غير مصنفمقالات ودراسات

الباحث أحمد محمود أحمد سعيد يكتب عن الفضاءات الدِّراميَّة وتجلياتها في مسرح يسري الجندي


المسرح نيوز ـ القاهرة مقالات ودراسات

ـ

 

الفضاءات الدِّراميَّة تتجلى في مسرح الجندي.

بقلم الباحث:  أحمد محمود أحمد سعيد.

مما يلفت النظر أن هناك خلط واضح بين مفهوم الدراما والمسرح، فهناك ثمة فارق دقيق بين النَّص الدِّرامي والعرض المسرحي، فالنص الدِّرامي هو نص المؤلف المكتوب على عكس العرض المسرحي المجسد على خشبة المسرح، الذي يضم السينوغرافيا، الإضاءة، المكياج، الملابس، أداء الممثلين..حتى النَّص الدِّرامي نفسه فإنه يحويه بكلِّ جوانبه وجزئياته.

إذ إنَّ الدراما بوصفها نصًا مكتوبًا، يشوبها النقص، ما لم يمثل النَّص الدِّرامي على خشبة المسرح، وعليه يصل إلى مرحلة الكمال الفني عند عرضه، ويتحول من الصُّورة المكتوبة إلى الصُّورة المرئية المجسَّدة.

وما يميِّز كاتب الدراما عن غيره من كتَّاب الفنون الأدبية الأخرى هو تفرده بالتخيُّل في الكتابة الدرامية إذ إنه يتخيل الشخصيات والأحداث والحوارات والصراعات على خشبة المسرح، كما أنه يستدعي الإرشادات المسرحية بوصفها صورة وصفية مهمة تخلق نوعًا من التعايش التام بين المتلقي والنص المسرحي.

وقبل الوقوف على فضاءات الجندي الدِّراميَّة وجب إلقاء الضوء على بعض المصطلحات المتداخلة مع الفضاء الدرامي ومنها: فضاء المسرح والفضاء المسرحي.

فيعرَّف فضاء المسرح عند ماري الياس وحنان قصاب في المعجم المسرحي بأنه ذلك المكان الثابت الجامد، الذي” يُقَدَّم فيه العروض المسرحية، سواء كان بناءً شُيِّد خصيصًا لهذا الغرض، كصالات المسرح، أم مدرجات الهواء الطلق، أو أي حيز مكاني يستخدم في ظرف ما لعرض مسرحي( شارع، مقهى، ساحة،…) ويشمل حيزين مستقلين عضويًا هما حيز اللعب الذي يتم فيه الأداء، وحيز الفرجة وهو مكان المتفرجين.

كما يُعرَّف الفضاء المسرحي بأنه ذلك الجزء من فضاء المسرح، له رمزيته ودلالته الخاصة به، فهو ذلك الجزء من الفضاء المتخيَّل الذي يتحقق بشكل ملموس ومرئي على الخشبة، أي مكان الحدث … الذي يتم تصويره على الخشبة بعناصر الديكور والاكسسوار وحركة الممثل.

ويستشف من هذا التعريف نوعان من الفضاء المسرحي: أولهما الفضاء المسرحي الداخلي وهو المرئي على خشبة المسرح والفضاء المسرحي الخارجي وهو المتخيل من عرض النص على خشبة المسرح.

ومن خلال ما سبق يمكننا تقسيم الفضاء إلى ثلاثة أنواع: أولهما جغرافي وهو الحيز المكاني للعرض، وثانيهما الدرامي الموجود على خشبة المسرح، وثالثهما التخيلي الذي يستدعي تخيلًا لبعض المشاهد عند العرض.

ويقصد بالتخييلي هنا( الفضاء المسرحي الخارجي)، وقد أكد واعتمد الأستاذ الدكتور محمد عبد الله حسين في بحثه الرائد( الفضاء الدرامي وآلية إنتاج المعنى-دراسة تطبيقية على نماذج من الدراما المصرية) على أن الفضاء المسرحي الخارجي هو فضاءٌ دراميٌ رُغم عدم التسليم بالفصل بين ما هو منظور وغير منظور؛ لأن الدراما في النهاية وحدة واحدة؛ لكن التفرقة بين المصطلحات مهمة وتضع أيدينا على نقاط مهمة أهمها: أن الفضاء المسرحي المنظور( الداخلي) أو الفضاء الدرامي غير المنظور( الخارجي) يظلان وحدة تختلف تمامًا عن فضاء المسرح الذي يرتبط في المقام الأول بخشبة المسرح وبالفضاء الحقيقي الذي يدور فيه العرض.

ومن ثمَّ يصبح الفضاء بالنسبة لقارئ النصوص المسرحية فضاءً دراميًا خارجيًا؛ بمعنى أن القارئ يتخيل كُلَّ ما يطرحه المؤلف في النص من فضاءات مسرحية ويتخيل أيضًا كُلَّ الفضاءات الدرامية الخارجية، فهما في كلا الحالتين بالنسبة للقارئ في حالة تَخَيُّل، على عكس المتفرج، الذي يشاهد ويرى بعينه فضاءات مسرحية داخلية على خشبة المسرح؛ ويلجأ في بعض الأحيان إلى الفضاءات المسرحية الخارجية، عندما يستدعي المخرج ذلك، وهنا يتضح الفارق بين حالة القارئ وهو يقرأ نصًا دراميًا وحالة المتفرج وهو يشاهد مسرحًا.

والمتتبع لمسرح الجندي يلحظ تنوعًا لافتًا للنظر في اعتماده على نوعين من الفضاءات الدرامية أولهما: الفضاء المسرحي الداخلي وهو المنظور والفضاء الدرامي الخارجي وهو غير المنظور على الخشبة. مما أسهم بدورٍ فاعل في النص فأصبح النص نصًا منظورًا بجانب كونه نصًا مقروءًا، يحمل في طياته الكثير من الدلالات لدى المتلقي. وهذا ما يُلاحَظ عند الوقوف على بعض من مقطوعات يسري الجندي المسرحية.

 

تنحصر الفضاءات الدرامية الداخلية في نصوص يسري الجندي المسرحية على عدة أماكن أهمها: المحكمة، الحي، مدينة هالي بالي، الخرابة، السوق …. وغيرها من الأماكن الأخرى، وفي معظمها أماكن مفتوحة، تُعطي اتساعًا في طرح رؤية الكاتب، وعلى خشبة المسرح تتولد فضاءات درامية داخلية لها دلالات معينة تخدم القضية المطروحة، ومن ذلك:

(المسرح مظلم .. انفجارات وومض ينبعث معهما صوت

طفل …)

صوت لطفل:    أبي لماذا يفعلون ذلك ..؟ ألا يؤمنون بالمسيح ..؟

أصوات:        (متهالكة لعجائز)  يا مسيح … يا مسيح … يا مسيح

 يا مسيح … يا مسيح… يا مسيح ..

(انفجارات وضجة أشد تضيع وسطها الأصوات

صمت)

يسقط بهدوء ضوء على ستارة المؤخرة فتظهر صورة

المسيح وديعًا تبقى هكذا لحظات .. ثم يتبع

بذلك انفجار مفاجئ .. تهتز ملامح الصورة ..

تضيع كاريكاتورية بالتدريج .. تضيع في بقعة حمراء

 ساخنة تحل مكانها مع موسيقى عنيفة ماجنة وصخب

.. صمت مع اظلام.

(يسقط ضوء وسط المسرح على صبي في الثانية عشر

في جلباب أبيض .. يتقدم قليلًا ثم يتوقف ..).

يستهل الكاتب مقدمة نصه المسرحي بفضاء درامي داخلي من خلال الإرشادات المسرحية /النص المرافق (PARA TEXT) التي تجعل المتلقي يرى هذه الأحداث المتوهجة من انفجارات وأصوات مهرولة وصخب مروع، بصورة مباشرة داخل النص، أضفت على المتلقي حالة من الفزع والتوتر من جراء تصوير الكاتب للمشهد، وزاد الكاتب هذا الفزع باستلهامه لصوت طفل يصرخ ويستغيث، وأصوات أخرى تطلب النجاة بقولها يا مسيح يا مسيح وصورة المسيح التي تختفي تدريجيًا عندما يزداد صوت الانفجارات وتضيع في بقعة حمراء ساخنة، هذا التصوير رسم في ذهن القارئ دماءً ودمارًا وتشردًا؛ لذلك أتى الكاتب بهذه الصورة الدرامية بوصفها عتبة تمهيدية لدخول المتلقي عالم النص؛ فتُثار عواطفه ووجدانه نحو النص، فهي بمثابة مقدمة درامية كبرى يعرض فيها الكاتب أحداث المسرحية للقارئ.

كما ألمح الكاتب إلى مفارقة درامية من خلال رمزي اللونين: الأحمر والأبيض فالأول يرمز إلى الدماء والثاني يرمز إلى النقاء ليعطي في النهاية للمتلقي صورة حية لطرفي الصراع (الأبرياء وهم شعب فلسطين /العدو الصهيوني مغتصب الأرض) وليس ذلك فحسب؛ بل اختفاء صورة المسيح تدرجيًا وضياعها في بقعة حمراء تدلل على شدة الحدث؛ لتبرهن عن قسوة المعاناة التي عاشها الشعب الفلسطيني، كما استلهم الكاتب المسيح بوصفه رمزًا للبطل الفردي وضياعه في أجواء الأحداث الساخنة، وهذه البداية بمثابة المؤشر الدرامي لأحداث وصراعات ستُسرد على لسان طفل عايش هذه الانفجارات، فهي تعطي صورة حية لأحداث حقيقية دون تزييف.

كما يلعب الفضاء الدرامي الخارجي دورًا مُهمًا في الأحداث وتطورها؛ لأنه يضم أحداثًا مُهمة لا تُرى بالعين بل تعتمد على التَّخيُّل من قبل المتلقي، ومن ذلك حكي عنترة لعبلة ما فعله المنذر به:

العبيد:          يحكي عنترة لعبلة ما كان ..

كيف عفا عنه المنذر فجأة دون سبب ..

فصفا وهدأ .. وحكى للمنذر قصته ..

قصة هذا القلب المضني ..

والمنذر يعلن أن يهديه النوق الألف .

يُحيل الكاتب المتلقي في المشهد السابق عبر الفضاء الدرامي الخارجي إلى تَخيُّل حدث العفو الذي أعطاه المنذر لعنترة، وهو حدث غير منظور يعتمد على الرؤية غير البصرية التي تنأى عن المباشرة، ويسترجع المتلقي من خلالها كلَّ الأحداث التي مر بها عنترة؛ كما يتخيل من خلالها حالة عنترة النفسية وهو يقص له ما مرَّ به، كما ينقل هذا الفضاء القارئ إلى بحث عنترة الدءوب عن النوق الحمر ليخرجه من ظلم العبودية، ويحقق حلمه في الحصول على عبلة، فالفضاء الدرامي السابق يشير إلى الصعوبات والعراقيل التي واجهت عنترة في الحصول على الحرية والبحث عنها.

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock