مقالات ودراسات

الكاتب السوري أحمد اسماعيل اسماعيل يكتب: صياغة التاريخ مسرحياًـ شكسبير نموذجاً


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

  أحمد اسماعيل اسماعيل

كاتب سوري مقيم في ألمانيا

 

مدخل أولي:

قبل أن يصبح التاريخ علماً له قواعده وأصوله في تعليل الحوادث وتحليل الظواهر التاريخية، بل وقبل كتابته في سرد إخباري لماضٍ ممتلئ بأحداث متفرقة، مجتزأة، لا يربط بينها رابط ولا يجمع بين أسباب وقوعها سبب،

 

دون الإنسان تاريخه بالرسم على جدران الكهوف والمعابد، وغناه في حكايات وأساطير، وذلك بأسلوب فني اختلط الحقيقي منه بالوهمي، والواقعي بالخيالي.

وحين جاء المؤرخ وكتب التاريخ واقعة واقعة، وحدثاً حدثاً، وربط بين الوقائع والأحداث والزمن ثم أسمى ما أنتجه بعلم التاريخ، كان للفن دوره في حفاظ هذا العلم على تماسكه وخلوه من الجفاف.

 التاريخ ووعي المؤرخ :

ليس التاريخ مجرد سرد إخباري لماضٍ بعيد أو قريب، والأحداث التي وقعت فيه لم تحصل أو تقع نتيجة قوى غيبية أو طبيعية أو شخصية بحتة، كتبها المؤرخ منفردة، منعزلة دون ذكر لسبب موضوعي أو تعليل منطقي منسجم؛ بل هو علم (يشتمل على نظام يتعدى مجرد التتالي في الزمان)(1) له قوانينه الموضوعية التي تنبع من أحوال وظروف حياة المجتمع في حركتُه الدائمة وعلاقات حياته المادية أساساً،

 

وإذا كان من البديهي أن يتوفر لدى من يتصدى لسبر غور وقائع وأحداث الماضي، وتحليلها وتنسيقها، والتوصل إلى جوهرها، وعي علمي، ومنهج خاص، وأدوات علمية.(2) فإن من الضرورة أيضاً أن تتوفر لديه ملكة الخيال أو الفراسة التخيلية، ليتمكن بواسطتها من إعادة الحكاية أو خلق الواقعة أو الحادثة المبتورة أو الغامضة وإيصالها إلى قارئ التاريخ بشكل بعيد عن الجمود وعدم الترابط، وقد دفعت هذه الحقيقة العلمية مؤرخين كثر منذ “هيرودوت، أبي التاريخ” إلى امتلاك ملكة الخيال الإبداعية.

التاريخ ووعي الفنان:

إذا كان التاريخ قد بدأ فناً، أو متضمناً في الفن، مثله مثل غالبية ضروب النشاطات الإنسانية، فلأن الفن بدأ مع الإنسان، مع الاحساسات الأولى له، والوعي الأولي له، فلا عجب أن يشكل (عنصر وعي الذات للشعوب) لأن الشعوب، حسب هيجل (وضعت في النتاجات الفنية أعمق التصورات والتأملات، فالفن يعمل غالباً كالمفتاح، وهو عند بعض الشعوب المفتاح الوحيد لفهم أخلاقهم وديانتهم )”3

وفنان اليوم حين يتناول مادة واقعية لا يستنسخها، وعندما يرجع إلى حدث تاريخي لا يكرره، بل يتغلغل داخل المادة أو الحدث، يحلله، يكبره، يسلط عليه الأضواء الكاشفة، ثم يقدمه للناس من زاوية رؤية معينة، ممتلئة وعياً وحساً وعاطفةً، وبخلاف المؤرخ، لا يلتزم الفنان بتفاصيل الماضي عندما يتناوله، ولا يتقيد بأحداثه تماماً، وإنما يستوحي منه وينتقي ما يخدم حاضر شعبه ومستقبل بلاده.

أهمية صياغة التاريخ مسرحياً :

من المعلوم أن للتاريخ جاذبيته الخاصة التي تشد الناس إليه في مختلف الظروف، وخاصةً العصبية منها، تماماً كما لماضي كل فرد منا نكهته الخاصة، لما للماضي وذكرياته، الحلوة والمرة، من وقع خاص في وجدان وعقل الإنسان. ويُعد الرجوع إلى التاريخ دائماً، للاطلاع عليه، ودراسته والتعلم منه وفهم الحاضر على أساس المتماثل مع أحداثه، ضرورة واجبة في كل زمان .

وتحقيق هذا الأمر مرهون بإمكانية إيصال التاريخ، بأحداثه وشخصياته، إلى الناس عامة، بطريقة يسيرة بعيدة عن جمود الدرس ورصانة البحث العلمي.

ويعتبر الفن عامة، والمسرح خاصة ً، ذو قدرة جاذبة وفعالة على إيصال أحداث التاريخ إلى أفئدة وعقول الناس عامةً، وذلك لما يمتاز به من جماهيرية في الاتصال, وتشويق في معالجة مواضيعه، وقدرة على جعل المشاهد يعايش التاريخ في شخصياته المتحركة والحية، وأحداثه الجارية أمامه.

حتى يكاد يصبح ما شاهده جزءاً من تجربته الشخصية، بل ملتصقاً في روحه ووعيه، ولقد عبر الكاتب الفرنسي ستاندال بعد مشاهدته تمثيلية تاريخية عن أهمية ذلك بالقول 🙁 لو أتيح لنا أن نشاهد الحوادث الكبرى للتاريخ الفرنسي على هذا الوجه لخطت كوارثنا القومية بمداد من الدم في ذاكرتنا)“4” ولقد بلغ به الحماس لهذا الامر أن أسس مسرحا ًخاصاً به أسماه، المسرح التاريخي، سعياً منه لوضع تاريخ فرنسا بكامله في القالب المسرحي، ولقد كان لمواطنه الكاتب “رومان رولان” تجربة في إعادة الشعب الفرنسي إلى تاريخه القومي عن طريق المسرح .

 شكسبير وصياغة التاريخ مسرحياً :

لقد اعتمد وليم شكسبير ( 1564-1616) في استلهام مواضيع مسرحياته التاريخية على تواريخ مجموعة من المؤرخين من أمثال:  ( بلوتارك، هولتشيد، وهول )

فاعتمد في تاريخياته الرومانية على كتاب (السير المتوازية لنبلاء الإغريق والرومان ) لبلوتارك، كما اعتمد في مواده التاريخية الأخرى على كتاب ( تواريخ اسكوتلندة ) للهولتشيد، راسماً الخلفية السياسة لمسرحياته على الصراع الدائم على السلطة والتاج بين العوائل الأرستقراطية المتنافسة، وبين العائلة الواحدة، وبين الرجل وابن عمه، وبين الأخ وأخيه. في صراع طاحن لا يرحم، فجاءت  تاريخياته التي وضعت اليد على الجوهري في حركة التاريخ: عميقة، نافذة، خالدة، انتصر فيها كاتبها للدراما على حساب التاريخ بأحداثه وشخصياته، تجاهلاً، أو صياغة جديدة، تلخيصاً أو تكثيفاً،

وذلك من خلال عدة تقنيات تجلت في ضغط الزمن من سنوات إلى أيام، والأحداث العديدة إلى حدث واحد، وربما إلى خطبة، وإضافة مشاهد درامية متخيلة، وتغيير مصائر بعض الشخصيات التاريخية حسب مقتضيات الدراما، نجد ذلك في مسرحية يوليوس قيصر مثلاً التي دمج الكاتب فيها معركتي ( فيليبي) في معركة واحدة، وأوقع اغتيال قيصر وتأبين أنتوني له وتلاوة الوصية ووصول “أوكتافيوس” إلى روما في يوم واحد،

وهي في الحقيقة وقعت في أكثر من يوم من الشهر نفسه الذي جرت فيه هذه الأحداث، ومكانياً بدل مكان مصرع يوليوس قيصر الذي قُتِلَ  حقيقة قرب مسرح بومبي  بمكان آخر هو أمام الكابيتول.

ومن المعلوم أن تصرف شكسبير بمواده التاريخية وتجاوزه لمصدره التاريخي لا يقتصر على هذه المسرحية فقط، إذ نجد في مسرحية “ماكبث” التي استمد مادتها من تاريخ “هولتشيد” تصرفاً جريئاً بالمادة التاريخية، وذلك جرياً على عادته في أكثر من موضع وحالة، وهذه أبرز اختلافات النص الدرامي في “ماكبث” عن المصدر كما يذكرها الناقد الإنكليزي ( كينيث ميوار) :

( 1- دنكن، كما يصوره هولتشيد، أصغر سناً منه في المسرحية. وهو مصوَّر كحاكم ضعيف، يجعله شكسبير مسناً وقديساً، ويتغافل عن ضعفه، فيكشف السواد في جرم ماكبث

2- في هولتشيد ثمة ثلاث حملات يكثفها شكسبير إلى واحدة  .

3- في تاريخ هولتشيد، يحاصر ماكبث قلعة مكدف بجيش كبير فاقتضى الاقتصاد الدرامي استخدام القتلة  )”5″

واختلافات أخرى يوردها الناقد المذكور. رأينا الاكتفاء ببعضها على سبيل المثال. وما ينطبق على هاتين المسرحيتين ينسحب على باقي مسرحياته التاريخية الأخرى ( كريولانس، الملك ريتشاد الثاني و الثالث ،الملك هنري الخامس، هنري السادس، الملك جون، هاملت، أنتوني وكليوباترا ..الخ )

والقارئ لتاريخيات شكسبير سيلحظ بسهولة احتواءها على معان جديدة ومعاصرة، إنسانية، اجتماعية، قومية، سياسية .. الخ، مستوحاة من طبيعة وروح عصره، عصر النهضة، نهضة الحماس الوطني،  والتحرر العلمي والديني والانفتاح الحضاري المرافق لصعود طبقة البرجوازية المتمردة على الطبقة الاقطاعية.

ففي كريولانس، الروماني، جسد الصراع الاجتماعي في أوضح صوره. وفي “هنري السادس” الإنكليزي، تلمس بوضوح الحماس الوطني ونزعة التحرر من سطوة الكنيسة، وفي “هنري الخامس” جسد الروح الوطنية في أبهى صورها، بعد أن وجد في هذا الملك، دون ملوك انكلترا أجمعين، ضالته الوطنية المنشودة، فألصق به، بقصد وطني بحت، من الصفات والخصال ما لم تتوفر في هذا الملك حقيقة .

شروط صياغة التاريخ مسرحياً :

ليست صياغة مادة تاريخية مسرحياً، كما يعتقد البعض ، بالأمر الهين، وإن كانت مغرية لما تحتويه من تسهيلات درامية كثيرة. فالظروف جاهزة والأحداث مكتملة، والشخوص حية ومعروفة .. ولكن العمل، ورغم ذلك، يحتاج إلى عناء الخلق والإبداع.

لا شك في أن استسهال الأمر من قبل الكاتب سينعكس لا محالة على نتاجه الفني الذي سيخرج عملاً مبسطاً جداً، بعيداً عن الصدق رغم مطابقته للمادة التاريخية، وسيسيئ أيضاً للتاريخ وللمتفرج أيضاً الذي ينفر من كل عمل فارغ من العمق الفكري أو الإسقاط الواقعي .

ولعل من أولى شروط استخدام المادة التاريخية في المسرح: التركيز على الخطوط الكبرى والشخصيات الأساسية، ومن ثم منحها مفاهيماً ومعاني جديدة ومعاصرة، إذ لا معنى من كتابة نص أو عرض مسرحية تاريخية كما وقعت أحداثها بالفعل في زمنها الماضي، بل كما يمكن أن تقع في زمننا الحاضر، أو في المستقبل، وذلك من خلال شحن الأحداث التاريخية بمعان معاصرة، أو ابراز ما تحتويه من إيحاءات لها علاقة ما بأحداث واقعية، أو ما له صدى في زمننا من أفكار ومبادئ، دون تزييف أو تزيين للتاريخ، بل كشفاً لحقائقه بوعي الفنان القارئ لأحداث الماضي بعين المعاصر. ومن أجل خلق عمل فني يعالج الحاضر ولا يسيء إلى الماضي .

فالعمل على صياغة مادة تاريخية مسرحيا هو أولاً ( دراسة متأنية للمادة وجميع مصادر وينابيع الأفكار السياسية والاتجاهات الفلسفية وظروف وحياة العصر وأعرافه) وثانياً (اختلاف جريء على أساس معرفة الحقائق، وهذا تصور فني خاص، و تدخل فاعل للفنان في التاريخ )”6″ .

وإذا كنا قد اتخذنا من شكسبير نموذجاً في تناول وصياغة المادة التاريخية درامياً، فلا يعني هذا الالتزام بنهجه في تناول وصياغة المادة التاريخية درامياً. إلى درجة ووضع الحافر على الحافر، لأن شكسبير، كغيره من المبدعين، هو ابن زمنه ومكانه ومجتمعه.

مخرج أولي :

ليست مسرحة التاريخ نشراً للغسيل الوسخ، أو نبش المقابر، بل كشفاً وتعلماً، وملامسة للجوهري في حياتنا غير المنفصلة عن ماضينا، فثمة ما هو أبيض وأسود، مشرف ومخزي، بطولي وجبان في تاريخ وماضي شعبنا وشعوب الأرض قاطبة. وقد تمدنا مسرحة التاريخ بمعرفة وملكة تساهم في مشاركتنا بالتصدي لتاريخ لا يكف عن إعادة نفسه، مرة مهزلة، ومرة مأساة.

هوامش ومراجع :

  • شايلد، جوردن : التاريخ، ترجمة : عدلي برسوم عبد الملك، الدار المصرية، ص66
  • يؤكد شايلد بأن التاريخ لا يجري في طريق مرسوم بل يحدد مجراه أثناء سيره .المرجع السابق. ص 117
  • اليكست ، آ : الدراما عند هيجل. ترجمة : ضيف الله مراد، علا للصحافة والطباعة والتوزيع . ص 19
  • شانصوريل ، ليون : تاريخ المسرح، ترجمة خليل شرف الدين ونعمان أباظة، منشورات عويدات. ص 83
  • مقدمة الناقد الإنكليزي : كينيث ميوار لمسرحية ماكبث . راجع : المآسي الكبرى، شكسبير، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا .

6-   لاوبوتوف، يوريس : ترجمة العمل على مسرحية تاريخية. ترجمة : د. حسين  جمعة. مجلة “الأقلام العربية ” العراقية، العدد الأول، السنة الخامسة، ص 26

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock