مقالات ودراسات

حصريا.. الكاتب والمخرج المغربي كريم الفحل يكتب: العرض المسرحي يخشى التدوين!


   المسرح نيوز ـ المغرب | كريم الفحل الشرقاوي*

ـ

*مؤلف ومخرج مغربي

المدير الفني لفرقة مسرح نون التجريبية


ينكفئ العرض المسرحي على وعيه الخاص , مبتلعا نصوص غيره , مصادرا حقوق المؤلف , وسلطة المخرج , وتوجدن الممثل , وخدع السينوغراف… مشكلا في سمكه الدلالي , نصا آخر , حقلا زئبقيا , منفلتا , مشاكسا , نصا ماكرا , شاذا عن التكرار , يعقد مع المتلقي , المتواطئ , المشارك , المنتج , عقدة مبيتة . انه حقل يعمل على تبديل غياراته , مثيراته , أنظمته , علاماته المتشابكة والمتكاثفة . وبالتالي فهو يولد كل ليلة .

نص العرض,نص دائم الجريان , يجدد خلاياه وكاترسيسيته كل ليلة , منفتح على الاضافة والتجدد واللاثبات . مجبول على التعدد والتدفق والتناسل , مؤسسا سلطته , كينونته,مركزيته ,علاقاته الشديدة الخصوصية . ملحقا تشويشا استيطيقا بأغراضه . انه كالثورة تأكل أول ما تأكل أبنائها .إن نص الفرجة في تفرده وكثافة انساقه الدالة , ينتشي دوما وأبدا بنطفته العميقة المتربصة برحم المتلقي . فينحل تجاذبه الجواني ويتحول الى صدام إيباحي , شبقي , إفريسي . لينزاح مستلقيا , منتشيا, متهتكا في سرير الآخر ( المتلقي) آنئذ تحل فيهما “مانيا” الذيثرمفوس , ملء نشوتها .

إن نص العرض ” يمتاز بسماكة دلالية , و كثافة أجناسه وانقطاع مستوياته الفضائية . الزمانية , وهو في الوقت نفسه شديد الالتباس Ambiguité , ذلك أنه يسمو على التحديد دلاليا في اية لحظة منه , ويستحيل تكراره . وبعبارة أخرى فالنص ذاتي التركيز بشكل قوي(1) ” . لذلك فهو نص مطاطي جامح , نافر , يتأبى على التناسخ والتكلس والتشريح . موسوم بالتعري وافتضاض الذات , يخشى الاكتمال والرشد . منتش بمراهقته , بعقوقه , ومروقه . يفزع الى الفتنة والإثارة والرعونة والغواية . غواية الآخر وإغرائه عبر وسائط وإرساليات لغوية وغير لغوية : (سلطة الكلمة , بلاغة الصورة , اشتعال الاركاح , كثافة الضوء , متعة الفرجة , جدلية الفعل , فضائحية الجسد , شعرية الفضاء , صخب اللون , هرمونية الايقاع , شهوانية الزي , طقوسية الرقص , شعائرية الإنشاد , صخب الحركة , فورية اللقاء والتلاقي . جوانية الحلول في الآخر … )

العرض المسرحي وروح الاشتعال

نص العرض كائن زائل , ممتنع عن التدوين , ربيب اللحظة والآن . آيل للنسيان والانمحاء والتلاشي . عاش النص .. مات العرض , هكذا يتبجح المؤلفون : ماذا بقي لنا من المسرح غير سوفوكل وشكسبير وموليير وابسن وتشيكوف وبيكيت…. وليذهب العرض والممثل الى الجحيم .

إن خطورة نص العرض تكمن في حياته وموته, في انبعاثه وفنائه, في ديمومته وزواله, في فورانه واحتراقه, في انصهاره وتوجدنه وذوبانه في لحظته وانفجاره وتفجيره لهذه اللحظة . انه في اشتعاله نص ميتافيزيقي متعال عن القبض والامساك والتشريح . تركبه روح التخطي . هذه الروح تقذف به الى الاقصى لتنزل به الى الاقصى في عرس مأتمي سافر . انها روح بروميثيوسية مثخنة بالإفتداء, فلا مسرح بلا قربان , بلا أضحية , بلا دم . ويبقى العرض الزائل قربانا للنص الحاضر . انه رماده ونزيفه واحتراقه .

العرض المسرحي يتأبى على التكرار

نص العرض دائم الجريان , يتجدد بالذات وبالآخر , يغير جلده ولونه ورائحته . لذلك فأية ” قراءة ” منتجة لنص الفرجة . هي قراء لعرض متفرد مكتف بذاته بمعزل عما سبقه أو ما سيتلوه من عروض”فدينامية الخطاب المسرحي , كونه يفترض تحديدا أن يتقدم باستمرار تجعل من دراسته الفعلية مشكلة كبيرة . وخلافا للسينما , فهو لا يسمح بأن يقطع أو يثبت خدمة لأغراض التدقيق . وأكثر من ذلك فانه لايقبل إعادة تقديم . ذلك ان العلاقات الداخلية الدقيقة التي تستوي في عرض ما سوف تتبدل في العرض التالي ..(2) ” فكل عرض هو محطة مغايرة ,مرحلة جديدة ,عمر ثان , حياة أخرى متجددة لذلك يستحيل معه التحدث عن عرضين متشابهين متطابقين وذلك لعدة أسباب سنجمل أهمها :

تجدد وتبدل وتشابك علاقات العرض الداخلية في تعالقها وتحالفها مع متغيراتها.
تجدد الجمهور / المتلقي الشريك الأساسي في بناء وتماسك العرض المسرحي .
الاضافات الابداعية التي يراكمها كل عرض .
حادثة داخلية ( ممثلة يسقط عنها ثوبها فتظهر بعض مفاتنها .. سقوط احدى قطع الديكور .. الخ) أوحادثة خارجية( انقطاع التيار الكهربائي .. عراك بين الجمهور.. ) مما يفرض دلالته على شبكة العرض الشديدة الحساسية والتي تنخدش ملامحها واجواؤها بعنف . فكل ما يلامس شبكة العرض يصير عنصرا داخليا .
التعديلات التقنية والفنية التي يقوم بها المخرج بعد كل عرض : (ارشادات للممثلين / اضافة أو حذف حركة أو مشهد أو جملة ملفوظة / تغيير مفاتيح بعض الكلمات بأخرى تتناسب ولهجات المنطقة أو البلد الذي يرتحل اليه العرض / استثمار حدث عالمي أو محلي ظرفي يتماشى وروح الطرح النصي للعرض / توظيف بعض التجهيزات التقنية التي تتوفر عليها بعض القاعات وتفتقر اليها أخرى / الاستفادة من بعض الملاحظات التي يبديها المتلقي العادي ( الجمهور) أو المتلقي المختص (الناقد) ,حيث يصبح العرض المسرحي أكثر نضجا بعد أن ساهم في إغنائه وإثرائه المحيط السوسيوثقافي عامة .
الارتجالات التي يضيفها الممثلون من عندياتهم ( يرتجل الممثل اما لاسعاف نفسه أو زميله الذي نسي الحوار , أوللرد على تعليقات وقفشات الجمهور. أو محاولة مدارات خطأ ما كارتداء لباس الشخصية مقلوبا . كما قد يرتجل الممثل للتعليق على واقعة تسيطر على الرأي العام . او انتقاد الحالة المزرية للخشبة التي تهتز تحت أقدام وربطها بالواقع المهترئ مثلا .. الخ حيث تظل هذه الاضافات رهينة بنباهة الممثل وحضور البديهة لديه ).
تعدد القاعات والفضاءات التي يرتحل اليها العرض المسرحي 🙁 الخشبة الايطالية , القاعة الدائرية , مسرح الجيب ,الهواء الطلق , الساحات العمومية, المراكز الثقافية ,قاعات الكليات , الحدائق العمومية ,الملاعب , الاسواق ,المركبات , الشواطئ , حلبة السيرك ,الفنادق الكبرى , السفن السياحية , المتاحف الكبيرة ,ساحات المآثر التاريخية …) مما يكون لزاما على المخرج تطويع العرض وإمكانيات وجماليات المكان .

كراسة المخرج ووهم التدوين

نص الفرجة يظل لوثة هلامية في ذاكرة الدهقان /المخرج ,مبدعه ومحركه .لذلك وخوفا من اندثاره كان المخرج قبل ظهور الثورة السمعية-البصرية يلجأ الى كراسته محاولا تدوين عرض زائل متوهما أنه بذلك انما يدون العرض بينما هو في الحقيقة يدون بقاياه ,آثاره ,ظله ,شبحه ,هيكله العظمي . عرض لا يتنفس ,لا يتناسل ,عرض ميت . لهذا السبب “كان هناك منذ بدايات القرن الثامن عشر في اوروبا تقليد بعدم طباعة الدراما التي مثلت على الخشبة في كتاب . تقديرا للعوامل النفسية التي يبرزها العرض المسرحي والتي يقصر الكتاب فعلا عن اللحاق بها في كل الاحوال(3)” . وقد يلجأ المخرج – فيما بعد – لإعادة احياء هذا العرض المؤرشف في ربرتوار الفرقة محاولا بعثه كطائر الفينق . من تحت الرماد والغبار والأوراق ظانا أنه بذلك انما يبعث نفس العرض بينما هو في الحقيقة سيقوم بإعداد نص مكتوب ,مستخرج من أنفاس عرض زال . هذا النص الجديد سيتحول الى عرض آخر يحمل ايقاعا ابداعيا جديدا . وسيتنفسه ممثلون جدد.

نص العرض والتدوين السمعي – بصري

هل التوثيق السمعي – بصري انقذ العرض من الزوال والموت ؟ هل المكتبات السمعية بصرية المستحدثة الان – في عصر بنوك التخزين المعلوماتية – قادرة على محو هذا الغبن الذي يطال العرض وأصحابه؟ ثم ما هي خصوصيات التوثيق السمعي – بصري في علاقتهما بالعرض المسرحي؟

لقد ساهم التوثيق السمعي – بصري الى حد ما في تخزين عينات من العروض المسرحية بل وترويجها ايضا, إلا أن التوثيق – بالفيديو مثلا – وإن اكسب العرض خاصية التدوين الا أنه أفقده خاصية التمسرح واللقاء الحيوي والمباشر بالمتلقي . ليصير بذلك عرضا معلبا ,محنطا,مقتلعا من لحظته وآنيته وفوريته وفورانه .منتزعا من حالة الجذب والتعاطف والحلول والاشتعال . إنه عرض خارج دائرة الصيرورة والتدفق ممنوع من اللقاء الحميمي والجواني بالمتلقي الشريك الاساسي في قيام وتماسك نص العرض .

وإذا نحن تطرقنا للتوثيق التلفزيوني فانه بالإضافة الى تقاطعه مع الفيديو في نفس العاهات التي يصاب بها العرض المسرحي فإن التصوير التلفزيوني يقوم بأسلبة وأدلجة العرض وذلك بامتصاصه عبر ثلاث نصوص :

نص / كاميرا المخرج التلفزيوني , الذي سيفرض على المتلقي زوايا الرؤية وتركيب المشاهد وتوزيع اللقطات وتوضيب تقنيات الصورة والصوت الخ .
نص / الرقيب التلفزيوني . هذا المبدع الخرافي الذي سينزل بكل أسلحته المتخلفة بترا وتشريحا في جسد العرض .
نص / البرمجة التلفزيونية التي ستقوم بقطع أنفاس العرض إما بالوصلات الاشهارية أو المقتطفات الاخبارية أو بتبضيعه وتقطيعه الى سلسلة من الحلقات المنفصلة . أو ببرمجة العرض باستغلال ظرفية اجتماعية أو سياسية خاصة لبثه . بحيث يتم تلقيه من زاوية مؤدلجة .

وهكذا يصير العرض في النهاية جسدا مغتصبا منتهكا مغتربا عن ذاته . عرضا اعتقلت الشاشة /اللآلة جوهره , وروحه,وحيويته,وثوريته,وجدليته,وكاترسيسيته, واحتفاليته,وتدفقيته ,وإفريسيته وانخطافه وجوانيته وإباحيته وميتافيزيقيته,وفورانه, وفوريته, وشطحاته, ولحظيته ,وآنيته, واشتعاله و احتراقه في المحرقة الكبرى / اللعبة الكبرى.. لعبة الحياة والموت .

هوامش

كيرايلام –سيمياء المسرح والدراما ص
نفس المرجع ص 73
المسرح بين الفكرة والتجريب د كمال عيد ص 408


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock