العراقي “يوسف العاني” حياة في المسرح ..لم يدفعه المنفى إلى التغريب في نصوصه 2 / 2

عبيدو باشا كاتب

وناقد مسرحي من لبنان

ـ

بالإبداع والابتكار لا حدود إلا حدود الحلم. خلق يوسف العاني مادته، من الحياة لا من العدم. حالة لم تتوقف منذ كتابته «القمرجية». تجدد متواصل بتفرد التمس الفرادة، حتى تردد أن «الوثائقية» ، اقتراح يوسف العاني على المسرح  العراقي. «التغريب» بالمفتاح، لأنها تقود المشاهد والقارئ في تسلسلها بدون توقف، كاشفة آليات كتابتها من التكرار بالكتابة. ثمة نبرة ملحمية في المفتاح، بالإستيلاد الدائم للحدث من الحدث نفسه. إنجاز التغريب في «السائق والبيك» المنحولة عن « بونتيلا وتابعه ماتي» لبرتولد بريشت. «الخرابة» مسرحية اقتراح الوثائقية على المسرح العراقي. مادة وصنعة بالمادة. «الكيفية هي  الأساس، لا النوع. بالأولى قوة بلا استقرار. بالثانية استقرار بلا قوة .

نصوصي تعبر عن قلق الإنسان العادي في خضم الأزمات الكثيرة بالعالم.سواء في زمن العمل على الصعيد الفردي، أو على الصعيد الجماعي في تجربتين من أبرز التجارب في المسرح العراقي. فرقة المسرح الفني الحديث، أولاً. ثم، فرقة المسرح الحديث، حيث جذبت التجربتان، أسماء لم تلبث أن أضحت أبرز أسماء التجربة العراقية. ضيقت السلطات على التجربتين، عبر الرقابة أو عبر التدخل المباشر، إذ  أنها غالباً ما قطعت الكهرباء عن صالات العرض. قدمنا عروضاً على ضوء الشموع. حدث ذلك في أكثر من مرة. أرادت السلطة إعادة تشكيل التجربة في صالحها».

لم يكتب يوسف العاني فقط، مثل كثيراً. له أدوار كثفت حركيات الدلالة الجديدة في تصعيد لا ترف فيه. مثل بالسينما والمسرح والتلفزيون. ذكَّر بذلك، حين نفض «السيتارة» الخاصة به. قلبق عراقي ، يسمى الفيصلية، لأن الملك فيصل شرَّع حضوره على الرؤوس، بالطلب من رئيس حكومته نوري السعيد، بإصدار مرسوم رسمي يكرس السيتارة رسمياً كواحدة من أصول الملابس العراقية. «هذه السيتارة، لبستها في دوري بفيلم «سعيد أفندي» بالعام ١٩٥٧. لا أزال احتفظ بها منذ ذلك الحين». لا يعترض الرجل على تسميته بغوركي العراق أو غوغول البلد أو تشيخوف المسرح، غير أن هذا لا يترفه، لأنه يجد في الصفات سفراً طيباً بلا أهداف وصول طيبة. تقيم التسمية الطقس حول المسمى .

ترديد حياتي،لا يميز  الإنسان عن مثيله. «العراقة بالتاريخ، لا بالتسمية». يكتب نصوصه بالتبصر، لا بالمصالحة. نصه ليس نص جوار، نصه نص جديد مكتوب بالموروث. لا يزال هذا الزواج قائماً بين الجديد والموروث. حكايته مع الرقابة حكايات. منعت الرقابة مسرحيته «الجومة» بعد أن وجدت أن الوالي الأمبراطوري، ليس إلا شاه إيران، بزمن التحالف بين نظام الشاه ونظام صدام حسين. «وزير الثقافة، طارق عزيز، وقع على منعها». أخذه الموقف السياسي إلى الإعتقال في  «معسكر سعدية الشط» وإلى الهجرة.كتب أول مونودراما بالعراق، العام ١٩٤٩، حين كتب «مجنون يتحدى القدر». زينت رغباته المسرح العراقي بالأشكال والأصناف والمشاهد. لم يمارس المحامي المحاماة، إلا بالدراسة في كلية الحقوق، حيث تأسست جمعية «جبر الخواطر» المقدمة ألواناً من المسرح الناقد، المنفذ الوحيد للموقف السياسي. هواة المسرح صنعوا مسرحاً ، لا يزال ذكره يتردد حتى اليوم، لأنهم رغبوا في أن يتعلموا فن المسرح ، وأن يغيروا صيغ المسرح الدارجة. وضح الإنسجام بين أفراد المجموعة هذه، إلى درجة أن من شذ عنها واختلف معها انعزل عن الحيوية الفنية/ الثقافية، التي اشاعتها التجربة إلى جانب تجارب جامعية أخرى.» جبر الخواطر» نواة فرقة المسرح الحديث. المبادرة من ابراهيم جلال والتكريس  من يوسف العاني. اللافت أنه لم يمارس الإخراج في مسرحيات بنت حضورها على نصوصه. ظاهرة إدراك للمستوى والحد في التعامل مع المسرح. أقام العاني فترة في بيروت، تأثر خلالها بمسرح الأخوين رحباني، حيث تابع تمارين الأخوين  مع فيروز وعروضهما  .

كتب دراسات حول المسرح هذا.لم يمضِ وراء التجربة إلا بالإعجاب. حيث أن الكاتب في العاني، والمشاهد فيه، لم يهدفا إلى فهم الطرق بهدف استعارتها كمادة لازمة، وترك الباقي. اختار العاني الشغل على الأسطورة في أكثر من مسرحية» «لأن الأسطورة تدلل على المحتويات الإجتماعية، بالدعوة إلى التفكير بها من جديد». العاني، كاتب نص مسرحي ودراسة. من مؤلفاته «بين المسرح والسينما» و«التجربة المسرحية معايشة وحكايات» و«سيناريو لم اكتبه بعد»و«المسرح بين الحديث والحدث» و«شخوص في ذاكرتي». التسعيني، ابن تجربة إشكالية. رائد من رواد المسرح العربي، وجدته وهو بصدد استلام  جائزة الشارقة للإبداع المسرحي، كما وجدته في المنتديات والمهرجانات والمساحات المسرحية العربية، صريح ، متحرر، يعيش بين عدم اليقين الطبيعي ونوايا الناس . جائزة «تدفع وتدعم الجهود العربية المتميزة وتحتفي بالأسماء الرائدة التي كان لإسهامها الدور الكبير في تثبيت وتدعيم تجربة أبو الفنون بالساحة الثقافية العربية» كما جاء في بيان الجائزة.  من أراد للحياة أن تتفرد في مسرحه، يستحق الجائزة، يستحقها يوسف العاني.

الآن اختلفت الأوضاع. أشيع بالفترة الماضية، أن يوسف العاني بصدد كتابة نص جديد، يعمل على اعتقادات الناس الجديدة، لإخراجهم من خوفهم وريبهم. ولأن المسرح هو المسرح، لا علاقة له بعلم الأحياء ، يدرك العاني أن اليأس يدفع الناس إلى إشهار نوايا معدة لمواكبة الأحداث الكبرى. «هذا ضرب من الإعتقادات. اشكر للناس تفكيرها بي على هذه الطريقة. غير أن الأوضاع انقلبت بالعراق. تقدم مسرحيات عند الثالثة ظهراً. لا يقول لي أحد أن مسرحيات الساعة الثالثة مسرحيات. الوضع الأمني ليس لعبة. إنه لا يسمح بالتجمع. لا أريد أن أدعو إلى مشاهدة مسرحية، حتى لا يتجمع الناس، محققين لأحد الانتحاريين غايته، بحيث يقتحم التجمع بعبوة ناسفة زنر نفسه بها أو بسيارة مفخخة. ما تعرض له العراق ليس قليلاً. مجموعة من الكوارث المتعاقبة. حروب إقليمية، اجتياحات، تفكك، حروب داخلية، اصطفافات. كل ذلك أثر، كل ذلك يؤثر. الاجتياح والاحتلال الأمريكيان، رفعا من منسوب الغلاظة في حياة العراقيين. انتهك حيواتهم، انتهك دولتهم، انتهك تراثهم، قلب البلاد عاليها أسفلها، كسر كل ما هو قائم ومتين في حياتهم. غير أنني متفائل. ذلك أن الغزو الأخير ليس الغزو الأول ، حيث تعرض العراق إلى ٤٤ غزواً ، من غزو هولاكو إلى غزو الأمريكان. تعافى العراق دائماً. نهض واستمر بأرواح وقوى وعقول ابنائه. هذا قدرنا. اختفيت،  خلف اسماء مستعارة، حين طلبت ولوحقت من قبل البعثيين. هاجرت، ولكنني لم أتوقف عن الكتابة. هذه مرحلة انتقالية، لا تسود المسارح التجريبية والطليعية الساحة المسرحية فيها. لا تسود المسارح البواهر فيها. هذا زمن الأعمال الوجودية ذات الطابع العام المتهافت . لا تشكل المسارح هذه حلولاً جزئية. هذه مسارح افتراضات عابرة لا جدالات تمتلك فهماً تاماً للنويا والفكر. بغياب الحلول، من الواقع، في مزاج مجتمع سياسي، ترك المسرح لقوى السوق وقوى الطبيعة . لا بأس . هذه مرحلة. استوطن الغجر الرحل، فيها،  حياة العراقيين ، بمجموعة من المسرحيات بأشكال مريضة. أفلتت مسرحيات التقويل والفودفيل والبكائيات وما شابه، علينا، إلا أن ما يحدث ليس نهاية التاريخ، ولا يستطيع أن يردم أبنية التجربة العراقية الشاهقة. تلك التي قدمت مناهج ومذاهب متقدمة في المسرح وصولاً إلى صياغة مسرحيات وتجارب على لغات خاصة. يتذكر يوسف العاني أول أدواره على خشبة المسرح، عام ١٩٣٨، إذ صعد على خشبة مسرح المدرسة ليلعب دور يوسف الطحان من «القراءة الخلدونية».بعد المسرحية، سأله استاذه علي القزويني، عن من علمه التمثيل. عندها، أجابه، بأن الناس هم من علمه التمثيل. لأنه ما انفك، يقلد ويحاكي الناس في مشاهدهم اليومية، بتشجيع من زوجة أخيه، أو أمه الثانية، بعد وفاة والدته.

 ــــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة نزوى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock