأسيس هذه الفرجة وإلى عقلية ومخيّلة وذائقة مؤسسها ، إلى النص وزمكانيته وشخوصه وطقوسه ومضامينه ، الإخراج ومعالجاته البصرية والفكرية والجمالية ، الممثلون وطاقاتهم الجسدية والصوتية ، الموسيقى والأزياء والإنارة وتفاعلاتها الدرامية في العرض المسرحي ، إذ يقول عودة : (فالممثل وعناصر البيئة المسرحية بأبعادها التشكيلية ، ديكور ، أزياء ، ضوء ، يعمل المخرج على إنتاجها في وحدة فنيّة تشكيلية داخل حدود المكان المسرحي) .
ووفق قراءة الكاتب للتجارب الفنانين الثلاث الذين يتقنون سر لعبة العرض المسرحي فإن منجزاتهم تتماهى مع (فلسفة الصورة) ومتعتها ومعرفيتها وقدرتها على التواصل مع المتلقي أو الدارس للمسرح والتفاعل معه ومع همومه وأوجاعه ، هواجسه وأحلامه وإثارة تساؤلات في ذهنه وتخليص وعيه وذائقته من (الصورة) الراكدة المخدِرة والذهاب به إلى فضاءات الصورالمبتكرة في جماليتها ومضامينها في العرض المسرحي .