أ.د. راندا حلمي السعيد تكتب: التكوين المعرفى فى مسرح الطفل – مسرح صلاح جاهين نموذجاً – (4 ـ 5)
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
أ
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
أ. د. راندا حلمي السعيد
أستاذ التمثيل والإخراج
قسم العلوم الأساسية
( توظيف الجمادات ودلالاتها )
- الدائرة المخترقة :
للشكل الدائرى عدة دلالات ، تتجسد فى مخيلة المتلقى ، سواء كان قارئ أو مشاهد ، فالدائرة دلالة الاستمرار ، فأى نقطة توجد على قطرها ، تظل تسير فى مسارها الدائرى ، دون توقف ،
مما انعكس على دائرة (جاهين) التى ظهرت فى بداية النص معبرة عن دائرية الحياة ، التى تبدأ بالميلاد و تحقق الوجود بعد اللاوجود ، و عملية اختراق (صحصح) لها ، عبر عن حالة الاندفاع، فهو دلالة على مدى رغبته فى اختراق المجهول ، و التعرف عليه ، فالطفل عادة يسعى للتعرف على كل ما يجهله ،
فما بالنا بصحصح الذى يبحث عن صناعة و جوده، فنجد (جاهين) تاركاً دلالة رمزية بصرية على الدائرة ليجذب أعين المتلقى لقراءتها خلال كلمتين الأولى (صحصح) بخط كبير ، و قد عبر كبر خط هذه الكلمة ، قياساً بصغر خط الكلمة الثانية (لما ينجح)، فكأنما الرسالة الأولى (الصحصحة) و تركيز الانتباه لحدث مستقبلى شرط تحققه هو النجاح ،
الأمر الذى تحقق، خلال النص ، بأن (صحصح) سيحصل على ساعة يد بشرط نجاحه، و هى الفكرة الرئيسة التى بنى عليها (جاهين) نصه ، و لا تقتصر عملية النجاح على الامتحان، بل أوضح أن النجاح الحقيقى هو تنظيم الوقت ، ليتحقق للإنسان المتعة و المعرفة ، خلال عدد من السلوكيات المكررة ، خلال مراحل الحياة و دائريتها ، و مع التكرار و الاستمرارية يحدث التعديل و الارتقاء ، وفق ما جاء به (بياجيه) فى نظريته .
- أثاث المنزل:
جاء ظهور أثاث المنزل بطريقة عبرت عن الوجود بعد العدم ، و هو رمز لحياة الإنسان ذاتها ، فبعد أن حقق الإنسان وجوده مخترقاً دائرة الميلاد ، يبدأ فى التعمير ، إلا أن عمليات توالى ظهور قطع الأثاث ، كمتغير حداثى لتحقيق (جنى القمقم) للأمنيات ، حيث جعل (جاهين) صحصح الإنسان هو من حقق رغباته بالعمل و الكد ، و هى دلالة عبرت عن قيمة العمل لأجل الحصول على متطلبات الحياة .
- الشارع:
كلمة شارع تعنى للطفل الحرية و الانطلاق ، و قد أوجدها النص لنفس المعنى ، معبراً أن (صحصح) يلعب فى الشارع ، الأمر الذى ترفضه ثقافة ما بعد الستينيات إلا أن النص يتبنى فكر الستينيات و ما يحويه من مفردات تناسب تلك الفترة .
- السيجارة:
بمجرد ذكر كلمة سيجارة تتبادر إلى الذهن صورتها ، بكل ما تختزنه من سلبيات سلوكية، و كان من الأولى ألا تذكر ، إلا أنه ذكرها ليعمق الأسلوب الطبيعى فى تشكيل الصورة الذهنية ، لتحقيق فرجة طبيعية للأب فى كل بيت – خاصة فترة الستينيات و السبعينيات و الثمانينيات – فى كل بيت الأب يدخن سيجارة فى أوقات الضيق و الغضب خاصة – و هو ما رفضته الثقافات الجديدة بعد الثمانينيات حيث زيادة الوعى .
- النظارة:
معنى أن الأب يرتديها ، أنه لا يرى جيداً بدونها ، و عندما ارتطمت الكرة ، فكسرت النظارة القديمة ، التى لم تعد صالحة للرؤية ، و فى هذا دلالة مهمة ، فالنظارة يجب أن تنكسر ، لأنها لم تعد توضح الرؤية للأب فى طبيعة تربية ابنه ، فجاء كسرها ليقول للأب أيضاً صحصح لعدد من السلوكيات السلبية ، و منها شرب السجائر و اللعب فى الشارع على سبيل الافتراض .
- الجردل:
بسقوط (صحصح) بداخله برأسه – أداة تفكيره – يعبر عن حالة الفوضى السلوكية ، التى يعانى منها ، و قد عكس (جاهين) تلك الفوضى ، خلال عدم قدرة (صحصح) على الكلام ، فقد عبر بهمهمات غير مفهومة ، عبرت عن عدم قدرته فى التعبير عن ذاته ، فهذا الجردل هو خطأ (صحصح) الذى وقع فيه ، و جعل تفاصيل حياته فوضوية ، و قد استغل (جاهين) السقوط فى إشباع النص بفكرة السقوط لعدم الالتزام فى الحياة و عدم احترام الوقت .
كما للجردل دلالة فى الموروث الشعبى ، فهو يعنى (البلاهة) التى تعبر عن شخص غير منضبط ينكب انكباباً فى مواقف حياته المختلفة .
- الكرة:
وظفها (جاهين) كطلقة أو قذيفة فى وجه الأبوين ، مخترقة زجاج النافذة ، لإيقاظ هذا العالم المنفصل عن عالم الطفل ، محدثاً فتحة فيه ، للتوغل خلالها لعقول الأباء ، و توجيه انتباههم تجاه أطفالهم ، لتقويم سلوكاتهم و إعانتهم على النمو المعرفى و الإرتقاء .
- السرير المتأرجح:
حين ينام الطفل على فراشه ، فإنه يسلم نفسه إلى عالم افتراضى ، يتحد معه ، كجزء منه يشكل مفرداته من قاموس يومه و اهتماماته التى تشغل باله و تسيطر عليه ، مما جعل (جاهين) يمنح المخرج وسيلة تقنية ، تنقل (صحصح) و المتلقى من عالم الواقع إلى عالم افتراضى ، تجتمع فيه الأضداد و تتحد ، و يستوعب العقل اللامعقول ، فأرجحة السرير ، هى حالة انتقال تدريجى من عالم الواقع إلى حلم يقظة ، استدعى (صحصح) مفرداته من كلمة (الساعة) المشروطة بالنجاح، مما جعل عملية الاستدعاء تدريجية لمفردات هذا الواقع الافتراضى وصولاً إلى المعرفة، فعملية التأرجح فى ذاتها عبرت عن حالة التردد فى اتخاذ القرار ، وعدم رسوخ المعرفة ، و يتم الثبات عند الوصول إلى المعرفة و فك شفرات المجهول .
- التلفاز – الراديو – صوت المعلق:
وظف (جاهين) عدداً من مفردات التطور التكنولوجى فى فترة الستينيات مثل التلفاز و الراديو ، متخذاً منها دلالات مكونة للصورة البصرية و السمعية ، محققاً فرجة مستساغة فى ذلك الوقت ، لخدمة حالة الشغف التى انتابت (صحصح) فى لهفته و رغبته فى النجاح ، ليحقق حلمه، و يتقلد سلم النجاح صعوداً للمجد – النمو المعرفى – الذى هو بالنسبة له الحصول على الساعة.
(نماذج لأنسنة الحيوان و الجماد و توظيفها فى النص و دلالاتها)
- الساعة :
فى إطار أنسنة الجماد أكسب (جاهين) الساعة صفات إنسانية كثيرة ، مثل الكلام و الحركة، و فى إطار الأعمال الخارقة جعل لها قدرة على التحول و التبدل و التشكيل ، و لم يكن ذلك أمراً اعتباطياً ، بل جعل منها الوسيلة الكبرى ، التى ينبثق منها الكثير من المعارف ، لكى يستقيم السلوك ، و يتحقق النمو المعرفى ، فقد كانت الساعة هى الأخرى متغيراً حداثيا لفكرة ( الجنى القمقم ) أو بالأحرى صندوق الدنيا ، إلا أنه لا يحقق الأمنيات ، و إنما يقوم السلوك ، خلال تجسيد مفردات لفظية و تحويلها إلى صور بصرية و سمعية ، لتكون سبل توصيل المعارف متنوعة ، مهما اختلفت سبل التلقى .
كما تماثلت الساعة فى كبر حجمها ، مع الدائرة المخترقة ، واختراق الحياة ، هو دلالة على فكرة الحياة ذاتها ، التى تتمتع بالاستمرار و الدائرية و التكرار ، يقودها الزمن ، الذى يحقق ارتقاء فى السلوك ، خلال اكتساب المعارف ، التى تمكن من استجابات مسبقة لمثيرات متوقعة أو غير متوقعة وفق ما نظر له (بياجيه) .
- عقارب الساعة:
كان لها دور الموجه خلال الثواب و العقاب ، حيث اكسبها صفة اليد ، التى تضرب لتعاقب عند حدوث الخطأ ، و تضم و تحنو كيدى الأم عند الشعور بالخطر و لطمأنينة أو للإثابة .
- الشمس:
جعلها (جاهين) تتحدث بلسان القائد ، الذى يوقظ جنوده فى تمام السابعة ، بقولها ( اضرب شعاعى فى الوشوش ) فعملية الضرب أكسبتها صفة الحزم و القوة ، فهى صارمة هدفها منع الكسالى من النوم ، حيث ينتابها حالات الغضب لعدم امتثال (صحصح) لأوامرها ، فشمس (جاهين) ليست كأى شمس فإذا كانت شمس الدنيا تظهر من السماء ، فشمس (جاهين) ظهرت من الساعة فهى شمس موجهة للطفل ، لتجعله يرتقى معرفياً ، خلال معرفته بأن الساعة السابعة هى وقت الاستيقاظ للذهاب للمدرسة .
- الجرس:
جعل (جاهين) من صوته أداة لتنبيه (صحصح) ، (يلا أوام تلم تلم) كما منحه صفة المطاردة لصحصح ، فلم يكن أى جرس ، و إنما جرس المدرسة أى جرس الالتزام ، و قد جاء هو الآخر من الساعة من خانة الثامنة توقيت التواجد بالمدرسة ، ليكرر على صحصح ضرورة الالتزام بالوقت .
- الحذاء و رباطه:
جعل الحذاء يتحدث فى حالة من القلق و التوتر ، فصحصح لم يتمكن من ارتداءه فيركض خلفه حذاءه و يدخل فى قدميه ، و هنا تبدأ المعاناة ، فالحذاء له رباط و بسبب عدم التزام صحصح بالوقت و تنظيمه ، لم يتمكن من ربطه ، مما تسبب فى أرقه وتعثره طوال الوقت ، و تنغيص رحلته ، فكان بمثابة كسر لإيهامه ، و إيهام متلقيه فى كل مرحلة من مراحل تكوينه المعرفى ، فكان بمثابة إبرة توخذه من الاستمرار فى سلوكه الفوضوى ، فقد ربط التعثر فى الحياة بالتعثر فى أثناء المشى ، بسبب رباط الحذاء ، ذلك الرباط الذى سلبه أداة التفكير ، فلم يجعل (جاهين) العقاب لفظى ، بل مجسداً سببه أمراً قد يكون تافهاً ، إلا أن كبير النيران من مستصغر الشرر .
- الجمل:
فى إطار أنسنة الحيوان و حب الطفل لها ، و وجودها الخصب داخل الموروث الشعبى ، و سهولة تلقى الطفل القيم خلالها ، أظهر (جاهين) مدرس اللغة العربية على هيئة عنق جمل ، و دلالة توظيف (الجمل) تعود إلى البيئة العربية ، التى يعتبر الجمل من أهم تفاصيلها ، فعادة ما يستخدم كرمز للبيئة العربية ، كما جعل لغة حوار الجمل اللغة الفصحى ، ليستكمل الصورة شكلاً و مضموناً
- أبو الهول: (رأس إنسان و جسم أسد حيث العقل السليم فى الجسم السليم)
يظهر فى خانة العاشرة معلناً حصة التاريخ فقد وظفه ليكون أستاذاً للتاريخ ، و فى هذا دلالة بصرية ، خلال صورة أبى الهول ذاته ، الذى يعبر عن تاريخ الحضارة المصرية القديمة ، كما أن أبا الهول فى حد ذاته تعبير عن عقل الإنسان و حكمته و علمه ، التى اعتز به القدماء المصريين ، رابطاً مفهوم الحضارة / التاريخ بالزمن ، الذى يجب أن يستغل فى البناء و التعمير ، ليتمكن الإنسان من صنع حضارة صامدة عبر الزمن . خلال دلالة غير مباشرة على بناء المعرفة و تكوينها ، لينمو الطفل نمواً سليماً صامداً كأجداده الفراعنة .
- زهرة حنك السبع:
فى إطار أنسنة النبات ، يتخذ (جاهين) من هذه الزهرة رمزاً لأستاذ النبات ، و لم يأت اختياره لهذه الزهرة تحديداً ، إلا دلالة مقصودة ، فحنك السبع يتكون اسمها من شقين ، الأول (حنك) و المقصود الفم و مايحويه من أسنان و هو موطن القضم و المضغ و البلع ، مثيراً للرعب ، و ليس أى حنك ، إنما حنك السبع ، و السبع من الحيوانات المفترسة المثيرة للرهبة و الخوف ، و قد وظفها (جاهين) أستاذاً قوياً عنيفاً ، يطبق العقاب على المهمل جراء إهماله فى عدم احترام الوقت، فانزل عليه عقاب يتناسب و مفردات ذلك الزمن و ثقافته (أن يتذنب ساعة) .
- الفراشة:
يمنحها هى الأخرى صفات إنسانية كالكلام ، مستغلاً فيها فكرة الحرية و الإنطلاق ، موظفها فى حالة الشغب الذى ينتاب الطفل فى أثناء اللعب ، و قد أظهرها فى وقت عقاب أستاذ النبات لصحصح ، مبرزاً فكرة حرية الحركة و الانطلاق و مدى أهميتها فى حياة الطفل ، و معادلها الفراشة التى أثارت غضب (صحصح) و غلظت ، عقابه فى الحرمان من الحرية حتى غلبه البكاء، حيث تغنى الفراشة بأغنية تذكر بها الأسباب الجوهرية فى استحقاقها الحرية و اللعب، تمركزت فى إلتزامها بإتمام مراحل حياتها فى أوقاتها المحددة .
- الشوكة :
قد وظفها كـ ( خادمة ) بكل تفاصيلها الأسلوبية فى الحوار و الحركة ، و جعلها وسيلة لتعديل السلوك ، فالشوكة من أدوات المائدة ، لكن فى تحليل حروف كلمتها تقوم بعملية الوخز ، و هو شئ مؤلم ، الأمر الذى فسر فكرة انتقاءه للشوكة تحديداً من أدوات المائدة ، مما يجعل (صحصح) يزداد غضباً ، فيكون لديه رفضاً ذاتياً لأفعاله و من ثم تصحيحها ، فقد جعل (جاهين) للشوكة أصابع كوسيلة عقابية جسدية تقوم بغرس أصابعها فى ظهر (صحصح) (إرفع إيدك) .
- علامات الحساب – البرتقال:
تتضافر مع كراسة الواجب علامات الحساب ، التى جسدها فى تكوين يتحرك و يغنى مبرزاً علامات الجمع و الطرح ، و هى العلامات الأساسية التى تبنى عليها مبادئ الحساب فى المرحلة العمرية التى يمر بها صحصح ، و قد استغل (جاهين) فاكهة البرتقال بلونها الجاذب لعين الطفل ، ليحولها إلى أعداد يقوم خلالها (صحصح) بعملية الحساب ، الأمر الذى عزز شعوره بالجوع ، حيث أنه لم يتمكن من تناول الطعام فى موعده المحدد ، مما أكد له عظم خطأه فى عدم الالتزام بالوقت و احترامه له .
و من ثم جاءت الجمادات فى المسرحية تنبض بالحياة ، و تتحرك حاملة الدلالات و المعانى . و قد جاء كل ما سبق فى إطار لغة نسج بها الحوار بلغة عامية مصرية من ستينيات القرن الماضى ، تتطابق فى الكثير من ألفاظها مع لغة الشارع البسيطة ، داخل الحارة المصرية الشعبية ، حيث استخدام بعض المفردات و الألفاظ الشعبية ، و يبدو أن (جاهين) قد تأثر فى لغة حواره بلغة الكوميديا الشعبية المصرية ، حيث تتم لغة الحوار بالعامية مسجوعة و سوقية أحياناً و مغناة ، خاصة و أنه كتبها لمسرح العرائس ، و هو وسيلة من وسائل الكوميديا الشعبية المصرية و الفرجة الشعبية [1]، و ذلك إنه من تقنيات الفرجة الشعبية ” تحقيقها المتعة السمعية و البصرية فى إطار كوميدى ، موظفاً فنون الموسيقى و الغناء و الرقص مع الأداء التمثيلى الساخر الكاريكاتيرى و ذلك مع توظيف العرائس ، التى هى البديل العصرى عن خيال الظل و القراقوز” [2]
و من ثم تضافرت عناصر تشكيل فى الفراغ فى هذا النص فى توليد الدلالة الدرامية المحققة للرؤية الحداثية ، لإنتاج دلالات درامية و جمالية ، خلال تزاوج الفكر و الفرجة فى تكوين المعرفة و من ثم النمو المعرفى للطفل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) انظر فى : أحمد حلاوة (د) ” الإشكالية الجمالية بين التمثيل البشرى والدمية ” ( القاهرة – مجلة كلية الآداب – جامعة حلوان ع 18 – يوليو 2005 ) ص 112
[2] ) انظر فى : عمرو دوارة ” حلاوة وحارة عم نجيب ” ( القاهرة . مجلة الكواكب 16/1/2006 )