مقالات ودراسات
“الاستوديو التحليلي المسرح العربي” قراءة فيي مسرحية “فريمولوجيا”: مقدمات من أجل قراءة للناقد المغربي: د.عبد المجيد شكير
عرض ضمن عروض الدورة الـ 14 من مهرجان المسرح العربي 2024
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
إعلام الهيئة العربية للمسرح
#الاستوديو_التحليلي_المسرح_العربي
إنَّ المشاهدة عن بعد لعرض مسرحي تُقصي طقوس الفرجة المباشرة المريحة، وأجواء الإحساس الحي بالعرض، لأنها تمنع عنّا الصلة الحميمية/ التلقائية المفترضة بين الإبداع وتلقيه، وتمنع، أيضا، كل المؤشرات الآنية المرتبطة بلحظة العرض التي من شأنها أن تجعلنا في صلب اللعبة المسرحية وإيقاعها وتحولاتها الفجائية.
من هنا، أعد مشاهدة “فريمولوجيا” عبر تسجيل الفيديو مشاهدةً ناقصة وباردة، يُعوزها الإحساس بحرارة العرض والنفاذ إلى جوهره اللعبوي أساساً، وإلى تفاعلات التلقي الآنية والتلقائية.
لذلك، فإنَّ ما أقدمه بصدد عرض “فريمولوجيا” عبر هذه المشاهدة لا يعدو كونه ملاحظات يتشكل بعضها من الانطباع، وبعضها الآخر من الاحتمال والافتراض، قد تصلح – في أحسن الأحوال – أن تكون مقدمات من أجل قراءة، وأحدد هذه الملاحظات في العناصر التالية:
العنوان..العتبة
يقدم العنوان نفسه عتبة لولوج عالم المسرحية قبل الدخول إليها، ولوجٌ قائم على الاحتمال والافتراض انطلاقا من مؤشرات متضمنة في العنوان الذي ليس إلا كلمة واحدة، لكنها كلمة مركبة على نحتٍ تجمع بين “الفريم” (الإطار/ البرواز) واللوغوس (لوجيا) التي تستحضر العقل والعلم، مما تبدو معه الدلالة المحتملة للعرض أنها عبارة عن تأطير معقلن، أو عملية علمية للتأطير ورسم الحدود، من حيث كون الإطار يضع حدوداً مضبوطة لشيء لا يستطيع الانفلات منها أو الخروج عنها. والإطار، أيضاً، شكل هندسي رباعي الأضلاع وارتباطه بالـ”لوجيا” يجعلنا نفترض أنَّ العملية العقلية العلمية هذه تنتمي إلى عالم الرياضيات في شقها الهندسي..فماذا يؤطر “فريمولوجيا” علمياً وهندسياً؟ وأية دلالة هذه التي اختارت العقل مدخلاً للطرح والمعالجة؟ وأي قيمة هذه التي ارتأى مؤلف العرض ومخرجه أن يشكلها هندسياً؟
مع انبلاج إضاءة العرض، تبدو بصرياً احتمالية الافتراضات القائمة على مؤشر العنوان، إذ سرعان ما نجدنا أمام سينوغرافيا قائمة على الشكل الهندسي لإطارين عموديين موزعين على جهتي الخشبة بالتوازي السيمتري، مع اختلاف أنَّ أحدهما في خلفية الخشبة والثاني في مقدمتها، يتساوق معه اختلاف في الجنس، أيضاً ، حيث يتأطر داخل أحدهما رجل بينما يؤطر الثاني امرأة هي من تبادر بفعل الكلام، وإنْ احتل إطارها خلفية الخشبية، بينما سكن الصمت إطار الرجل في مقدمة الخشبة.
العرض، إذن، شكل من أشكال تأطير علاقة إنسانية بين رجل وامرأة، بدا من الحوار الأول ذي القوة الانفعالية اللافتة أنها علاقة صراع وجدل. لكن، صراع حول ماذا؟ وجدل بصدد أي اختلاف؟..
تقادم التيمة وجدة الطرح:
اختارت مسرحية “فريمولوجيا”، على مستوى مضمون العرض، تيمةً تكاد تكون مستهلكة من حيث تكرارها في المسرح وفي مجالات إبداعية أخرى، يتعلق الأمر بصراع الرجل والمرأة، التيمة التي أخذت حيزاً كبيراً في الإبداع المسرحي العربي. وكثيراً ما تلخصت في محاولة إماطة اللثام عن الواقع المزري الذي تحياه الأنثى، خاصة في المجتمعات العربية، حيث الإرادة المقموعة، والاضطهاد والظلم في شتى أشكاله الاجتماعية والنفسية والسياسية، واستحضر في هذا السياق إبداعات مسرحية عمّقت صورة الجرح لدى الأنثى كما هو الشأن لدى سعد الله ونوس في مسرحيتي “أحلام شقية” و”يوم من زماننا”، ولدى غنام غنام في “بدرانة”، ولدى مسرحيين كُثر من المغرب وتونس…
أي أن التيمة هذه شديدة الحضور والتناول، وعميقة الكشف عن واقع المرأة المرير وأشكال اضطهادها، وهو ما سارت فيه “فريمولوجيا” أيضاً ؛ إلا أنَّ لحظة تحولٍ لافتةٍ في منتصف العرض تقلب موازين القوى، وتنقل المرأة من الإطار الخلفي إلى الإطار الأمامي مع امتلاك السطوة والسيطرة، وهذا ما جدَّ في طرح الحاكم المسعود، حيث يلفت الانتباه إلى القوة الكامنة في المرأة، وقدرتها على التحول الفجائي للتحكم والسيطرة. إذ في لحظة فاصلة تكتشف أنها المالكة للسلطة الاقتصادية، والقادرة على القيادة ورسم المسار الذي تريده، وتفرض على الرجل الانصياع والانقياد لشروطها، حيث صدمته بقبول التحدي وقدرتها على أن تضيف “ممسحة” بل “ممسحات” عدة إلى “سطلها” بكل جرأة وانفعال. وأيضاً، باستفزاز الرجل وإخضاعه لشرط التوقيع على ورقة يقر فيها بقبول هذه الإضافة ، وهو شرط تروم فيه المرأة الإمعان في إذلال الرجل وکشف دناءته ونذالته، وعدم امتلاكه سمات الرجولة، وأنه مجرد ذكر.
قلما نحت مسرحيات نحو الكشف عن القوة الكامنة في المرأة وتمكينها من السيطرة والسلطة، إذ غالباً ما كان يقف الصراع عند حدود سطوة الرجل وجبروته، لكن “فريمولوجيا” أطرت الصراع من منظور آخر، صراع تستطيع فيه المرأة أن تمتلك زمام الأمور، وتخضع الرجل لشروطها وسلطتها، بأن تخرج من الإطار الخلفي وتحتل الإطار الأمامي.
التفضيء الهندسي:
عمد الحاكم المسعود إلى تفضيءٍ يقوم على معايير هندسية، أفقياً وعمودياً، بحيث قام هذا التفضيء على ثنائية الفراغ والتجريد، فالفضاء العام للمسرحية فارغ إلا من إطارين عموديين خشبيين، أي أنَّ الفراغ يحتل الحيز الأكبر في فضاء المسرحية، والفراغ هنا بمعنى المطلق/ الأصل الذي يستدعي الامتلاء، رجل وامرأة كفيلان، بشغل الفراغ، ومؤشران ماديان على الامتلاء، لكنهما لا يتصلان أبداً. يظلان في تباعد تام طوال المسرحية مما يجعل فعل الامتلاء محدوداً ومحكوماً بالعقم، كيف نملأ الدنيا والعالم دون أن يتصل رجل بامرأة اتصالاً مباشراً؟
والفضاء يطبعه التجريد أيضاً، إذ لا شيء يحتل الخشبة سوى إطارين فارغين ينتصبان بطريقة عمودية، يؤطران الرجل والمرأة عمودياً، ولا معنى لهما مادياً، فهما إيحاء ببوابتين مجهولتي المدخل والمخرج، وإيحاء بإطارين “يبروزان” صورتين مبهمتين غير ثابتتين، ولربما كان إيحاء بقبرين منتصبين ينتظران الميت الذي يغشاهما ليأخذا وضعاً أرضياً.
هذه الثنائية في الفراغ والتجريد رسمت شكلاً هندسياً لافتاً في الخشبة، بتظافر مع فعل الإضاءة التي رسمت طريقاً مؤطرة بین الإطارين العموديين، يسير فيها الممثلان دون أن يحيدا عن الحدود المرسومة لهذه الطريق، وظل حيز اللعب منحصراً بين الإطار الخلفي والإطار الأمامي وما رُسم بينهما من طريق “مؤطرة” بدورها. فالمسرحية، إذن، تأطير علمي معقلن مع سبق إصرار، يؤطر العلاقة، ويؤطر الفعل، ويؤطر الصراع، ويؤطر أيضاً لعب الممثلين في خط مرسوم بدقة لا يمكن الخروج عنه.
الاشتغال التقني.. من التقنية إلى الجمالية:
استطاع الإخراج أن يقدم مفرداته باستعانة ذكية بأدوات الاشتغال التقني، سواء من خلال الإضاءة التي لم تعد مجرد تقنية لإضاءة المظلم، بل وسيلة جمالية لرسم الطريق، وتحديد مجال لعب الممثلين، وإضفاء الجو النفسي للعرض وصراعاته عبر الألوان والكثافة، أو من خلال المؤثرات الصوتية التي شكلت المظهر الصوتي للعرض، حيث انتقلت هذه المؤشرات من كونها تقنية سمعية إلى جمالية دالة في تصوير أجواء الترقب وأجواء التحول في الصراع الدرامي، ومدى الانفعال النفسي خاصة لدى الممثلة. ويمكن إضافة عنصر الملابس، الذي اختار اللون المتناغم مع الإضاءة وأضفى، بدوره، جمالية خاصة على الفضاء المسرحي برمته.
بهذا التظافر بين أدوات الاشتغال التقني (إضاءة – مؤثرات موسيقية ـ ملابس) وقدرة الإخراج على الرقي بهما من عنصر تقني إلى مادة جمالية، استطاع العرض أن يقدم فضاءً خاصاً على المستوى البصري يراهن على التأطير لكن بإشراقات جمالية لافتة.
مؤاخذات لابدَّ منها..:
لابدَّ من الوقوف على مجموعة من المآخذ على العرض، وهي مآخذ نابعة من وجهة نظر شخصية بالطبع، قد تجد الاتفاق وقد تلقى المعارضة.
يتعلق أولاها بإيقاع العرض الذي بدا رتيباً، وقد ساهم في هذه الرتابة اللعب التمثيلي المنفصل القائم على المسافة والتباعد، كما ساهم فيها ثبات الإطارين بالمظهر والوضع السيمتري طوال العرض، وخضوع تحرك الممثلين لخطية الطريق المرسوم بين الإطارين، والمحدد بدقة لا تسمح لأي ممثل بالخروج عنها.
الأداء التمثيلي، بدوره، يحتاج إلى إعادة نظر، إذ لم يخلُ من مبالغة في الانفعال، خاصة في أداء الممثلة، وظل خاضعاً ـ أي الأداء التمثيلي ـ لتكرارية في الحركة والتحرك، حدّت من أداء الممثلين، وحريتهما في سيادة الفضاء العام للخشبة. مع الافتقاد إلى الحرارة الناتج عن الانفصال والتباعد بين الممثلين.
هي مؤاخذات مؤقتة، على كل حال، في انتظار المشاهدة الفعلية المباشرة للعرض الحي وليس المسجل، لأنَّ احتمالاً وارداً أن الأداء التمثيلي والإيقاع تأثرا بعامل التسجيل، وزاوية المشاهدة.