وجوه مسرحية
الفنان الجزائري الراحل رويشد: “الوجه الثاني للحقيقة” الدرامية
المسرح نيوز ـ القاهرة| وجوه مسرحية
ـ
بقلم: عبــد الكريــم بن عـيسى
عند دراستنا لفن رويشد نجد أنفسنا أمام حلقة جديدة في السلسلة التي تصل فن التمثيل في الجزائر بجدور الفصل الضاحك الذي عرف طريقه إلى بلادنا عــبر الـــتــــوري رشيد القسنطيني، سيد علي فرنندال، علالو و دحمون. كما نجد أمامـنـا نموذجا جديدا من نماذج كوميديا الفن حيث جمع ” عمي حسن ” إمكانيات الفرجة الشعـبيـة جـميعها أدخلها في إطار الفـن المـسرحي المـحـترف. ليشكـل نـواة جـيـدة مــن الشــعـبــي والإنــسانـي العـام. و كان رويشد حلقة كبيرة متميزة من سلسلة الذين صنعوا تاريخ المسرح الشعبي الجزائري و عاش همومه و انشغالاته . أبـدع في التمثيل والتأليف والإخراج والغناء الفكاهي، كما أمتع وأضحك الملايين من المتفرجين في السنيما والمسرح والتلفزيون.
أحمد عياد، عمي حسن، حسن طيرو، حسن نية، آه يا حسن، حسن طاكــســــي ورويشد كلها أسماء لعبقري واحد. تجسدت عبقريته في الارتجال الخاضع لمقياس الضوابط الفنية. و رويشد ساعد بذكائه و فطرته على استمرار الكوميديا الارتجالية ذات الضوابط و تقبل الناس لها يوم كانت السهرات الـفــنيــة و الــمسـرحية تعقد في الأحياء الشعبية أو في قاعات السنيما و المسرح . فقد كانت تقدم بين وصلات الغناء و الطرب ، مسرحيات هزلية من إنتاج محلي و يتخلل ذلك تدخل الحضور في النص المسرحي و إلقاء النكات و الجدال مع الممثلين .
من أجل مسرح ثوري فكاهي أو “مسرح الطيرو “
كان رويشد عملاقا في فنه وإبداعاته، مغامرا يوم أسس للمسرح الثوري الفكاهي والذي أسميه شخصيا «مسرح الطيرو “. الذي يطابق سمات المسرح الشعبي، ولم نر من يجاريه في هذا المضمار. وسار موفقا في عمله، سنين عدة، فهو من هذا القبيل عصامي التكوين ونسيج وحده، ويوم فرغت الساحة من ” عمي حسن ” لم نجد فنـانا يحل محله، أو يسير على هديه. لقد بنى صرحه الشامخ .ولم يأت من يضارعه في بناء هذا الصرح المشيد . إن ” مسرح الطيرو” في معطياته المختلفة، لم يكن سوى تعبيرا صادقا لأحاسيس الشعب. فــالـفنان أحمد عياد كان يفرج عن الناس كربتهم بواقعية وسخرية تجعل الضحك ينطلق حتى لدى أولئك الذين لم تعرف الابتسامة مقرا في وجوههم.
ويرتبط مسرح الطيرو بالقصبة هذا الفضاء العمراني الذي ألهم رويشد في جميع إبداعاته، كما استطاع أن يبدع شخصية ” حــســن طــيـرو” وهــي شـــخصيــة “قصبوية ” والتي احتلت مكانها في تراث الشــخــصـيات الأد بـيـة والفــــنـيـــة والتاريخية. كان يمتلك فيض الدعابة والمرح والفكاهة. وقد انقادت حما ستـــه إلى فــنـه ومسـرحه وعاش ومات في خدمة المجموع. وتجد ر الإشــارة إلى أن رويشد تمرس الفكاهة ولم يتمرس السخرية: إذ هناك خيط رفيع بين الفكاهة والسخرية. فالسخرية في حد ذاتها تعني الخبث أو المكر. و قد ميز الفلاسفة بين السخرية و الفكاهة على أساس أن الفكاهة تقوم على العواطف، بينما الســخريـــة تقوم على العقل، و تنضوي تحت هذا الأساس مجموعة مـن الفــروع التـي تمثـل الفرق بين الفكاهة ذات الطبيعة الـبــريــــئة و الســخرية الـتي تعـتمـد عـلى الذكاء فـهـي على نقيض الفكاهة تماما ذات طابع خبيث، أن الفـــكاهـــــــة تــضحـــــك ” من” الشخص لكن السخرية تضحك ” عليه” و مسرح ” الطيرو ” يندرج فـــي إطار وجوهر الفكاهة الصحيحة و التي لا تكون مؤذية و تكون خلوا من إلــحاق الضرر بالآخرين.
القصبة: فضاء ثقافي وإبداعي
بــدأ رويــشــد حـياته الـفنية بالاشتراك مع رشيد القسنطيني الذي كان يقلده كثيرا وتأثرا هاما في بـدايـته مـشواره الفـني. وأخذت تـتبلور شخصيتـه حـتـى صار عند الناس الفنان الآول، فانجدبوا إليه، وأخذ نجم سعده يعلو، كما أصبح إ سمه على كل شفة ولسان، فاثبت وجوده وتبوأ السدة من الـركح. فـجده وكفاحه كنا العون له ليعطي ويسمو، حتى أصبح رويشد فيما أبدع. كانت له رؤيا مـستـقبلية عجيبة، وكانت مغامراته أعجب. فوصلت مطامحه إلى السينما. وكان يـد رك أن اضحاك الناس ليس فنا سهلا، بل هو أكثر صعوبة من إثــارة أحزانـــــهـــــم، واحتياج الناس إلى الضحك حقيقة تتصل بحياة الإنسان ورغـبـته في الخلاص من وضع يـتـنا قـض مع إنـسـانـيـتـه.
و من خلال المراحل اختلفت شخصــيا ت الكـوميديا الـتي مـثلها و ظهـر الـتغيير واضحا مـــــع إبداعه لشخصية ” حسن طـيرو” الـتي ارتبـطت كـما سلـف الذكـر بالقصبة، هذا الفضاء المعماري الأصـيـل الذي انـجـب امحمد العانقة و سيد على فرنندال … هذه الشخصية القصبوية التي كانت رمـزا لذلك الـرجل الشـعـــبي المتسامح ، الذي يصل في اجاباته إلى حـد الـبـلاهة، اذ يـتمتع بكافة صفات البله و يـتحـمـل أذية الـنا س لـه بـصبـر غريب إنه يمثل المواطن العادي البـسيط حيت صادفه في حياته اليومية مشاكل العـالـم الـكبيرة مـن حقـرة وظـلـم و قــســـاوة و ثورة، فيتشبت ” بالقصبة”و حبه لها إلى الثمالة ، لأن القصبة هي ملجأه الوحيد .
وحمل رويشد على كتفيه ” ثقافة القصبة ” يحاول ألا يرى انهيارها. وتـعـتـبـر مسرحيــــــة” حســن طـيرو” نـقـطـة تـحول هامـة فـي حيـاة رويـشـد الفـنـية. ومع إبداعه لهذه الشخصية التي تغـلـبـت عـلى شخصـية رويشد فـيما بعـد، حـتـى صار يلقب ” بعمي حسن ” بينما لقـب رويشد ســقـط فـي بـحر النـسـيـان. لأن ” مسرح الطيرو” هو مسرح الضحك الذي هو بحاجة إلى فهم واقعـه والـكـشف عنه بطريقة ذكية، تتناول المتناقضات والمفارقات في حياة المجتمع.
وتربط أحمد عياد قصة حب أبدية بالقصبة، إلى درجة أننا عندما نتحدث عن ” القصبة ” نتذكر اوتوماتيكيا رويـشـد والعـكـس صـحيـح، والـقـصـبـة مـن أهم الفضاءات التي ألهمت “حسن” بحيث نلمس ديكورات ونافـذ وشخصيات هذا الفضاء العمراني الأصيل والفريد من نوعه في جميع ابداعاته.
وخلال مسرحيات رويشد كانت تلــك الشخصـية تتـطـور و تتحول وفقا لتجارب الحياة و إن بقيت على مظهرها الخارجي، كما أنه و من خلالها جعـل الكـومـيديا أداة نقد للمفارقات الاجتماعية ولو لا ذلك التطور لنسي الناس ” عمي حسن ” منذ زمن بعيد. وقضية الشخصية النمطية هي من أنواع التخليات، ولا يوجد الإنسان الذي لا يتطور مهما بلغ من درجات الغباء.
ورويشد في شخصيته المحورية بالنسبة للنص المسرحي يدور حول نفسـه فإذا هـو كالــمـغـنـطـيـس يـجـذـب رفاقه والأحداث والمتفرجين نحوه. و إذا لم تكن مسرحيات رويشد مرتجلة بالمعني المتعارف عليه للمسرحية المرتجلة فلا ريب أن أداء رويشد المتحرر كان يخرج عن النص و تخطيطة الإخراج- ولو كان هو المخرج أو المؤلف – في مجـا ل الجاذبية الحميمية المتبادلة بينه و بين الجمهور و التي تجعله دوما يتعايش معه بهمومه و مشاغله و مشاكله.
عارضا لها بعبارة أو كلمة أو حركة مثيرا عاصفة من التعاطف تعهد فورا بعد أن تكون قد أرست في نفس الجمهور الترويج والارتياح لما قد سلطته من نقد أو فضحته من كـشـف ورويـشـد أيضا ذلك الممثل المبدع الذي له شخصيته المتميزة بحضورها النفاذ وبراعة وابتكارية تنفيذها دورها في العمل المسرحي الذي تقوم به مسرحية أو فلما سينمائيا أو تـلـفـزيـونـيا. وقــيمة رويشد الفنية لا تقتصر على كونه كان ممثلا فذا بل كان أيضا مبدعا فريدا مؤلفا كبيرا ومخرجا محترفا: رائدا مسرحيا.
وينفرد أحمد عياد ” رويشد” فــي إبداعاته الفـنـية بامتلاكه ” للقاعـدة الفضائـيـة” المتمثلة في القصبة على وجه التخصيص والجزائر على وجه التــعـمــيم. فإذا سافر شكسبير عبر خياله إلـى بـلدان أخـرى غـيـر انـجـلترا، عنـد ما ألــف” روميو وجيليات ” بحيث سافر إلى ” فيرونا” ولما تحدث عن ” شلوك” زار إيطاليا من جديد وعندما كتب هملات انتقل إلى الدنمارك فإن رويشد عندما قدم أعماله المسرحية و التي عددها أربع مسرحيات (حسن الثوري، الغولة، البوابون، آه يا حسن) فقد جعل من القصبة و الجزائر قاعدة فضائية، بحيث عندما نـشـاهـد كـل مسرحياته يتبادر للذهن و للعيان وجود القصبة. حتى ولو لم تكن مجسدة في الديكور إلا أن ثقافة الـقـصـبة وسلــــوك سكانها ورائحة ” القطايف” تنبعث من الحوار والحركات والأداء المسرحي لها.
المسرح الاجتماعي الشعـبي: صدق الرسالة …
إذا كانت مسرحيات رويشد قد عرفـت بالشـخصيـة الـمحورية فـقـد عرفــت أيضا مشاركة ممثلين كبارا أمثال : الطيب أبو الحسن ، أبو جمال، سيشاني، نورية، كلثوم ولد أحمد عياد يوم 20 أفريل 1921 بالقصبة و طرد من الـمدرســــة و سـنــه لا يتجاوز 13 سنة كان يعشق رشيد القسنطيني إلى حد التقليد حتى سمي برشيد القسنطيني الصغير ” رويشد “و قبل ولوجه عالم الفن و التمثيل جرب رويشد عديد الأشغال : ما سح أحذية بائع خضر و فواكه ، بائع جرائد … وأول مسرحية شارك فيها كانت للأستاذ محبوب سطمبولي و التي عرضت في قاعة الماجيستيك (الأطلس حاليا) ثم انتقل للتمثيل مع فرقة عمار الواسم. وفي عام 1946 التحق بفرقة مصطفى بديع وشارك في مسرحية ” المهر” إلى جانب على عبدونو الطيب أبو الحسن وفي سنة1947 مثل إلى جانب مصطفى كاتب في مسرحية ” أشكون السبب ” ثم مع محي الدين بشطارزي والذي كان يشرف على الأوبيرا أنذاك- ويشارك في مسرحيات ” الراقد ” و ” عيشة بنت الغول ” و ” زواج بتليفون ” إلى غاية 1949. ويتوقف رويشد في عام 1950 عن العمل مع محي الدين بشطارزي هو ومجموع الممثلين لينظم إلى فرقة الطاهر العامري المتكونة من حسن الحسني، محمد الرازي، الطيب أبو الحسن، لطيفة ، عبد الرحمن عزيز وعبد الحميد النمري. وشارك في مسرحيات ” الأبله لموليار “، ومغامرات بوزيد المغترب لتقوم الفرقة بعدها بجولة إلى فرنسا لإمتاع الجالية الجزائرية في فرنسا. وبعد الاستقلال يعرف رويشد أحلى سنوات تجربته المسرحية ويكتب أربع مسرحيات السالفة الذكر وينال ثلاث جوائز في مهرجان الموناستير في تونس عن ” حسن طيرو” سنة 1964 الغولة سنة 1966، البوابون سنة 1970.
ورويشد يذكرنا بشخصية ( كالفيرو) بطل المسرح لشارلي شابلن ، وجه أشاع المسرح في صفوف الجماهير ، حيث من مسرحية ” حسن طيرو ” إلى مسرحية آه يحسن ” جسد تراث كوميدي عبر عن روح المجتمع وسائر التطورات و نقل آلام الشعب بصدق و مرح.
عندما كتب رويشد ” البوابون” استلهم فكرتها من القصبة ومن الواقع من حياة شخص حكم عليه بالإعدام إبان الثورة التحريرية، وكان يتقاضى أجرة التقاعد من عمله في البلدية فـــي مصلحة القمامة. ومن هنا جاءت فكرة ” الكونسيارج” لأن المسرحية فيها شخصية مجاهــد يشتغل ” بالحانة” تم ينتقل للشغل بالبلدية كمنظف الخ ….. وتعتبر المسرحية كنوع من الالتفاتة وتخليدا للمجاهدين بطريقة رويشد بطبيعة الحال.
كما تجدر الإشارة إلى أن رويشد كان عصامي التكوين لم يتخرج من معاهد التكوين المسرحي والفني. لما يتمتع به هذا الفنان من ” إحساسية ” فنية فطرية، ألم يسأل الكوريغرافي الأمريكي الكبير مكس كولينغام ذات يوم عن الفرق بين الإنسان العادي والفنان فكان جوابه: الفرق الوحيد يكمن في ” الإحساسية “. هذه ” الإحساسية ” كان رويشد يمتلكها والتي بالضرورة رجحته لاعتلاء هذا الصف المتميز والفريد في مجال المسرح والسنما ببلادنا. إن ” حسية ” رويشد ” الفنية هذه أهلته من جانب آخر إلى إدراك الأشياء بطريقة أخرى وقوة في ملاحظتها والاقتراب من شخصياته التي يريد تقديمها على الركح.
على هامش احدى المهرجنات بالقاهرة سؤل الفنان أحمد عياد عن المعهد الذي درس به فأجاب بعفويته المعهودة الصحفي المصري قائلا: درست في جامعة ” بودواو” إشكالية الشخصية المحورية.
كان رويشد يحب كثيرا ” مدرسة الشخصية المحورية ” في كتابة مسرحياته حيث تدور أحداث المسرحية كلها حولها، كما سبق الإشارة إلى ذلك. وكان رويشد شخصية ” فنية أنانية” كان يحب نفسه فنيا كثيرا بحيث عالج قضية البطولة في تأليفاته بصورة الشخصية المحورية التي تدور حولها القصبة أو الحكاية. وكان رائدا في الجزائر وتميز بهذه الصيغة التأليفية و الأدائية . بل نستطيع القول بأن التأليف عند رويشد أكثر من هذا بحيث يــمكـــــــن إدخاله في خانة ” المونودراما ” بأتم معنى الكلمة وليس كما يـــراه بعض المسرحيين اليوم . إذ يعتبر رويشد مونولوجا في حد ذاته لأن كل الشخصيات الأخرى – ما عادا رويشد التفافية و يعتبر و جودها لمساعدة الشخصية ” المونولوجية ” المحورية فقط و لا يمكن حتى تصنيفها كشخصيات ثانوية. إن قواعد اللعبة في ” مسرح الطيرو” تفرض على الممثلين الآخرين تقبلها مسبقا، لأنهم يدركون جليا ومسبقا شخصية “حسن” ويعرفون أن الأدوار الأخرى ” إلتفافية” ليس الا.
مسألة الشخصية المحورية تندرج في ذلك النوع من المسرح الشعبي، مسرح يحاول أن يعالج قضايا الاجتماعية وفي نفس الوقت تحديد المعالم الأكثر ايجابية لما يقدمه للممثلين الآخرين. واعتبارا من هذا فإن إشكالية الدور يالإلتفافي ” حول الشخصية المحورية لا يطرح في قاموس هذه التجربة.
إن تجربة رويشد في الشخصية المحورية قد سبقه اليها محمد ثوري ورشيد القسنطيني بل كانت موجودة حتى قبلهما في المشرق العربي كما هو شأن كشي باي والمغربي في مصر في بداية القرن وعند شوشو فيما بعد في لبنان. ولكن يتميز رويشد عن سابقيه أو معاصريه بكونه لم يكن كاتبا إلا لأنه ممثلا ولم يكن مخرجا إلا لأنه قبل ذلك ممثلا أيضا.
ومن هنا فإنه يمكن القول أن رويشد ساهم أكثر من جميع المسرحيين بدون استثناء باستقطاب الناس نحو المسرح، وهذا شيء أساسي و على جانب كبير من الأهمية. فلنحافظ على تراث رويشد لنبقيه في مكانه معلما وقدوة، معلم الفن والحرفة المسرحية، ونحي ذاكره ونخلده وأمثاله إذ ذاك يظل فقيد المسرح، الذي ظل يجاهد في مشواره الطويل، حتى تمكن من الداء فصار الشمعة التي تذوب لتنير الاخرين …. فكان الفنان الرمز … هو المسرحية، هو النص، لأنه هو بشخصيته وبصفاته، الفرجة أو القصد الذي يتجه نحوه الجمهور. وقبل أن تفقدنا الأيام مما تبقى من ” مسرح الطيرو ” ومن الحماسة فإنه من الواجب أن نسارع جميعا الى العمل على أحياء التراث المسرح لرويشد …
عفوا للأستاذ أحمد عيــاد.