مقالات ودراسات

الشاعرة والكاتبة المسرحية صفاء البيلي تكتب: مأمون الحجاجي.. “هل روحك ورحها جاهزتان للرقص؟”


صفاء البيلي*

شاعرة وكاتبة مسرح ـ مصر

ـ

أن تجهش قدماك قبل عينيك بالبكاء في قلب ليل مدينة  تطالع وجهها لأول مرة ! أن تصافح هواءً مرّ لتوّه على توسيد روح حلمٍ كان يثب ليعانق سماء الله الواسعة  فيصير في طيات التراب! حلمٌ لم يكن عاديا، إنما كان حلما لواحدٍ من أعز إخوتك الذين عرفتهم وتقاسمت معهم خبزهم وملحهم وعشت معهم لحظات انتصاراتهم وانكساراتهم!

إيه يا أسوان! أيُّ ذكرى مؤلمةٍ تحفرينها في قلوبنا ونحن نطأ شوارعك للمرة الأولى؟ تاركين دموعنا محملة بأسئلة تلقي نفسها فوق أرصفتك الباردة ..

من الذي سيتنفس هواءك يا مأمون حجاجي من بعد؟ ولمن سيتسع مكانك في بيتك ،شارعك، في “بيت الشعر” الذي كنت تتكلم عن تدشينه كأنك تتكلم عن تدشين روحك الشاعرة؟ ومن الذي سيسعل طويلا في وصلة معهودة قبل أن يلقي بنكتة بائخة عن الموت وهو يقول ساخرا: “خلاص بقه.. حسن الختام”؟ هل كنت تعلم أيها ” الذي لم يكن مراوغا وراوغنا في الأخير أنه حسن الختام فلم تخبرنا..؟ وأنت “الماكر” نعم كنت ماكرا إذ كنت تدرب روحك دون علمنا على الطيران رويدا رويدا كل ليلة بعد أن ينام عيال الله من الشعراء والأمراء، والأفاقين المحتالين، والعسس، وأصحاب الحاجات! نعم كنت تغافلنا وتفعل، فكيف استطعت أيها الماكر أن تفعلها؟ هل قويَ جناحاك لدرجة أنهما استطاعا حمل جسدك المحمل بالجنون والألم دون أناتٍ ولا دموع؟  يا أيها الجنوبيّ المعجون بالحرف والجنون وحب الحياة.

إيه يا مأمون الحجاجي!

هل أحدثكم أنا عنه؟ وهل أصفه أنا لكم؟ وهو الذي جهز روحه وروح حبيبته للرقص؟ وعانق في وحدته وساعات غيابه عن “قرف” الدنيا جمال سلطانته؛ السلطانة ملك، وألقى على كتف حبيبته “شال حريرٍ أحمر” واحتفل بقلب “رقية” وصرخ بأعلى قمة جبل في روحه: “صوتي حلو يا أزهار” هل أحدثكم عنه حين أرى عينيه الضيقتن الطيبتين المملؤتين حزنا غامضا وتبرقان من تحت عدستيّ نظارته وهو يطلق فرحته الطفولية لانتهائه من كتابة قصيدة، أو نص مسرحي، أو رواية، أو دراسة أدبية، هل أحدثكم عن المبدع الذي لم يكن ينتظر لأن يطبخ أعماله على نيرانه الهادئة، ولا أن يضعها تترنح على موائد غيره، ـ كما يفعل البعض ـ  بل كان يمنحها لأصدقائه وهى “بنار الفرن” وعبر الهاتف تصاب بعدوى بهجته، حتى حين تشحذ شفرات لسانك وأنت تحدثه عما لا يعجبك مما كتب فيتقبله ببهجةٍ لا تدانيها إلا بهجة ميلاد طفل جديد أو حصوله على فكرة لنصٍ واصفا إياها بالفكرة “النميسة”!

فلماذا يا مأمون يا حجاجي تركت الحياة دون أن تشفي غليلك من عذوبة الكتابة وعذابها، تلك الأنثى المراوغة التي يا كم كنت تعشقها، لذا أعطتك نفسها ولم تبخل عليك يوما، فوهبتك نفسها راضية، مرة في رواية، ومرة في قصيدة بالفصحى وثالثة بالعامية ورابعة بدراما مسرحية وخامسة بقراءة نقدية، وسادسة بطرفة تسكبها في قلب صفحتك على الفيس بوك وتهرب!

لم تمت، فنحن الموتى.. أتممت عامك الخامس والخمسين منذ أسبوعين فقط، وياكم كنت سعيدا وأنت تتدفأ بفلذاتك أحمد ومحمد وزينب، زهور عمرك وابتسام روحك وهم يملأون الدنيا من حولك بالأمان، ويمنحان روحك هدوءها وهى التي لم يعرف جناحاها كيف يحطان على أرض البشر المشحونة بالآلام والأحزان والمشاحنات والصراعات يوما!

ها هى الدموع تحفر مجراها في كبدٍ حرّى لأبنائك الذين لا يعرف أحد مقدارهمو عندك سواك والمقربون منا، فيقفون ارتباكا، من سيقلب أوراقهم، ومن سيمحو ذرات التراب عن وجوههم ومن سيمسد بيده الرحيمة برد أرواحهم غيرك أنت؟ ها هم أوزوريس نصير الفقراء، ومن مذكرات الولد المنتظر، وانتظار، والسلطانة ملك، و رقية، و تفاصيل سوداء ومنديل أبيض، وشال حرير أحمر وصوتي حلو يا أزهار وكثير كثير مما خططته بفتات روحك وعصير قلبك!

لم تكن الجوائز تشغلك أيها الأقصري الحجاجي الطيب بقدر ما كان يشغلك شعورك بالإنجاز، أتذكر لمعت روحك حين اقتنص “الانتظار” جائزة الفجيرة للمونودراما، وفي كل جائزة تحصل عليها كنت تشعر بالفرحة كطفل أخضر يبني قصرا من لآلئه الحرة.

نم قرير العين يا مأمون يا حجاجي.. فمن كان له قلب كقلوب الطير مثلك.. على القساة ألا يقتربوا من فضائه كي لا يعكروا صفو روحه..!

هل كنت تعرف أنك مفارقنا فكان آخر ما خطته يمينك على صفحة دنياك على الفيس بوك:

“راح نكتشف إن الورد

هو الوحيد في الدنيا اللى..

مخدشى أجازة

والكل سابه وحيد

لما دبل في الفازة

وإن كل الدموع منحازة

وفي دنيا ملهاش عازة

راحوا منها الحبايب

قلبى اتحشر في قزازة

سلّم على روحك

وأكيد هتتقابلوا

صدفة ف عزا..

في جنازة!!

هكذا كنت تعلم ولا نعلم؟ سامحني يا وسامح كل محبيك وأصدقائك .. للآن لا أصدق أنني لن أسمع صوتك لتطمئن على صحتي، وتسألني بتقطيع جملتك الشهير الذي تتلوه علامة استفهام لا يمتلك سامعها سوى إطلاق ضحكة واعتراف بما خطت يداه: كتبتِ حاجة جديدة؟ وياااه يا عمي كما كنت أناديك وتقول: يا أميرة المسرح ويا سيدة المونودراما..  وكأنه رثاء وكأنه وداع.. يا مأمون يا حجاجي مش كنت تقول انك ماشي؟ أو “إنك فعلا زهقان؟ مع انك مخلوق طيب مش خارق للعادة بتحب التدخين جدا زي الشعر تمام، ..تضحك لحد امّا الكحة تفرفط حسك .. مخلوق طيب.. لا بيزعل ولا بيضايق .. ولا حتى بيمرض .. دايما تغفر وتسامح .. طب كنت اغفر يا أخونا و سامح.. واستنانا ف أسوان زي م قلت.. و متبقاش بايخ!


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock