الدراماتورجيا.. ما الدراماتورجيا!

المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

بقلم: العباس جدة

القنيطرة في — 28 – 08 – 2016

 

الدراماتورجيا
المسرح هو أولا، عرض، انجاز، أداء، تمثيل، فعل جسدي وتمرين حركي وصوتي يقوم في الغالب الأعم في فضاء خاص. بعبارة أخرى هو أداة جميلة تقدم بواسطتها للمشاهدين أجسام وحركات وأصوات وديكورات وأفعال وألوان في مكان محدد، وعلى
أنها حقائق ، وهي في الأصل أفعال وأجساد خيالية ووهمية، وهذا المجموع هو ظل وصورة لواقع آخر.
فالأمر لا يتعلق هنا بمحاكاة الواقع ونقله كما هو ولكن بتقديم تمثيلية واقامة علاقة واعية بين الفعل المسرحي والعالم.
وأخيرا ان المسرح هو نص محدد بشكل أو بآخر من انتاج مؤلف أو مؤلفين، ويمثله ممثلون أمام مشاهدين. لكن النص موجود أيضا للقراءة.
ما المقصود بالدراماتورجيا؟
الدراماتورج ، منذ القديم، هو المؤلف المسرحي من تأسيس الفعل المسرحي وتبلوره الى حدود القرن العشرين. مما يدل على أن النص يلعب الدور الأول في المسرح وأن الكاتب المسرحي هو الفاعل الأول والأساس في الظاهرة المسرحية.
لكن مع بداية القرن العشرين أصبح دور الدراماتورج هو قراءة النص في ضوء قراءات عديدة بالاعتماد على وثائق واقامة دراماتورجيا تشكل منطلقا للاخراج المسرحي. ان الدراماتورجيا دراسة نظرية وتاريخية وجمالية للدوافع والبنيات الخاصة بتأليف وصياغة النص المسرحي.
فمفهوم الدراماتورجيا يتخد دلالتين — ما يرتبط مثلا بعمل بريخت Brecht نفسه كمؤلف مسرحي يدعو الى مسرح جديد يقوم على مبدأ التغريب. والدراماتورج هو ذلك الذي يحافظ على تراث بريخت بالدفاع عنه وشرحه وتأويله.
وهكذا نتحدث عن “الدراماتورجيا الكورنية” نسبة الى بيير كورني Pierre Corneille من أجل تحديد الموقف النظري لبيير كورني من موضوع التراجيديا، وباقامة مقارنة بين الشاعر ومنافسيه كجون راسين Jean Racine والشاعر وسابقيه، ومعاصريه، ومعارضيه، مع دراسة أثر هذا البناء الدرامي على المتلقي.
وقد بدأ مصطلح دراماتورج يتبلور مع الألماني ليسينغ Lessing1729 – 1781 حين حدد في ذاك الذي يمارس نشاطا نظريا وعلميا باقامة علاقة جسور بين النص والاخراج، ولعب دور المستشار الخبير بخصوص القراءة التأويلية للنص، والدراسة النظرية والتاريخية للعرض المسرحي والبرمجة والعروض.
وباتصال مع التقليد المسرحي الألماني وخاصة البريختي، فان الاخراج المسرحي في فرنسا ثم أوروبا سينتهي باقتباس هذه الجملة من المهام التي يقوم بها الدراماتورج الألماني. وابتداءا من هذه اللحظة تحددت وظيفة الدراماتورج في الاستشارة الأدبية والفنية وفي التفكير في كيفية المرور من النص الى الاخراج.
الدراماتورج اذن هو الذي يجمع كل المعلومات الممكنة التي ترتبط بالمسرحية في جميع المجالات، تاريخية، اجتماعية، لغوية، أدبية، سيكولوجية. فهو بمثابة مخرج ممتاز يتحكم في دلالات وبنيان النص المسرحي. وقد ورد في المعجم المسرحي لباتريس بافيس Patrice Pavis ما معناه، أن الدراماتورج هو المستشار الفني والأدبي للفرقة أو للمخرج وهو المسؤول على اعداد النص المسرحي.
—- الدراماتورجيا الكلاسيكية — الفضاء التراجيدي.
فرض المسرح نفسه في أوروبا السابع عشر الميلادي كلحظة للقاء والألفة وكنمط من العرض تتقاطع فيه مختلف الفنون والمهارات والخبرات. فالى جانب الممثلين والمتفرجين ظهر كتاب مسرحيون جدد يطالبون بشرعية سيادتهم وبحق ملكيتهم للعرض المسرحي وارادتهم القوية في ادارة المهن المسرحية الأخرى. وبذلك يكون المسرح الأدبي قد فرض وجوده في الساحة وخاصة التراجيديا.
وقد استطاع منظرو التراجيديا الكلاسيكية تقليص دور الحدث لصالح الخطاب وانشاد الشعر وتقنين لعب الممثل (الانشاد وتضخيم الصوت) وتقنين التلقي. كما تم الحد من امكانية قراءة النص وتأويله والمطالبة بأن تكون مطبوعة بجمالية موحدة ومضبوطة.
— النظرية الدرامية الكلاسيكية
ما هو معروف في الفن الكلاسيكي هو رغبته في أن لايكون ظاهرا بينا، يراد له أن يكون حاضرا لكن غير ظاهر. ويسعى الى التأثير على المشاهد وجدانيا بنقله على خشبة المسرح من خلال الأسطورة أو القصة الخيالية. وتعتبر التراجيديا هي اللون المميز والراقي للمسرح طوال القرن السابع عشر. فالمسرحية التراجيدية تتكون من خمسة فصول، وتصاغ في الغالب الأعم شعرا، وتستند الى الأسطورة البطولية والحكايات الخيالية، وتقدم للمشاهد شخصيات متميزة وبطولية. فالتراجيديا الكلاسيكية هي أولا رمز جمالي، نبيل ذو قواعد دراماتورجية، تهدف الى اخضاع الجمهور الى تأثيرات انفعالية محددة وهي انفعال الخوف والشفقة ( أرسطو) انفعال الاعجاب ( بير كورني) انفعال الرحمة والشفقة ( جون راسين).
يمكن القول ان التراجيديا تعرض حدثا أو فعلا بشريا بلغة شعرية يهدف الى اثارة الهلع والخوف والشفقة والرأفة في قلوب المشاهدين. كما تعرض جملة من الكوارث والمآسي التي هي نتيجة حتمية لسلوكات الشخصيات البطولية. وعلى ضوء هذا لا تخلو التراجيديا من الخطاب الأخلاقي والدعوة الى تقويم سلوك البطل واصلاح الأخلاق.
وما يطبع التراجيديا هو الصراع القوي بين الشخصيات، والتماسك والترابط، اذ كل شيء في المسرحية له موقعه ويخضع لمنطق محدد وله ما يبرره. كما تزخر التراجيديا بالحواجز والصعوبات والأزمات تفظي في الغالب الأعم الى مأساة الموت أو الى نهاية دموية. كل هذا لايمكن أن يستقيم الا على مبدا المحتمل والقريب من الحق والقابلية للتصديق. وبهدف تركيز انتباه الجمهور فان التراجيديا تقوم على مبادئ أساسية وهي وحدة الزمان والمكان والموضوع.
— الفضاء القديم والفضاء المعاصر للتراجيديا
تنطلق التراجيديا من أسطورة أو حكاية خيالية يمكن أن تشكل حبكة من شأنها توليد وضعية مفارقة تنقلب فيها العلاقات بين الأقارب، أواقامة علاقات مختلة بين الشخصيات بسبب انفعالات حادة (غيرة، حسد، حب، طموح)، أوعلاقات منحرفة تزعزع البنية الأسرية (زنا المحارم، قتل الأب، قتل الأخ). ويركز الخطاب التراجيدي على المشاعر النبيلة والأفعال السامية التي تصدر عن فئة النبلاء والأرستقراطيين. وتهتم التراجيديا بمواضيع ترتبط بالسلطة السياسية وبشخص الملك، وبمن هو قريب منه، والذين يحسدونه، والراغبون في العرش… فهذا الصدام بالسلطة الملكية المطلقة هو الذي يقوي عناصر الموقف المأساوي ويبلور الصراع بين الشخصيات الذي ينتهي بالموت والفاجعة. من خلال حالات أسطورية تشتغل التراجيدي على شخصيات تنتمي الى هرم السلطة، فتبحث في التاريخ اليوناني والروماني القديمين عن مبررات وجودها، وترتبط بالمؤسسات المعاصرة للمؤلفين، محاولة اقامة علاقة بين القديم والمعاصر. على ضوء هذه المرجعية المزدوجة تشتغل التراجيديا الكلاسيكية على فن التباعد ووضع مسافة بين الحدث والمتفرج. فالمتفرج يستمتع بمشاهدة شخصيات على الخشبة ك “هوراس” و”سينا” و”فيدرا” و”الكترا” “و”أوديب” و” أورست” وغيرها… لأنه يتعرف على نفسه من خلال أفعالها وانفعالاتها. فالسلطة والحب والاستبداد والخيانة والزواج في التراجيديا تتحول الى مفاهيم معاصرة للمجتمع الفرنسي في القرن السابع عشرومفاهيم قديمة ترتبط بالعهد اليوناني والروماني. وتخضع النظرية الكلاسيكية لمفاهيم العقل والقابل للتصديق والمحتمل والنجاعة والفائدة. فالمتعة الجديدة تغدو مدنية مهذبة صادقة ومؤدبة. ان الدراماتورجيا الكلاسيكية تعبر عن مثال مجتمع تراتبي ومستقر.
من المحتمل الى الواقعية
كانت الثورة الأنجليزية في1688 تكريسا وارتقاء للطبقة المتوسطة في السلم الاجتماعي. في البداية سعت طبقة التجار الوصوليين الى تقليد عادات الأرستقراطية . لكن سرعان ما احتل الطبيعي مركز الصدارة في تصورها مكرسا قيم الرفاهية ورغد العيش واللياقة والحشمة والأدب، ومحددا للفن غايته في تشييد الأخلاق والحفاظ عليها . وقد أعلن دنيس ديدرو Denis Diderotعن نظريته في “الدراما البورجوازية” من حيث أنها تراجيديا تعرض الانسان ليس في لباس اليوناني أو الروماني ولكن في لباس القرن الثامن عشر؛ كما يجب أن تكون التراجيديا مصاغة بلغة النثر المؤثر،المثير للعواطف والمحرك للشفقة. وقد عبر ديدرو عن قيم الدراما البورجوازية في مسرحيتي “الابن الشرعي” و “رب الأسرة”
ويدين بومارشي Beaumarchais (ت سنة 1799) في ” مقال حول النوع الدرامي الجدي” مبادئ التراجيديا الكلاسيكية لأنها تهدد متعة المشاهد. فهي تصدم ذوق متلقي القرن الثامن عشر وتستبعد كل ما له علاقة بالواقع لتستمد شرعيتها من نفسها. كما بلور مبررات اقامة علاقة بين القاعة والخشبة، حيث دعا الى اجتياح الشخصيات العادية والفقيرة خشبة المسرح لتحقيق ذاك التلاقي بين المسرح والعالم الواقعي. وقد تجلى هذا التصور للدراما البورجوازية من خلال مسرحيته “الأم المذنبة”. فلأمر يتعلق بمسرح عائلي وأخلاقي ميلودرامي يتجه مباشرة الى القلب والعواطف بهدف اثارتها وتهييجها وعلى رأسها انفعالات الشفقة والحنان والعطف.
ويطالب مرسيي Mercier بانتاج واخراج مسرحيات تهم شؤون الأمة. لقد تحققت أمنيته بمجيئ الثورة الفرنسية اذ دعت الى اخراج أعمال مسرحية تضع من بين أهدافها الاشادة بالنماذج الكبرى لحقوق الانسان ومبدأ المواطنة والحرية وقيم الجمهورية.
— من الدراما البورجوازية الى الدراما الرومانسية
لقد استعمل عنوان مسرحية ” هوى واعصار” لكلينجر Klinger كاشارة الى مرحلة الأزمة الأخلاقية والثقافية في ألمانيا، أزمة النمو الاجتماعي وهيجان الشباب وتمرده على العقلانية والنظام البورجوازي. وظهرت على المستوى الاجتماعي النزعة الفردية المتمردة على طغيان الأفكار المسبقة والثورة ضد الاستبداد والانتصار للعصيان والخروج عن القانون. أما على المستوى الفني، ترفض القواعد الكلاسيكية، والتحمس للشعر والغنائية الأنجليزية ولمسرح شيكسبير.
يعارض المسرح الرومانسي التعاقد الاجتماعي البورجوازي، ويناصر الحرية الفردية ويدعو الى التمرد على القيم الاجتماعية السائدة، ومعانقة الحياة بتنوعها وتناقضاتها والدعوة الى تكسير القواليب الفنية القائمة، فحسب شليجل Schlegel يجب على الدراما أن تكون عبارة عن سيرة ذاتية، عن حكاية ذاتية شخصية تعانق الحياة بمختلف مستوياتها وبتوحد روح الشاعر بالروح الجماعية. يقول الشاعر الألماني غوته Goethe عن مسرحية لليسينغ “انها المسرحية الأولى المستوحاة من حادثة مهمة، خاصة بعصرنا.” ثم تأتي أعمال شيللرSchiller ( ماري ستيورت 1800، غيوم تيل 1804)) وأعمال كليست Kleist ( أمير همبورغ 1811) وهي مسرحيات مطبوعة باحساس وطني واضح.
وفي فرنسا دخلت الثورة الثقافية التي يمثلها المسرح الرومانسي، التاريخ بمسرحية ” هنري الثالث وأخته” لألكسندر دوما Alexandre Dumas سنة 1829، ثم تأتي مسرحيات فيكتور هوجو Victor Hugo ك”هرناني” Hernani و”روي بلاص”Ruy Blas.
— أزمة الدراما البورجوازية
بوحي من ديدرو يدعو اميل زولا Emile Zola الى مسرح طبيعي يرتبط أكثر باليومي وبالواقع البشري. ويرفع الفرنسي أندري أنطوان Andre Antoine مؤسس “المسرح الحر” شعار “الحاجة الملحة للتجديد” حيث يتبنى الاتجاه الطبيعي في الادب وينقله الى المسرح. وتصوغ كتابات سترندبرغ Strindberg وميترلينك Maeterlinck على هامش مسرحياتهم ضرورة تجديد الكتابة الدرامية. تنطلق هذه الدراماتورجيا الجديدة من مرجعية واقعية أو بالأحرى تستلهم الواقع. وهكذا يحدد ميترلينك “المأساوي” في “مأساة اليومي” أو “المأساوي اليومي” والذي يظهر أكثر تأثيرا وواقعية وأكثر عمقا وتلاؤما مع وجودنا الحديث والمعاصر أكثر من مأساة المغامرات والأحداث الكبرى. ان التآلف بين لفظتي المأساوي واليومي يقطع مع دراماتورجيا المغامرات والمآسي والكوارث ويقطع أيضا مع المواجهة البطولية غير الملائمة لحياتنا المعاصرة. فالمسرح الذي يتطلع اليه ميترلينك هو مسرح السكون، الذي لا تحدث فيه المغامرات والوقائع. انه المسرح الحميمي الساكن الذي يقوم على الحوار والخطاب والمحادثة بين شخصيات في أوضاع ستاتيكية لا تكاد تتبدل. فهذا هو شأن مسرحية “الأب” و” الأنسة جولي” و “رقصة الموت ” للكاتب السويدي أوغست سترندبرغ حيث يهيمن الخطاب والكلام وتغيب الأحداث والوقائع. وتجاوزا لتنوعهم الظاهر فان مسرحيات ابسن Ibsen وسترندبرغ وتشيكوف Tchekhovوهاوبتمان Hauptmann تتأسس على رواية ضمنية وعلى دراما عائلية سابقة تدعو الى الحكي والخطاب والكلام بدل الحركة والمغامرة، وهي مسرحيات تركز على الحياة العادية اليومية التي تخفي الحاضر والماضي المأساوي للشخصيات وتتستر خلفها الأزمات.
وقد حاول برتولد بريخت تجاوز المسرح الواقعي والمسرح الرمزي بالاعلان عن ظهور مسرح ملحمي يرفض الدراتورجيا السابقة ويحاول تحطيم الارث الأرسطي اليوناني بالدعوة الى مسرح آخر يقوم على “التغريب”. لكن هذه القطيعة تظل نسبية ذلك أن بريخت اذ يدعو الى الحكي لتحقيق التباعد بين المتلقي والحدث المسرحي فهو لم يستطع التخلى عن الحكاية والقصة وفعل الاندماج.
العباس جدة
القنيطرة في — 28 – 08 – 2016

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock