المؤرخ والناقد الفنى سمير حنفى محمود يكتب عن.. “عقيلة راتب” سندريلا السينما المصرية.. الحلقة الأولى

سمير حنفى محمود

 المؤرخ والناقد الفنى

     لا أنكر أنى كنت واحد من هؤلاء .. اللذين لا يذكرون عقيلة راتب إلا فى مشاهد الأم، أو الجدة، أو السيدة الحكيمة التى تطلق أمثالها الشعبية، عقب كل حلقة من حلقات برنامج عادات وتقاليد.  

نعم، هناك أجيال عديدة، وللأسف بعضهم من المتخصصين، لا يعرفون من هى عقيلة راتب، بل أن معظم الأجيال القديمة، قد لا تتذكر سوى بعض الأدوار الأخيرة التى قامت بها، بعد أن قضى الزمن على كل آثار الجمال والشباب لديها، قليلون فقط هم من يعرفون الفنانة الشابة عقيلة راتب سندريلة المسرح والسينما، أبان ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.

كانت عقيلة راتب واحدة من أهم نجوم السينما المصرية فى تلك الفترة، كانت هى النجمة الأولى لأعمال على الكسار، أحترفت المسرح وجالت فيه، غناءً ورقصاً وتمثيلاً، والممثلة الأولى لمعظم الأفلام التى قام بأنتاجها أستوديو مصر, حيث قام المسئولين عن الأستديو بتوقيع عقد أحتكار معها فى بداية الثلاثينات، لكن، وللأسف، أحترق الأستديو  وأحترق معه تراث كبير للسينما المصرية ومعه معظم أفلام هذه الفنانة الرائدة.

كانت ممشوقة القوام صلبة الإرادة قوية العزيمة، حتى فى مراحلها السنية الأخيرة، شقت طريقها كإحدى نجمات الصف الأولى، فى وقت كان محرماً على المرآة المصرية التطلع إلى خشبة المسرح أو الوقوف أمام عدسات التصوير السينمائى .. ما زلت أذكر صلابتها وقوتها فى دور (حفيظة هانم)، رغم تقدم سنها وقتذاك، فى المسلسل التلفزيونى عادات وتقاليد، وهى تردد فى نهاية كل حلقة جملتها الشهيرة ( توبه، والنبى توبة)  .. مازلت أذكر أمثالها الشعبية التى كانت تتحدث بها فى كل حلقة من حلقات هذا المسلسل الأشهر بين جموع مسلسلات الدراما التليفزيونية و الذى بلغ عدد حلقاته 338 حلقة.

مرحلة الطفولة

——–

هى كامله محمد كامل الشهيرة بعقيلة راتب التى ولدت بحى الجملية بالقاهرة، فى 22 مارس من عام  1916.. حسب ماورد فى معظم المراجع (وإن كنت أشك فى هذا التاريخ، لأنه لا يتوافق مع مجريات الأحداث، ويرجح من وجهة نظرى طبقاً لتسلسل الأحداث، أن يكون عام 1906)

نشأت كامله فى أسرة شرقية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى فوالدها محمد كامل شاكر، وكان يعمل رئيساً لقسم الترجمة بوزارة الخارجية، وكان يحلم بالولد الذى يخلفه ويدفعه ليكون سفيراً أو وزيراً، لكنه صدم فى وفاة أبنه الوحيد راتب الذى توفاه الله فى سن صغير، وكان الأب قد رزق به بعد ثلاث بنات، فيتزوج من سيده تركية أنجبت له طفلة جميلة، فيثور الأب، فحلم الولد لم يتحقق له رغم زواجه الثانى.

خرج الأب ثائراً يجوب الشوارع، قادته الأقدار إلى مقهى عتيق، بحى الحسين، تهاوى على مقعده مفكراً فى حلمه الذى طُمس، ليتراءى له شخصاً من حاملى البخور، يربت على كتفه، قائلاً له، مبروك عليك كامله يا كامل، فتنفرج أساريره، ويقرر أن يسمى مولودته الجديده كامله.

بدأ الحلم الجديد يتشكل داخل وجدان الرجل، فلا مانع من أن تتحقق الأمنية القديمة، وإن تحولت فى مضمونها، فلا مانع من أن تكون كامله سفيرة، وربما أول وزيره مصرية.

عندما بلغت السادسة من عمرها ألحقها والدها بمدرسة التوفيق بشارع الخرنفش بالفجاله، أو بمعنى أدق هى منطقة مابين الفجالة، وحى الظاهر، تفوقت كامله فى دراستها، وأندمجت فى الحياة المدرسية، التى كانت تهتم بالفن والفنون، فانتظمت فى فرقة الغناء والأناشيد بمدرستها، وبداءت أحلامها تأخذ مسلكاً آخر، بعيداً عن أحلام الأب.

الحلم يتراءئ للرجل كأنه حقيقة، ولكن الأقدار لم تتلاقى مع الحلم، لم تتوحد، فقد كان حلم كامله بعيداً كل البعد عن أحلام والدها، فأختلف الحلمان، وأختلفت الأقدار، فقد كانت الطفلة الصغيرة كاملة تتمتع بصوت شجى، فبذغ نجمها، ويعلم الأب، الذى رأى أن نهج أبنته لا يتماشى مع التقاليد الشرقية، أو فلنقل مع أحلامه وأمانيه القديمة، وببراءة الطفلة الصغيرة، تعد كاملة مفاجآة صغيرة لوالدها، بأن دعته لأحدى الحفلات الموسيقية التى تقيمها المدرسة، ويفاجأ الأب بأبنته تعتلى خشبة المسرح لتغنى، وكان نصيبها من هذه المفاجاءه، علقة ساخنة، فقد بدى له أن حلمه الذى أودعه تجاه أبنته قد بدأ ينهار، فيجبرها على ترك فريق التمثيل، ولكن كما ذكرت، لقد أفترقت الأحلام، فأختلفت الأقدار، وتحطمت أحلام الأب فوق صخور الموهبة، مما دفع كاملة للأستمرار بالفرقة، بعيداً علن عيون وجبروت الأب.

عقيلة راتب وفرقة زكى عكاشة:

وتأتى اللحظة الفارقة، عندما شاهدها زكى عكاشة، أحد مؤسسى فرقة عكاشة، فتحمس لموهبتها، ووجد فيها ضالته الفنية، أعجب زكى عكاشة بصوتها وبأدائها وعرض عليها أن تنضم لفرقة أولاد عكاشة، وتأتى المفارقة الكوميدية فى قصتنا، عندما ذهب زكى عكاشة للأب، يهنئه على موهبة أبنته، ويعرض عليه أن تعمل معه فى فرقته التمثيلية، بالتمثيل والغناء، فما كان من الأب إلا أن ثار وماج وهدد أبنته بالعقاب الشديد إن لم تترك فريق التمثيل والغناء يالمدرسة، ورغم صغر سنها تأبى إلا أن تواصل، فكان هذا الأمر هو البداية  لتوتر العلاقات بينها وبين أبيها، وأنتهى الأمر بعلقه ساخنه أخرى من الأب، قررت بعدها الفرار لمنزل عمتها لتقيم معها.

ولإيمان عمتها بموهبة كامله قررت أن تساعددها _ دون علم الأب _ على أن تخطو خطواتها الفنية الأولى، للأحتراف فى فرقة أولاد عكاشه، وكانت المشكلة الأولى التى واجهت كامله هو الأسم الذى تتستر خلفه خوفاً من بطش والدها، فأستعانت بأسم صديقتها المقربة عقيلة، والتى كانت قد هاجرت مع أرتها إلى أمريكا، مقروناً بأسم أخيها راتب، فتحول أسم كامله محمد كامل إلى عقيلة راتب. وألتحقت بفرقة أولاد عكاشة متستره بالأسم المستعار بعيداً عن بطش وعقاب والدها.

وبدأت مسيرتها مع فرقة عكاشة وهى فى الرابعة عشر من عمرها، عام 1930، من خلال تقديمها لريبرتوار أوبريت هدى، الذى كانت فرقة أولاد عكاشة قد قدمته فى أول يناير من عام 1921 عند أفتتاح مسرح حديقة الأزبكية بعد تجديده، وهو من تأليف عمر عارف وتلحين سيد درويش وإخراج عبد العزيز خليل، ونجحت فيه بشكل ملفت للنظر، أول، ولكن نجاحها كان منقوصاً فقد كانت تؤدى الدور كل ليلة وعينها على صالة العرض خشية أن ينهض والدها من بين المتفرجين ليلقنها علقة ساخنة.

أصابة والدها بالشلل:

وأمام نجاح عقيلة راتب، وسطوع نجمها، خشيت أن يعرف والدها الأمر، فكان قرارها هو مصارحته بحقيقة عملها مع فرقة عكاشة، الذى سقط مغشياً عليه و أُصيب بالشلل عندما سمع الخبر، والغريب أن العلاقة بين عقيلة راتب ووالدها ظلت على هذا الجفاء ولم يتصالحا إلا قبيل وفاته بعامين رغم محاولتها المريرة للتصالح معه.

ولفت نجاحها نظر أسماعيل باشا صدقى الذى حضره مع كل أفراد وزارته .. كما ذهبت منيرة المهدية لمشاهدتها وصعدت إلى خشبة المسرح لتهنئها على أدائها، وكانت هذه الأمور تدعمها نفسياً وفنياً.

مرحلة النضج الفنى

————

عقيلة راتب مع فرقة على الكسار: ولم يكن فى تفكير عقيلة راتب وقتذاك أن تترك فرقة أولاد عكاشة، ولكن توالى النكبات نتيجة سؤ الإدارة، وتتدهور فرقة أولاد عكاشة، ويقل أنتاجها، مما دفع عقلة راتب لترك فرقة أولاد عكاشة إلى فرقة على الكسار ويبدأ أشعاعاً جديداً لها مع فرقة على الكسار، وذلك بداية من أوبريت ملك الغابة الذى حقق نجاحاً كبيراً بعد الكساد الذى كان يعانى منه على الكسار بعد أختلافه مع أمين صدقى، وتدريجياً صارت عقيلة راتب هى الممثلة الأولى والمغنية بفرقة على الكسار الذى كان يعتمد على الغناء كعنصر أساسى فى مسرحياته، زواجها من حامد مرسى: وكانت عقيلة راتب بجانب أنها ممثلة، كانت أيضاً مغنية الفرقة الأولى فى أوبريتاته، بالأضافة للفنان حامد مرسى، الذى تعرفت عليه فى هذه الفترة، وكان وقتها من أشهر نجوم الغناء فى مصر، وكان يلقب بلقب كروان مصر الوحيد، وكان حامد مرسى متزوجاً من أحدى سيدات الطبقة الراقية، لكن أستمرار الخلافات بينها أدت إلى الطلاق بينهما، وظل يبادل عقيلة راتب الغناء كل ليلة، على خشبة المسرح، وهو يكن حبه لها، دون مصارحتها، حتى تقدم للزواج منها أحد البشوات المعروفين، فإذا بحامد مرسى يصرخ فى على الكسار ” أزاى يا أستاذ على  .. أنا باحبها ” وتم الزواج بين عقيلة راتب وحامد مرسى، وتم الزواج بينهما بمباركة والدها الذى تمنى وقتها أن تتفرغ أبنته لشئون بيتها، ولكن النجاح الذى كانت قد حققته، ذاد من أصرارها على مواصلة الطريق، وتم زواجها على خشبة المسرح، من خلال مشهد زفاف بطل وبطلة العرض المسرحى، وشارك الجمهور فى زفافهما، بعد نشر خبر زواجهما من خلال العرض المسرحى، وشكلت عقيلة راتب مع حامد مرسى بعد الزواج دويتو غنائى رائع وهام لمده سبع سنوات، ورزقا ببنتهما الوحيدة أميمة، وظلا أوفياء، وعندما تم طلاقهما ظلت صداقتهما قائمة ومتينة.

أسكتت عقيلة راتب بزواجها فى هذا السن الصغير كل الألسنة التى كانت تتربص لأى نظرة أو لمسة لتلوك من الخيال أوهاماً بدعوى الحقيقة.

فأنطلقت وجالت فى كل مجالات الفن .. مونولجست .. مغنية ثم ممثلة قديرة تناطح عظماء عصرها أمثال منيرة المهدية وروزاليوسف، وغيرهم.

صارت عقيلة راتب خلال فترة وجيزة هى الجواد الرابح فى فرقة على الكسار المسرحية وشاركت بشكل كبير فى صنع أمجاد هذا الرائد الكبير الذى ضمها أليه وأعتبرها أبنته الروحية .

أنطلقت عقيلة راتب لتصبح برامادونة الفرقة لمدة سبع سنوات صنعت خلالهم مجداً لفرقة الكسار ولنفسها.

كانت فنانة شاملة تمتلئ بالحركة والحيوية فإلى جوار التمثيل كونت مع شريك عمرها حامد مرسى دويتو أشتهر بين رواد المسرح المصرى حينذاك، وكان زكريا أحمد وعزت الجاهلى يلحنا لهما بعض المقطوعات الغنائية .

يتبع الحلقة الثانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock