إصدارات

التأسيس.. في المسرح العربي الحديث


عواد علي ـ كاتب مسرحي عراقي
ـ 
يعدّ عبد الكريم برشيد من المسرحيين العرب القلائل الذين نظّروا للمسرح بعمق معرفي وذهن تأمّلي متّقد، ورؤية فكرية شاملة مدركة لأبعاده الثقافية والاجتماعية والجمالية. وهو في معظم كتاباته لم يكتفِ بالدعوة إلى التأصيل، بل تجاوز ذلك إلى تأسيس مسرح عربي جديد، اعتماداً على الذاكرة الجماعية أولاً، وعلى كل علوم العصر وفنونه وآدابه وصناعاته ثانياً. وهو يرى أنه من غير المعقول أن يبدأ المسرحيون العرب من حيث انتهى الآخرون، بل ينبغي أن يجدوا بدءهم الخاص، ويدركوا أن أي فعل حقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار تأسيس حقيقي.

في كتابه الجديد، “التأسيس والتحديث في تيارات المسرح العربي الحديث”، الصادر عن مجلة دبي الثقافية (2014)، يحلل برشيد واقع المسرح العربي اليوم من خلال تجاربه المتقاطعة والمتناقضة، التي تقف وراءها جماعات كثيرة من المسرحيين، تتعايش وتتفق كلها في الانتساب إلى فن المسرح، لكنها تختلف من حيث فهمها لطبيعة هذا الفن، ومن حيث الرؤية والأدوات والمنهجيات والوسائل والغايات. ويخطئ من يظن، حسب رأيه، أن هذا المسرح هو مسرح واحد، أو أن طريقه يمكن أن يكون طريقاً واحداً، أو أن مهمته يمكن أن تختزل في كتابة المسرحيات أو في إنتاجها وترويجها فقط، ذلك لأننا أمام وجود مركّب ومعقّد، وأمام حالة لا يمكن أن تشبه إلا نفسها، وعليه، فإنه لا يمكن قياس هذا المسرح العربي الجديد بقياسات المسرح الغربي القديم، ولا يمكن تناسي أنه مُطالب بأن يكون أولاً، ويعي هذه الكينونة ثانياً، ويطورها فكرياً وجمالياً ثالثاً، وأن يبحث لها عن أسمائها ومصطلحاتها رابعاً، وأن يبحث لها عن موقع قدم في خرائط المسارح.

هذه الجماعات يحصرها برشيد، مؤقتاً، في ثلاث فئات:
الأولى: هي تلك التي تمارس المسرح بفطرية، وبآلية، وتشتغل عليه وهو في مستواه الأولي والابتدائي، والذي هو مستوى المهنة والحرفة فقط، ويكمن جوهر هذا المسرح في أنه فرجة خالصة، فرجة بريئة كل البراءة من العلم والفكر، ومنفصلة تماماً عن كل سؤال أو مسألة.

الثانية: هي التي أعطت لهذا المسرح جوهره الحقيقي، وارتفعت به من درجة الفرجة البسيطة إلى درجة الفن والأدب، وقد أدركت أن المسرح الوافد يحتاج إلى توطين في الوطن العربي، وأنه بحاجة ماسة إلى تأصيل في التربة الثقافية العربية، وأن أدبه يحتاج إلى أن يغرس في حدائق الشعر والنثر العربيين، وأن فنونه تحتاج إلى أن تكون مرتبطة بروح الاحتفال الشعبي العربي، وأن تكون جزءاً من الظاهرة الفرجوية المعروفة في العالم العربي.

أما الجماعة الثالثة، فهي التي رأت أن الأمر أكبر وأخطر من أن يكون مجرد “تسييق” للآداب والفنون الغربية في السياقات العربية الجديدة، وأن الأمر يحتاج إلى تأسيس جديد يُضاف إلى كل عمليات التأسيس الأخرى، والتي عرفتها كل مسارح العالم وتياراته واتجاهاته ومدارسه أيضاً، وذلك عبر مختلف الفضاءات الجغرافية المتباعدة، والحقب التاريخية المتباينة والمتعاقبة زمنياً، ولهذا لم تقف هذه الجماعة عند حد الاشتغال المهني، مثل الجماعة الأولى، ولا عند حد التأصيل، مثل الجماعة الثانية، وإنما تجاوزت ذلك إلى فعل التأسيس.

ـــــــــــــ

العربي الجديد


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock