وجوه مسرحية

الشاعر والناقد السوري الكبير “أنور محمد” يكتب عن المسرحي الجزائري الراحل “محمد بن قطاف” في ذكرى رحيله


أنور محمد*

شاعر وناقد سوري

ـ

معركةٌ روحية ضارية تلك التي قادها الكاتب والمخرج المسرحي محمد بن قطاف (1939-2014) أكثر منها معركة مادية، ليصل بالمسرح الجزائري إلى ما وصل إليه في الحياة الثقافية العربية، فلقد اشتغل مسرحه كاتباً وممثِّلا ومخرجاً ومحافظاً بعبقرية المفكِّر الذي لا يستغني عن الناس، فالمسرح له جذورٌ عميقة في كيان الناس/ البشر. وهو الذي يحرِّكها منذ كتب من كتبَ أوَّل مسرحية. بل هو القوَّة المحرِّكة للعلاقات الاجتماعية والثقافية، وكان يرى أنَّه كمسرحي بحاجة إلى الآخرين، وليس الآخرون بحاجة إليه، وكان ضد كل السرطانات المسرحية التي كانت تعمل على افتراس المسرح وما أكثرها في الحياة الثقافية العربية، وكان يكره الرقابات، لأنها شكلٌ من أشكال الاغتيال السياسي للفكر المسرحي.
المسرح عنده حرية وهو ما دفعه لتشكيل وخلق مسرح وطني جزائري جديد يتشابك ويتشارك فيه مشرق الوطن العربي مع مغربه. فالأكثر وطنية هوالأكثر إنسانية. محمد بن قطاف كان يريد للعقل المسرحي الجزائري أن ينتج فكره الخاص، وإلاَّ فهو مسرح يدفع بنفسه نحو الانتحار، لذلك كان يؤسِّس لهذا ويواصل التأسيس، وهي مسؤولية وطنية كما هي مسؤولية إنسانية، وكان يقدِّر أنَّه يقود صراعاً، ولا يمكن أن يُحسم بدون خسائر.
لكنَّه كما في عمله المسرحي لم يشتغل على هذا الصراع من وجهة نظر أحادية، كما لو نحن في مسرحية يثير فيها القوي أفعال الغاصب والمستبد والجائر، في حين يطلب الضعيــف الشــفقة والرحمة وهو ما تطلبه عــادة الضحــية في الحياة أو في المسرح.
وكأنَّ محمد بن قطاف يصنع في سلوكه أساس الدراما الواقعية، بعيداً عن المزاج والطــبع والاستسلام لعنف المشاعر. فهو ضد القمع لأنَّ العاطفة الإنسانية تنفجر/ تتفجَّر عندما تتعرَّض للقمع، إلا إذا كانت تريد، على خشبة المسرح أو الحياة، أن تصير ثورة. ثورة يريدها ولا ينكرها، لأنَّه كان ضد الجمود العقائدي المتحجِّر في عقل المسرحيين سواء كانت مصادره الإيديولوجية سماوية أو أرضية.
دعوا المسرح (حراً)، هكذا كان يقول، ولا تشتغلوه بعبودية ميكانيكية عمياء وصمَّاء، افتحوا له باب القفص، فالرجل حتى وإن حصلنا على الحرية فإنَّه كان يريدها أن تقوم على الوعي، وعي الإنسان لقوَّة الحياة في أعماقه، هذه القوة التي تعطيه مزيداً من البصيرة ليرى الواقع الذي يتم فيه قتله.
فتاريخنا السياسي العربي مؤسَّس على العنف، ومن الجريمة أن يبقى الإنسان مذنباً. ما هذه التراجيديا؟ ما هذا الرعب الذي نحياه، نقتل بعضنا بالعمد والقصد ونسميه: إنَّ ما حصل نتيجة خطأ تراجيدي.
محمد بن قطاف لم يكن مثالياً في فهمه لطبيعة أي صراع بين قوتين على أنه صراعٌ بين المبادئ الأخلاقية. ففي مسرحه كما في سلوكه كان يردُّه إلى أنَّه نزاعٌ بين قوى اقتصادية واجتماعية متناحرة، وكان ينحاز إلى الانتصار الواقعي لأحد طرفي الصراع/ النزاع، ويرفض كما رفض في مسرحياته (فاطمة، التمرين، جحا والناس، العيــطة، قــالوا العرب قالوا المقتبسة عن نص «المهرج» لمحمد الماغوط).
يرفض (التصالح) مع الخصم/ العدو، مهما كان شكله ولونه ودرجة قرابته، لأنَّه تصالح كاذب، لذا كان تأثيره الجمالي كبيراً علينا، لأنَّه كان يثير انفعالاتنا وتفكيرنا باعتبار، أو كما كان يرى بأنَّ المسرح ضرورة، بل فيه حياتنا الأخلاقية والدينية باعتباره أحد مكونات الحياة الروحية والاجتماعية للناس.
محمد بن قطاف الذي فقدناه كان يعتبر أنَّ الظواهر السحرية والكابوسية هي ظواهر مرحلية، وهي سبب تخلفنا وعجزنا، لكن من المرعب أن يسري مرضها بين المسرحيين والمشتغلين في المسرح. صحيح أنَّ «ماكبث» شكسبير دموي، وأنَّ «هاملت» ضعيف ومتردِّد، لكنَّهما شخصيتان فوق السحر والكوابيس، وكانتا تعرفان ماذا تفعلان، ولذا موته شكَّل، وهو الذي لم يكن دموياً ولا ضعيفا ولا متردداً، خسارة عظيمة للمسرح العربي.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock