“الطفلة العجوز”.. مونودراما.. للكاتب السوري أحمد اسماعيل اسماعيل
المسرح نيوز ـ نصوص ـ الطفلة العجوز للكاتب| أحمد إسماعيل اسماعيل*
*كاتب سوري مقيم في تركيا
ـ
(المكان: صالة مسرح يحتل الجمهور كراسيها، وعلى الخشبة وفي زاوية منها ثمة مكتب فيه بضعة كراس وطاولة عليها مصنفات وأوراق، تدخل من باب الصالة عجوز ترتدي ثياب فتاة في مقتبل العمر، تتنكب حقيبة صغيرة، تسير نحو الخشبة وهي تلتفت حولها باستغراب، تصعد الخشبة بعد تردد وتجلس على كرسي غير بعيد عن الطاولة، تحدق في الجمهور بنظرات الدهشة والخجل، تدفن وجهها بين يديها، ترفع يديها عن وجهها بحذر وهدوء، تدقق بنظرها في الناس باندهاش، تتفحص المكان. لنفسها)
هل كلّ هؤلاء جاؤوا للغرض نفسه؟ هل كلّهم لاجئون مثلي؟ لو كانت أمي هنا لكررت ما تقوله دائماً: لقد فرغت البلاد من أهلها!
لا أحد يتفوه بكلمة، يا للعجب! لو اجتمع مثل هذا العدد عندنا في مكان واحد لوصلت أصواتهم إلى مدينة أخرى، فعلاً، أوروبا مدرسة للنظام والأدب.
(تجلس وتنتظر بصمت، ثم تسترق النظر إليهم بين الفينة والأخرى، تدمدم لوحدها(
لماذا ينظرون إليَّ فقط؟ وهل أنا فقط اللاجئة الوحيدة التي تركت البلاد؟ كثيرون مثلي تركوا البلد وهربوا من الحرب والجوع والظلمة..
(تخرج من حقيبتها كراساً وتخفي وجهها به، بنفاد صبر، للجمهور(
لماذا تنظرون إليّ هكذا؟ ألا يعجبكم وجهي؟ لتعلموا أن هذا الذي ترونه ليس وجهي الحقيقي، وإني لست عجوزاً.
(يرن جرس الهاتف النقال، تخرجه من حقيبتها(
ألو، نعم، نعم يا أمي، لا، لم يحضر بعد.
(بهمس(
ولكن هناك عدد كبير من الناس في القاعة، وهم ينظرون إليّ بتفحص مثل.. المخابرات. ليسوا مخابرات؟! من هم إذن؟! هذا بلد ماذا؟ ديمقراطي؟
(بفزع(
أقول لها مخابرات فتقول لي ديمقراطي وديمقراطية؟ أمي أرجوك، لا تلفظي هذه الكلمة أبداً، أنا أخاف عليك، ليس لي سواك، (تبكي) ألست أنت من تقول دائماً: إن هذه الكلمة هي السبب في خراب بيوتنا وموت شبابنا؟ وموت أبي، حسن سأكفُّ عن البكاء، أمرك، ولكن لا ترددي هذه الكلمة مرةً أخرى، ولكن إذا لم يكن هؤلاء مخابرات؛ فمن هم إذن؟ ماذا؟! معقول، كل هؤلاء مجلس قضاة؟ حاضر. سأتكلم، حاضر.. كفيّ عن الصراخ يا أمي، أمرك، أمرك، سأتكلم وأقول لهم كل شيء، نعم كلَّ ما حدث لي، مع السلامة. مع السلامة. أف.
(تنظر إليهم باستغراب، بعد تردد(
المعذرة، لقد أسأتُ الظن فيكم، لقد قالت لي أمي من تكونون، ولذلك سأروي لكم قصتي دون أن أخشى سخرية أحد منكم كما فعل الأطفال معي البارحة في ساحة الألعاب. يبدو عليكم الاحترام، وستفهمون كل ما أرويه لكم، وستحسنون ترجمته ونقله بشكل صحيح.
(تضع المصنّف الذي تحمله على الطاولة(
وهذه كل أوراقي، فيها كل المعلومات عنّي. ماذا كنت أقول؟ آه، الأطفال، إنهم أطفالٌ لاجئون مثلي، قَدِموا من بلادي وبلاد أخرى، ولذلك ما أن وجدتهم يلعبون في ساحة الكامب وهم يتحدثون بلغتنا؛ حتى هرعت نحوهم وركبت المراجيح مثلهم، أحسست بأنني أطير، وبالسعادة تغمرني فرحاً، ورحت أضحك وأضحك من كل قلبي. منذ أن غادرنا البلد لم أضحك مثلما فعلت في تلك اللحظة، غير أن ذلك لم يعجب الأطفال، تعلقوا بالمراجيح التي ركبتها وأوقفوها، ثم وجدتهم يتحلّقون حولي ويرددون: «تشوز تشوز» يا عجوز. «تشوز نشوز» يا عجوز. أطفال وقحون، أبي كان يقول: لقد أفسدت الحرب كلَّ شيء، حتى الأطفال الصغار، لقد صاروا وقحين، بل صار بعضاً منهم مجرماً، نعم مجرماً. تابعوا الأخبار وستعرفون أن أبي كان على حق، أما أنا، فلم أصبح مثلهم، نعم، أنا بنت مؤدبة، لقد كنت مجتهدة في مدرستي.
(تدقق النظر في الجمهور، بشك وضيق(
ما هذه النظرات والابتسامات الغريبة؟!هل ستشكون أنتم أيضاً في ما أقوله؟ أقسم لكم أنني لست عجوزاً، أنا فتاة صغيرة، لا تحكموا عليّ من خلال وجهي، لم يكن وجهي كذلك قبل ثلاث سنوات، أنا طالبة، أقصد كنت طالبة، طالبة في بلدي قامشلي قبل سنتين، وهذه صورة التقطت لي قبل أربع سنوات وأنا في ثياب المدرسة.
(تخرج من حقيبتها صورة.. تعرضها على الجمهور، ثم تخرج دفاتر وكتباً(
انظروا، هذه كتبي، وهذه دفاتري، هذا هو دفتر الرسم، وهذا هو توقيع معلمتنا ليلى على ما رسمته: الربيع. كتبت لي أحسنت، وهذه صورتي حين كنت في الصف الخامس، في مدرسة حطين..كنت أرتدي زيّ الطلائع: طلائع البعث، ألا تعرفون ماذا يعني طلائع البعث؟
(تقف باستعداد(
استعد، استرح.
(تنفذ الحركات ثم تمدُّ يدها بتحية عسكرية، بصوت آمر(:
- رفيقي الطليعي، كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي والدفاع عنه.
- مستعدٌ دائماً.
(تتنهد(
كنا نفعل ذلك كل يوم، وكان المشرف يقول لنا أنتم جنود الأب القائد يا رفاق. كان ينادينا بالرفاق، وخاصة في حصة الطلائع، ومن يُخطئ وينادي زميله في هذه الحصة باسمه، فلا بدّ أن ينال عقوبة قاسية، فلقة على رجليه مثلاً، أو عشرة عصي على يديه: تاخ تاخ تاخ.
(يتقلص وجهها، وهي تفرك يديها بألم(
أخطأت مرة حين ناديت صديقتي: هيلين.. هيلين. أردت أن أستعير منها الممحاة، ولكنها لم تسمعني، ولم يسمع المعلم أيضاً صوتي، غير أنَّ أحد جواسيسه من الطلاب أخبره، لم يكن له وحده مخبرون، حتى المدير كان له مخبرون من التلاميذ، وكذلك للموجه. المهم، وعلى الفور طلب هذا المعلم من عريفة الصف العصا، فقيل له إن معلم الصف الثاني قد استعارها ليضربَ الصف كلّه، وعلى الفور، بدأ يوجه لي الصفعات: طاخ طاخ طاخ..
(تفرك وجهها بألم.. وتصيح باكية):
دخيلك أستاذ، أبوس يديك أستاذ، توبة، توبة، والله لم أفعل شيئاً، والله لم أشاغب.. وكلما كنت أرجوه كانت الصفعات تزداد شدة: قولي رفيق يا حمارة. رفيق وليس أستاذ. صاحت هيلين صديقتي منبهة ولكني لم أفهم، ربما من شدة الألم، كانت الصفعات تنهال على وجهي دون توقف، فاستمررت بمناداته أستاذ، دخيلك يا أستاذ، أبوس قدميك.
(تهدأ، تفرك وجهها(
ولم أكف عن قول ذلك حتى أمرني هو بمناداته: يا رفيق. قال )تقلده): قولي يا رفيق يا حمارة. نحن في درس طلائع، وفي هذه الحصة كلنا رفاق، لا فرق بين أستاذ ومدير وتلميذ، حتى الأب القائد، لو صادف ودخل الصف يجب أن نناديه: رفيق. حاضر. حاضر يا رفيق. أمرك يا رفيق. ومنذ ذلك اليوم، أحسست أن وجهي لم يعدْ وجهي الذي كان في السابق، ظل مُحمراً لعدة أيام، ملتهباً ومتورماً، كأن تمزقاً أصابه، أو حريقاً مسّه، وحين ذهب أبي، الذي جنَّ جنونه حين رأى ما حدث لي، إلى المدرسة وشكا قسوة هذا المعلم، أقصد: الرفيق، للمدير، وكان مديرنا زميلاً لأبي في المرحلة الثانوية، قال له المدير بأسى (تهمس بحذر):
معك حق يا صديقي، ولكن أقسم بشرفي لو كان الفاعل غير هذا المعلم لأحلته إلى محاكمة مسلكية، ولكن الأستاذ موسى بالذات لا نستطيع فعل شيء معه، حتى لو هدم المدرسة فوق رؤوسنا، الرجل محسوب على أكثر من فرع أمني، وفهمك كفاية.
(تصمت للحظات(
ومن وقتها أصبحت أنادي الجميع يا رفيق: رفيقة ماما، إذا سمحت أنا جائعة.. تصبح على خير يا رفيق بابا.. رفيق جدو، رفيق دكتور.. في البداية سخروا مني، ثم غضبوا حين استمررت في نداء الجميع بهذه الصفة، وفي النهاية اعتاد الجميع على ذلك.
(تنظر إلى الجمهور كمن تفاجَأ(
يبدو أنكم أنتم أيضاً، مثل الآخرين، تنظرون إلى وجهي الذي.
(تتحسس وجهها(
لقد كان وجهي جميلاً، جميلاً جداً، حتى أن بعض الجارات في حيّنا نصحن أمي أن تصنع لي تميمة تحميني من شرِّ العين الحاسدة.
(تصمت بحزن(
لم تكن صفعات الأستاذ موسى وحدها هي السبب في ما حدث لوجهي، رغم كل ما حدث له بعد تلك الصفعات، في الحقيقة إن كلّ الأطفال في المدارس ينالون الضرب، على أيديهم وعلى أرجلهم وعلى وجوههم؛ ولا يحدث لهم ما حدث لي، كثير من الأطفال كانوا يتلقون الضرب يومياً، ولأتفه سبب: لأن هذا التلميذ تأخر عن الدوام، وذاك لم يجلب الوظيفة، وآخر لم يطرق الباب حين دخل الصف، ولم يفسد ذلك وجوههم ويحفر فيها خطوطاً كما حدث لوجهي.
(تصمت للحظات شاردة الذهن حزينة، تخرج لعبات من الحقيبة، تلاعبها(
لقد أعطوني في الكامب الكثير من الألعاب (تخرج لعبات أخرى من الحقيبة، دباً وديكاً وفتاة..) إنها جميلة، ولكن ليست أجمل من ألعابي، تلك التي تركتها في بيتنا بالقامشلي، كانت لعباتي تتحدث معي وتفهم مني ما أقوله، هذه لا تفهم مني أي كلمة أقولها، إنها جامدة بلا حسّ، حين ودعت ألعابي وأنا أتهيأ لمغادرة البيت مع أمي وأبي؛ وجدتها تبكي، أقسم بالله أنها بكت، فضممتها إلى صدري وبكيت، بكينا حتى صرخت أمي وأمرتني باللحاق بهما.
(تحتضن الألعاب وتبكي):
لا تبكين يا صديقاتي، لن أغيب طويلاً، سأذهب مع أهلي إلى تركيا حتى تنتهي الحرب وسأعود، لن أطيل الغياب، أبي يقول شهر أو شهرين وستعود الأمور كما كانت، حينها سأعود إليك ونلعب معاً.
(تغني لها وهي تضمها إلى صدرها، تصمت فجأة وتلقي بالألعاب جانباً(
أنت لست ألعابي، ألعابيدافئة وحنونة، وليست مثلك. سأعيدك إلى مكانك، )تعيدها إلى الحقيبة) لا بدَّ أن تعودي إلى أصحابك وصديقاتك.
آه لو كانت صديقاتي معي الآن: ماريا، ونور، وهيلين.. لا أعرف لماذا لم يفعل أهاليهن مثلنا ويرافقوننا إلى تركيا، كانوا جميعهم يشكون غلاء الأسعار، وانقطاع التيار الكهربائي المتواصل، وقلة الأمان… حين سألت هيلين عن سبب عدم مرافقتهم لنا إلى تركيا قالت: لقد وجهت أمي هذا السؤال إلى أبي، سمعتها تقول له برجاء (تقلدها): يوسف، لماذا لا نغادر نحن أيضاً البلد مثل بيت جارنا أبي نسرين؟ احتقن وجه أبي فجأة وقال )تقلده):أنا لن أغادر البلد حتى لو متُّ من الجوع، لي ولأطفالي رب يحمينا.
بكت هيلين، وبكيت معها كثيراً حتى جفَّتْ دموعي، حينها أيضاً لاحظت أن وجهي أصابه شيء ما غريب، شيء أشبه بالجفاف.. وكان وجه هيلين أيضاً قد تغير، آه كم اشتقت لك يا هيلين، ماذا تفعلين الآن، هل تذهبين إلى المدرسة، مع من تلعبين الآن في الباحة؟
قالت لي هيلين قبل السفر: سمعت أبي يقول لأمي وهو في المطبخ: إن حرس الحدود التركي لا يرحم أحداً، إنه يضرب الصغار والكبار بقسوة، فخفت كثيراً، ومن فوري عدت إلى البيت، كان أبي أمام المغسلة يرشق وجهه بالماء، ورويت له ما قاله أبو صديقتي، فكفَّ عن رشق وجهه بالماء وتنهد، ثم ضمني إلى صدره وقال (تقلده): لا يا ابنتي، التُرك أيضاً مثل الأوروبيين، لا يضربون أحداً مثلما يحدث عندنا، وخاصة الأطفال والنساء، إنهم يحبون الأطفال كثيراً. مثل الأوروبيين تماماً.
(لنفسها(
ما حكاية هؤلاء، لا أحد منهم يرد، أو يسأل، إنهم جامدون مثل التماثيل، يحملقون في وجهي وكأني كائن غريب؟! طبعاً نحن غرباء، وهل هذا وجه فتاة ألمانية؟! لا بأس، سأحكي كل ما لديّ كما طلبت أمي، وهم أحرار.
(للجمهور(
نعم، ماذا كنت أقول، آه.. تذكرت.
المسكين أبي، لا أعرف من قال له إن الأتراك مثل الأوروبيين؟ فعندما غادرنا مدينتنا كان الوقت ليلاً، والظلمة دامسة، كنا بالقرب من الحدود مع تركيا، نحن وجمع آخر من رجال ونساء وأطفال، كان المهرِّب يسير بحذر، ونحن نتبعه بصمت وخوف، كان عصبياً، حتى أنه شتم رجلاً عجوزاً كان يدمدم من شدة التعب، وهمّ بصفع امرأة أطلقت صيحة توجّع حين تعثرت، وفجأة ظهر لنا حرس الحدود كالأشباح، قبضوا علينا جميعاً واقتادونا بأعقاب البنادق إلى المخفر، وهناك بدأوا بتوجيه الركلات والصفعات للجميع، كان الضرب بقسوة من نصيب الرجال، وكان أبي واحداً منهم، بدأوا بضربه. )تمثل ضرب والدها وهو يتألم(
طاخ طاخ طاخ..أي.أي..أي..أأأأأي يا أبي، يا إلهي لأول مرة أرى أحداً يضرب أبي، كان ذلك فظيعاً، فظيعاً جداً! كان وجه أبي يزداد احتقاناً من شدة الألم، لم يبكْ بداية مثل رجال كثيرين ونساء، طبعاً، أبي بطل، دائماً كنت أقول لرفيقاتي إن أبي قويّ، وها هو صامد أمامهم، ولكن، وفجأة علا صوته بالبكاء: أبي، أبي! لأول أسمع صوت بكاء أبي، كان يرجوهم الكفَّ عن ضربه وهو يبكي، تكوّمت على نفسي في زاوية المخفر وبكيت، لا أعرف لماذا فعلت ذلك، كان ينظر إليّ وهو يبكي، كانت نظراته غريبة، وسمعته يناديني، نعم، كان يناديني بصوت باك.
(تقلده ببكاءوحرقة(
نسرين، لا تبكي يا نسرينتي، لا تبكي يا روح بابا.. أغمضي عينيك يا حبيبتي، أديري ظهرك لي يا بابا، وقال كلمات أخرى لم أفهمها.. وفجأة وجدت أمي تناديني بعصبية: وكانت قد ارتمت على أحذية العسكر وهي ترجوهم أن يكفوا عن ضربه:
(تقلدها(
تعالي يا غبية وافعلي مثلي فقد يكفون عن ضرب والدك من أجلك، قد تتحرك مشاعر هذه الوحوش، سيقتلون والدك.
وفعلت مثلها، ارتميت على أحذيتهم راجية أن يكفوا عن ضرب أبي..
(ترتمي على الأرض وهي تبكي(
كفى، أرجوكم كفى، إنه أبي، إنه أبي.. وأنا أحبه. أبوس أياديكم، أبوس أقدامكم.
وبكت أمي وهي ترجوهم.
(تقلدها(
أرجوكم يا إخوان، أنا بعرضكم أتركوه، إنه مريض، إنه مصاب بالربو.. سيموت، ليس لنا معيل سواه، أرجوكم أرحموه…
(تبكي(
وفجأة..
(تهدأ(
دخل ضابط منهم فهدأ العسكر، وكفوا عن الضرب، كانت ثياب أبي قد تلطخت بالدماء، والدموع تملأ عينيه وهو بالكاد يتنفس، وأنا أكاد أموت من الفزع والحزن على أبي. تحدث الضابط بضع كلمات بالتركية فنقلونا مباشرة إلى مكتب، وهناك سجلوا أسماءنا، ودفعونا خارج المخفر، وفي الطريق إلى داخل الأراضي التركية، تحسست وجهي فوجدته قد أصبح أكثر يباساً، أكثر يباساً وتشققاً ممّا حدث له حين وجّه لي معلمي الصفعات في المدرسة، أقصد الرفيق موسى، أحسست أن شقوقاً عميقة قد حدثت فيه.
كانت الرحلة من الحدود إلى الداخل صعبة وشاقة، لا أعرف كيف وصلنا تلك الليلة إلى مدينة باتمان التركية، قضينا الطريق كله بكاء على والدي، وحين وصلنا إلى بيت عمتي، التي كانت قد سبقتنا مع عائلتها باللجوء قبل أشهر إلى تركيا، وما أن وقع نظرها على أبي وهو على تلك الحال حتى أطلقت صرخة فزع قوية: أخي.
(تقلد عمتها المفجوعة وهي تحتضن أخاها وتبكي وتشتم):
(يا أولاد الكلب، يا مجرمين، اللعنة عليكم وعلى حدودكم، من تظنون هذا المسكين، إرهابي يا إرهابيين، الإرهابي من يخرج من عندكم لا من يدخل، ولكن الحق ليس عليكم، الحق على ثورنا الكبير، على من دمر البلد وشردنا).
واستمرت بالصياح، وأمي ترجوها أن تهدأ، وكذلك زوجها، ولم تكفّ. ظلت تبكي وتصيح وتشتم الحرس، والمهربين، وتركيا، وحتى بلدنا سوريا، شتمتها، بل شتمت الأب القائد نفسه.
(بحذر(
لوحة: غيلان الصفدي
الحمد لله أن معلمنا موسى لم يسمعها، لو كانت عمتي في البلد وتفوهت بنصف ما تفوهت به في تلك اللحظة لسمعها حتى لو لم يكن جارنا، ولم تصمت عمتي إلا حين طلب أبي منها ذلك، لم أكن أعلم أن عمتي تحب أبي إلى هذه الدرجة، أمي كانت تقول لي: إن عمتك قاسية القلب ولا تحب أحداً سوى نفسها.
بقينا حوالي الشهرين في بيت عمتي، تماثل أبي خلالهما للشفاء، وكانت عمتي وزوجها يتشاجران كثيراً في الآونة الأخيرة، كنت أسمع صوتيهما المخنوقين، وكانت أمي، ما أن تسمع صوتيهما حتى تبدأ هي الأخرى بالمشاجرة مع أبي، وكان أبي يكرر دائماً، وبعجز: لا أستطيع يا امرأة، إني مريض، أقسم بالله أنني بالكاد أسير إلى السوق، أولاد الحرام على الحدود أساؤوا إليَّ كثيراً. وأمي تهمس بحنق:
(تقلدها(:
ألا تسمع يا رجل؟ ستخرب بيت أختك، حرام. عيب وحرام.
ومرت الأيام.. أسبوع، أسبوعان.. استأجرنا بعدها بيتاً في المدينة نفسها، كان صغيراً وقديماً، ومن حينها لم أعدْ أرى أبي كالسابق، كان يخرج كلّ يوم منذ الصباح ويعود في منتصف الليل، وحين كنت أصحو على صوته، كنت أسمعه وهو يقول )تقلده(:
لا أحد يوافق على أن أعمل لديه، الجميع يكررون العبارة نفسها: لا عمل لدينا لرجل لا يتقن أيّ صنعة. وحين وجدت عملاً، كان قاسياً ولا يناسب صحتي، أنا مدرس يا امرأة، مدرس لغة عربية، وهنا لا عمل لي في مهنة التدريس، لم أمارس في حياتي أيّ مهنة سوى التدريس.. فترد أمي عليه:
(تقلدها)
حاول يا رجل، حاول، وإذا كنت عاجزاً فدعني أنا أعمل.
(تصرخ(
لا. كان أبي يصرخ مثل الوحش المجروح..
(تقلده(
لا، لن أسمح لكِ بالعمل وفي داخلي روح. وكنت أسمعه يتأفف ويتألم وأنا تحت اللحاف أبكي وأبكي.. وفي مرة سمعته يقول:
(تقلده بألم(
يا رب، ماذا أفعل، ما الحل؟ هل أسرق، هل أتسول؟ هل أقتل؟ ولكني لا أستطيع، لا أستطيع. يا رب توفني وخلصني من هذه الحياة.
(تنحني لأبيها بألم وقهر(
لا يا أبي، لا تمت يا أبي، أنا أحبك يا أبي، إذا متَّ فسأقتل نفسي، نعم سأقتل نفسي، كيف سأحيا دون أن أراك كل يوم وأنت تدخل البيت، تناديني:
(تقلده(
نسرين، وردة أبيها، يا حلوتي.
(وكان يضمني إلى صدره ويغني، تغني مقلدة أباها بحزن وشوق، ثم تبكي، وتتلمس وجهها بحزن وقهر(
ومرض أبي فجأة، أصبح طريح الفراش، فاضطررنا أن نعمل أنا وأمي، كنا نعمل ليل نهار في أحد المطاعم، نعمل ونعمل ونعمل.. نمسح ونغسل ونكنس..
(تكرر الجملة بعصبية وحرقة وهي تكنس المكان وتغسل، تهدأ وتحني ظهرها(
حتى تجعد وجهي وتشققت يداي.. وانحنى ظهري أيضاً، حينها، وفجأة، راح يناديني كل من يصادفني: يا خالة.
(بحسرة وهي تقلد مناداة الآخرين(
يا خالة.. خالة.. يا عجوز.
ورغم كل ذلك طردنا صاحب المطعم، فعملنا في مطعم آخر، فسطا صاحبه على أجرتينا وطردنا، فعملنا في مغسلة للسجاجيد، وفي كل مرة كنا نعود فيها إلى البيت كان أبي ينظر إلينا ويبكي.
كان يضمني إلى صدره ويقول لي..
(تقلده(:
(آسف يا ابنتي، آسف جداً، لو أستطيع العمل ما تركتك تعملين، ولكن..) ويغص بالكلام. فأرتمي في حضنه وأتمنى عليه أن يغني لي، ولكنه لم يكن يفعل، منذ أن أصبح طريح الفراش وهو صامت، عيونه فقط كانت تمتلئ بالدموع، ينظر إلينا أنا وأمي بنظرات حزينة وغريبة حين نغادر البيت إلى العمل، وحين نعود.
لم يمضْ وقت طويل حتى عاد الشجار بين أمي وأبي مرة أخرى..
(بانفعال يتصاعد)
أبي يقول وأمي ترد.. أبي يقول وأمي ترد، أمي ترد وأبي يقول.
(تقلد الاثنين بانفعال(
ـ سنذهب إلى المخيم،
ـ لن أذهب.
ـ سنعود إلى البلد إذن.
ـ لن أعود.
ـ سنعود.
ـ لن نعود.. لن نعود.
(تبكي( كفى كفى.. كفى يا أمي، كفى يا أبي.. كفى، كفى.
(تهدأ)
ومرت أيام وأشهر ونحن على هذه الحال، وفي مرة دخل أبي علينا فرحاً على غير عادته، وراح يصيح..
(تقلده(:
ليلى، ليلى، أين أنت يا أم نسرين؟ أم نسرين، وراح يغني كما كان يفعل سابقاً، ووجهه ينضح بالفرح..
(تقلده وهو يغني)
يا الله كم كنت أتمنى أن يغني ويستمر في الغناء، حين كان يغني وهو سعيد كانت عيناه تبرقان وكأنهما نجمتين في سماء صافية، وكان وجهه يزداد نوراً.وما أن دخلت أمي حتى انطلق نحوها، وراح يردد بفرح: لقد جاء الفرج، خلص، فُرِجت يا امرأة.. فُرجت، فرجت.
(وقبل أن تفتح أمي فمها بالسؤال، أكمل(
إلى أوروبا، إلى أوروبا، ألمانيا يا سيدتي، بلد الحرية والأمان والكرامة.
ـ كيف، من أين؟ ماذا تقول يا رجل؟
سألت أمي غير مصدقة.
فردّ:
ـ بيتنا، بيتنا الذي تركناه يا مريم، وكل ما فيه من أغراض مقابل أن ينقلنا المهرب إلى اليونان. ومن هناك إلى بلاد ماما ميركل.
ـ بيتنا؟ قالت أمي باندهاش.
ـ نعم، بيتنا.
ـ لكنه كل ما نملك يا أبا نسرين، إنه عشّنا الذي تزوجنا فيه، المكان الذي أبصرت فيه نسرين النور. كل غرض فيه عزيز عليّ له ذكرى، ومعنى.
(بشرود(
بيتنا، كم اشتقت له، غرفتي الصغيرة، وألعابي وكتبي.. وكذلك هيلين صديقتي التي كنا نذهب معاً إلى المدرسة ونعود، ونسيت أمي وأبي وحوارهما، ورحت أتذكر حينا، وشارعنا وأصدقائي الذين تركتهم هناك. وبدأ صوتا أمي وأبي بالارتفاع، وتحول إلى شجار.. ولكن أصوات رفاقي التي بدأت تعلو في داخلي، وجرس المدرسة، ومعلمتي في الصف وهي تنادي باسمي كي أمسح السبورة أو اقرأ الدرس.. طغت على صوتيْ أبي وأمي، ووجدت نفسي ألعب في باحة المدرسة، أركض وأطارد رفيقاتي في الباحة..
(تلعب لعبة ما وهي تصفق. تقف، كمن ينصت(
ماذا؟! تفجير شاحنة يقودها إرهابي، أين؟ في حينا، في شارع هيليكي؟ ماذا تقول يا أبي؟ هل هذا الخبر صحيحٌ ؟! التقطت أذناي الخبر الذي نطق به أبي، ووجدت أبي يروي تفاصيل الحدث لأمي؛ وأمي تبكي بحرقة وهي تلطم وجهها، يا إلهي إنه الشارع العام الذي يتفرع منه شارعنا، ذلك الشارع الذي كان يتحول كل يوم جمعة إلى عرس، وكنا نحن الصغار نشارك فيه الكبار وهم ينادون: حرية، حرية.. نركض بين الصفوف المتجمهرة أمام جامع قاسمو، ننتظر خروج المصلين من صلاة يوم الجمعة لتبدأ المظاهرة، وكنا نردد معهم بصوت عال: الشعب يريد إسقاط النظام، واحد واحد الشعب السوري واحد.
(تصمت(
وسمعت أبي يقول: لقد سقطت البيوت على رأس الشعب. على رأس الصيدلاني الطيب جوهر، وعلى رأس كاسترو: ذلك الطبيب الذي تخرّج حديثاً من كلية الطب، وابن جارنا الولد الشقي ولاتبن الخال عبدي.. وكذلك العم الطيب سليمان والخالة أميرة، وهوزان، ومحمد، والخالة منيفة، وجوان، ولقمان؛ العريس لقمان. وغيرهم وغيرهم، كلّهم ماتوا، تمزقت أجسادهم، تحولت إلى مزق تحت أنقاض بيوتهم التي تهدمت. )تنفعل(
لماذا أيها الإرهابي؟ لماذا؟ هل تعرفهم؟ هل تعرف صيدلاني حينا الطيب، كان قصير القامة كثيراً ولكنه كان طيباً جداً، لو صادف أن ذهبت إليه يوماً وطلبت منه أي شيء كان سيقدمه لك حتى لو لم تملك نقوداً.. حتى لو عَلِم أنك داعشي، يكفي أن تشكو له ما تعانيه من وجع. ولقمان، هل تعرفه؟ كان عريساً، تزوج قبل أيام قليلة من فعلتك، كانت قصة حبه تروى في كل بيت. والخالة أميرة.. كانت أماً لطالبتيَّ طب بشري، هل كنت تعرف ذلك؟ هل تعرف كل هؤلاء؟ كانوا طيبين فلماذا قتلتهم؟ ألا تخشى نار جهنم؟ سيحاسبك الله، الله لا يحب القتل، كانت أمي تقول عن الخالة بيروزة إنها من أهل الله، فقتلتها، وكان الخال سليمان دائما يقصد بيت الله ليصلي فيه فقتلته، وقتلت الطفل كريم، الذي لم يكن قد بلغ السنة، كريم الذي كانت أمه تمسك يده كل صباح وتردد بصوت حنون كم أحببته..
(تقلدها وهي تلاعب دمية(:
تاتي ياما شاء الله.. تاتي يا ما شاء الله…وكان الولد يهرع صوب أمه وهو يكركر كالملاك، كم كان منظره جميلاً وهو يخطو بتعثر!
(بعنف(
الله يحرقك في ناره يا وحش.
(تهدأ للحظات(
وحش، وحش، وحوش. الأسد وحش، والثعلب وحش، وداعش وحوش، لواء جيش القرود وحوش.. كل ذلك اعتدنا سماعه ونحن في البلد وحتى عندما كنا في تركيا، أما أن يقال عن ابن جارنا وحش، الشاب مصطفى بن الحاج شكري العتال. فهذا ما جعلنا كلنا نفتح أفواهنا دهشة.
إيه، لا تستغربوا كثيراً. قال ذلك صديق لأبي عندما كنا في أزمير، كان أبي حينها يبحث عن مهرِّب بديلاً عن مهربنا الذي اكتشف أنه كان نصاباً، مهرب ينقلنا إلى اليونان عبر البحر دون غش واحتيال مثلما حدث لكثير من العوائل التي وقعت ضحية النصب والاحتيال. قال هذا الصديق ونحن ننظر إليه وكأنه يتحدث عن حكاية أليس في بلاد العجائب..
(تقلده(:
إيه لا تستغربوا كثيراً، مصطفى هذا الذي تتحدثون عنه على أنه من عائلة لم تكن تجد أيام زمان ما تأكله، أصبح الآن من أبرز المهربين في هذا البلد، لديه أكثر من قارب، أو يخت كما يسمونه، ويعمل تحت إمرته العشرات من الشبان، ويقال إنه يملك الملايين من الدولارات.
صاحت أمي باستغراب..
(تقلدها):
مصطو، مصطفى ابن خالة نعيمة يملك كل هذه الأموال ويحكم؟!
وردد أبي كلمات الاستغراب نفسها، ووجدته يصفه بصفات قبيحة..
(تقلد أبيها):
اللعنة على الحرب، حوَّلت الناس كلَّها إلى وحوش، الجميع ينهب ويأكل لحم الآخرين.
ليس هذا وقت اللعنات يا أستاذ، أنصحك أن تذهب إليه وترجوه أن يساعدك في الوصول إلى اليونان.
وضحك أبي من نصيحة صديقه وهو يردد..
(تقلده(:
أرجوه، أنا أرجو مصطو الأزعر..تفووو. تفو يا زمن. هل تعلم أن هذا الأفندي كان أحد طلابي، وكان كسولاً ومشاغباً، ولك أن تعرف كم مرة نال عقوبة على يدي.
فضحك الصديق وهو يقول: أرجو ألا يذكر تلك الأيام ويرد لك الصاع صاعين.
أذكر حينها ما حدث لوجهيْ أبي وأمي، لقد جمدا كأنهما من شمع، بعدها راحا يتبادلان النظرات بصمت غريب، وروت أمي حكاية هذه العائلة الفقيرة، وكيف كان الأب يعمل ليل نهار في العتالة، ولم يكن مصطو أو مصطفى هذا سوى ولد أزعر، ويقال إنه كان يتعاطى المخدرات، وكم من مرّة سمعت أمه تدعو الله أن يهديه أو يقصف عمره، ووجدت أبي يردد بأسى تلك الكلمة التي كان يرددها بسخرية أيام زمان:
- أي والله هَرِمنا؛ هَرِمنا بعد أن هُزمنا.
وما أن سمعت حكاية مصطو هذا حتى داخلني رعب، وتقلص وجهي حدَّ الألم، يا إلهي، ماذا يحدث لي؟!
ولكن ما حدث لي من خوف ورعب ونحن في عرض البحر، على ظهر قارب الوحش مصطفى يفوق كلَّ ما حدث لنا ولوجهي من تبدلات في البلد وفي تركيا، كان مرور اللحظة فيه أطول من سنة.
(تصمت للحظات وهي ذاهلة(
كان الوقت فجراً، كنا ومجموعة كبيرة من اللاجئين نقف بصمت وخوف بالقرب من البحر، كان الهواء بارداً، وهدير البحر يصلنا كتهديد، كان الجميع في حالة تعب شديد جرّاء انقضاء يوم كامل صرفناه في التنقل من مكان لمكان في أزمير بقصد تمويه البوليس، وقبل أن يزول الفجر ويطلع النهار جاء رجالٌ، أربعة رجال، قيل إنهم من رجال مصطو، كان كلُّ واحد منهم يحمل مسدساً، أمرونا بالتوجه نحو البحر بسرعة، فاحتج بعض منا على الأمر طالبين أن ينتظروا حتى الصباح، أو هدوء الأمواج التي كانت تهدر بقوة، فأسرع رجال مصطو بإشهار الأسلحة في وجوهنا وزعقوا برعب، ومن فورهم انقاد الجميع لأوامر المسلحين، الأطفال والنساء والرجال، الذين توجهوا من فورهم كقطيع نحو شاطئ البحر، حيث كان قارب غير كبير بانتظارنا بالقرب من شاطئ مهجور، صعدنا إلى القارب وسط تهديدات المسلحين، وعلى الفور عَلَتْ بعض الأصوات بالتأفف من ضيق المكان، وخشية الغرق بسبب زيادة الحمولة، فكان ردهم أن رموا أغلب الحقائب في البحر، وحين عَلَتْ أصوات معترضة؛ أطلق أحدهم النار في الهواء، فهبط الصمت على الجميع، وما هي سوى لحظات حتى انطلق القارب في عرض البحر وهو يتهادى على كفّ البحر الهائج، وفي عرض البحر بدأت النسوة يطلقن صرخات الفزع، وشرعنا نحن الصغار بالبكاء، وعلتْ أصوات الرجال بالتكبير:
(تقلدهم)
الله أكبر، الله أكبر، وحدوه، صلوا على النبي، اللهم صلّ وسلم عليه..
(تهدأ)
كانت الأصوات تهدر وكأن السفينة التي تلعب بها الأمواج جنازة، ونحن فيها الموتى والمشيعين.
(تردد(
يا الله ما لنا غيرك يا الله، يا الله مالنا غيرك يا الله.. ثم صدحت أصوات بهذه الكلمات التي كنا نسمعها في المظاهرات، حتى ظننت أننا في مظاهرة أمام جامع قاسمو وليس في قارب في عرض البحر، ولكن لماذا رددها الرجال هنا ونحن نكاد تغرق؟!
وفجأة بدأ القارب يتمايل..
(تنفعل(
وتحول الدعاء إلى صيحات فزع، صيحات الكبار والصغار، النساء والرجال، وكنت بالقرب من أمي، كانت يَدُ أمي تقبض على يَدي بقوة، وهي تصرخ..
(تقلدها(:
أبا نسرين، أبا نسرين، أين أنت يا رجل؟ ورحتُ أصيح أنا أيضاً وأبكي: بابااااا..لم يكنْ أحد يسمع صوت أحد، إذ كانت أمواج البحر تتقاذف القارب غير عابئة بصراخ أحد، والقارب يعلو ويهبط بنا، والناس تطلق أصواتاً مرعبة. وفجأة.. بدأت المياه تتسرب إليه، وراح يغوص شيئاً فشيئاً، وأخذت الناس التي ملأت السماء بصيحات الرعب التي تقطع نياط القلب تقفز إلى البحر، شاهدت أطفالاً يصفعون الماء بأيديهم وأكفهم الصغيرة ثم يختفون، ونساء يصرخن وهن يتمسّكن بعوارض القارب، ورجال يتدافعون ويدفعون بعضهم بعضاً إلى البحر.. وأمي التي كانت تمسك بي بيد وبعارضة خشبية وسط القارب بيد لا تكف مثل بقية النسوة عن الصياح وطلب الاستغاثة. كانت تصيح أبي بصوت غريب لم أسمعه منها قبل ذلك(تقلدها):
فرهاد، أين أنت يا فرهاد..فرهادووووو. ووجدت نفسي أردد معها : بابا، أنقذنا يا بابا..بابااا..سأموت يا بابا.
وفجأة، تناهى إلينا صوت صفير قوي، فهتف بعض الرجال بفرح: النجدة، لقد جاؤوا لنجدتنا.
بعدها لا أعرف ماذا حدث، وجدت نفسي في المشفى وأمي إلى جانبي تحتضنني، حين فتحت عيني غمرتني بالقبلات وهي تبكي، وازداد بكاؤها حين سألت عن أبي. أجابتني وهي تحبس دموعها: إنه مصاب برضوض في قدمه وتتم الآن معالجته.
ومضت أيام ولم أرَ أبي، وبعد أيام، قررت القافلة، كما كان يسمون مجموعتنا، إكمال الرحلة بالقطار من اليونان إلى بلد آخر، وهناك، في المحطة، وقبل أن أصعدَ إلى القطار، سألت عن أبي، صمتت أمي قليلاً، ثم، وفجأة بكتْ: أبوك مات يا نسرين، غرق أبوك في مياه البحر ولم نعثر عليه، لقد فقدناه يا ابنتي.
(تصمت للحظات(
أبي، أبي مات ؟!! أبي في المشفى.. وسيلحق بنا، وسنجد بيتاً في ألمانيا،أجمل من بيتنا، لقد قال هو لي ذلك، وقال لي ونحن في الطريق إلى شاطئ البحر: سآخذك إلى المدرسة: مدرسة الضرب فيها ممنوع، والمعلمون طيبون، وستلتحقين بمعهد للموسيقى، هو قال لي ذلك، وقال: وستتعلمين العزف، ستعزفين وتغنين لي، لبابا..
(تغني، تبكي،ثم وبهدوء وحنق(:
المهرب مصطفى هو السبب، جشع هذا الأزعر هو السبب، إنه وحش، وحش كاسر، المهربون وحوش: كلهم وحوش لا تخاف الله، وحرس الحدود الذين ضربوا أبي بقسوة: وحوش، وصاحب مغسلة السجاجيد الذي كنا نعمل لديه أنا وأمي من أول النهار حتى آخره، ليسلبنا الأجرة: وحش. معلمي في المدرسة؛ الرفيق موسى: وحش، كلهم وحوش، كلهم دواعش، كلكم دواعش.
(تبكي. ثم تهدأ)
آسف، لقد أسهبت في الحديث، ولكن كان ذلك بالرغم عني.
(تنظر إليهم للحظة، يَرّن الهاتف، تجيب(
ألو، نعم يا أمي، نعم أنا هناك، أين أنت، لقد تأخرت، ماذا، في المحكمة؟
(تلتفت حولها)
أين؟ لا أراك هنا، ماذا؟ هذه ليست محكمة؟ ما هي إذن؟ (بهمس(
وهؤلاء الذين أمامي من هم؟ لقد رويت لهم كل حكايتي مُذ خرجنا من البلد وحتى.. ماذا؟ أخطأتِ في كتابة العنوان؟ وهذا المكان الذي أنا فيه الآن؟ ليس محكمة؟ ما هو إذن؟ مسرح؟! ولكنني لست ممثلة، فلماذا لم يعترض أحد على دخولي وحديثي عن نفسي طوال هذا الوقت؟! ماذا؟ ديمقراطيون..
(بضيق(
مرة أخرى، الديمقراطية مرة أخرى؟ ألم أقل لك لا تذكري هذه الكلمة؟ أكرهها، إني أكره هذه الكلمة..
(تهدأ(
لا بأس، لا بأس، لن أفقد أعصابي، ولكن أنت السبب، أنت من أرسل لي هذا العنوان، أنت من اخطأ، حاضر، لن أحقق معك، إني قادمة، اكتبي لي العنوان بشكل صحيح هذه المرة، واحذري أن تكتبي لي عنوان مشفى مجانين أو مقبرة.. حاضر، حاضر. لا تصرخي.
(تلملم أشياءها وهي تدمدم وتضعها في الحقيبة، يرن الهاتف مرة(
أرسلت العنوان على الواتس آب، هل تأكدت من صحته؟ حسن، سأجد من يرشدني إليه، البلد مليء باللاجئين من أمثالنا، لن أضيع. حاضر، حاضر يا أمي. Tschus
(تخرج وهي تخفي ارتباكها بإطالة الحديث مع أمها واصطناع الانفعال)
النهاية
أحمد اسماعيل اسماعيل
كاتب مسرحي من سوريا مقيم في تركيا