حوارات

المخرج المسرحي الراحل “عز الدين قنون”: لا أخاف على حرية التعبير من التيار الإسلامي


 عبد المجيد دقنيش

ـ

في توليفة فنية مسرحية جديدة تحمل عنوان “غيلان” يحاول المخرج المسرحي عزالدين قنون، صحبة الفنانة ليلى طوبال كاتبة النص، أن يغوص بنا في الواقع الثوري الصعب المراس والفهم ومشكلاته الآنية التي تطفو الى السطح كل يوم ولكن القراءة الفنية السينوغرافية واللعبة الركحية المسرحية والمسؤولية الابداعية التاريخية تقتضي أكثر من وقفة تأمل.

لذلك ولئن اعترف عزالدين قنون صراحة قبل العرض الأول لهذا العمل بصعوبة وضخامة المسؤولية الفنية في انتاج عمل مسرحي إبداعي بعد سنة ونصف السنة من الثورة، فإنه أكد في المقابل أنه لا مندوحة من إيقاف الزمن بكل صرامة والسيطرة على سيرورة الأحداث اليومية المفاجئة والمتسارعة. إنها مسؤولية كل فنان جاد يخشى أن تتجاوزه الأحداث وتتركه الركبان وسط صحراء تيهه، مثلما تجاوزت الثورة وفاجأت النخب المثقفة والسياسية.

هذه هي مسرحية “غيلان” العمل الجديد لعزالدين قنون وظروف ولادته العسيرة. إنها ولادة صعبة ومتحدية في آن. فهل كان المولود “مسخا” كالترجمة الفرنسية لعنوان المسرحية وحاملا لملابسات الواقع المتحول المدنس،أم جاء ابنا جميلا وشرعيا لحلم الفنان بكون سرمدي كامل الأوصاف ومدينة فاضلة يسودها الخير ويحكمها العدل؟

في الحقيقة تصعب الاجابة الشافية والحكم النهائي على عمل مسرحي ينضوي تحت مشروع فني جاد وينفر من كل تقريرية واثقة ومباشرة. ولكن حسب هذا العمل أنه يستفزنا منذ أول لوحة ويفجر فينا بركانا من الأسئلة الغامضة والمحرجة ويحاول أن يصالحنا مع ضمائرنا من خلال لعبة ذكية لاستحضار الماضي المخيف وجلسات الاعتراف لخمس شخصيات مسرحية تتحرك وسط الفراغ والتيه، إلا من بضعة كراسي متحركة مثلت كل الديكور في هذا العمل الفني.

الكراسي التي تستحيل في كثير من اللوحات هي نفسها شخصيات غير ناطقة على الخشبة، تحمل رمزية مزدوجة وأكثر من بعد خاصة لما تتوحد مع منطوق أبطال المسرحية فنرى رجل الأعمال قيتانو يخاطب كرسيه بل هو يتوسل إليه لأن يبقى معه وألا يفارقه في لوحة فنية رمزية معبرة غير أنها لم تتواصل كثيرا مع بقية الشخصيات لتعمق البعد الفني للمسرحية وهذه احدى هنات العمل حسب رأيي.

فلو أنطق المخرج هذه الكراسي من وراء الستار وتعامل معها كشخصيات حقيقية مستعملا بقية المتممات الفنية من إضاءة وموسيقى لبلغ العمل المسرحي مداه الفني العميق ولرأينا وسمعنا العجب من هذه الكراسي التي طالما جلس عليها أناس ومسؤولون كبار أثروا في الصيرورة التاريخية للمجتمع.

مسرحية “غيلان” هي شخصيات نعرفها ولا نعرفها، وعاشرناها وعاشرتنا، وعشنا معها وتعايشت معنا، وأثرت فينا وتأثرت بنا، شخصيات مثل “زكية” و”قيتانو” و”اللبة”، فيها رجل الأعمال الفاسد والمسؤول الظالم والمرشدة التي تحمل أخبار الناس وتكتب التقارير ورئيس التحرير وصاحب الصحيفة المتزلف والمزيف للحقائق في سبيل مصلحته ومصلحة أسياده والمواطن العادي المتنصل من دوره. شخصيات مؤثرة في المجتمع بل هي نسخة مجتمعية مصغرة فيها كل متناقضات الواقع وزيفه.

شخصيات حربائية متلونة ومتزلفة ومنافقة تصفق لمن يحكم وهي في نفس الوقت أيضا بيادق تحركها أياد خفية نسمع عنها ولا نراها … ولكنها في نفس الوقت شخصيات منا وفينا تفرح وتحزن وتضحك وتبكي وتظلم وتقتل وتطلب المغفرة أيضا … إنها اختصار فني جميل لكل تناقضات الكائن البشري المتغول الذي يريد أن “يأكل الدنيا ويتصحر بالآخرة” كما يقول المثل التونسي لذلك نراها في آخر المسرحية تبحث عن صك التوبة مثل أبطال رسالة الغفران علها تظفر ببعض الرأفة والتعاطف من قبل المتفرج والمجتمع والله.

مسرحية “غيلان” هي وجهنا المرسوم في قاع البئر الذي كلما اقتربنا منه فاجأنا بتحوله الى وجه غول لا نعرفه يخيفنا ويتوحد مع الواقع المدنس والمتناقض والماسخ ليحتل لنفسه مكانا بين “الذئاب البشرية” وموقعا في أرض “الأغوال والاهوال”. إذن المسرحية باختصار هي أسطورتنا الشخصية وعرينا الذي نكتشفه بجلسات الاعتراف المخيفة التي يتداول عليها أبطال المسرحية.

هذه قراءة أولية متواضعة وبسيطة لعمل يقتضي أكثر من مشاهدة وأكثر من زاوية نظر، وهذه وقفة أخرى ووجهة نظر المخرج عزالدين قنون من خلال هذا الحوار .

*هل نستطيع أن نقول إن أرض الثورة التي انبجس منها الحلم وتتطلع إلى الديمقراطية قد تحولت في مسرحية “غيلان” إلى أرض “أغوال وأهوال” ؟

-هذا هو خوفنا الكبير..خوفنا من أن تتحول هذه الثورة وهذا الانتقال الديمقراطي الى أرض أغوال وأهوال، لذلك نحن ندق ناقوس الخطر في هذه المسرحية حتى نقول إننا في كثير من الأحيان نسير في طريق خاطىء ومسدود وسيحملنا نحو الصراعات الداخلية.لذلك بعد سنة ونصف السنة من الثورة وقفنا وقفة تأمل ورأينا أن الوضع معقد وليس سهلا ويجب أن نأخذ حذرنا من مرحلة الانتقال الديمقراطي وخاصة تواتر العنف في الفترة الأخيرة الذي راح ضحيته حقوقيون ومثقفون وفنانون وسياسيون وهذا بالنسبة الينا ناقوس خطر ولكننا نروي كل هذا ونصوغه صياغة فنية ممتعة تبتعد عن التقريرية المباشرة وفق خيالنا وأفكارنا.

*هي صرخة المثقف إذن في هذا الواقع الذي يحكمه العنف اللفظي والجسدي؟

– هي فعلا صرخة المثقف حتى نقول كفى عنفا وتعصبا ولننظر الى هذا الوطن بأكثر حرية وأكثر ديمقراطية ونحترم بعضنا البعض واختلافاتنا مهما كان نوعها ونحترم الآخر مهما كان غريبا عنا.

* لاحظنا أن الديكور الوحيد في هذه المسرحية تمثل في مجموعة من الكراسي التي تحمل رمزية الإنسان المصلحي اللاهث وراء كرسي السلطة مهما كان نوع هذه السلطة، فهل هو الواقع الثوري المتحول الذي فرقته التجاذبات الحزبية ودنسته الغايات الآنية الضيقة؟

– هذه قراءة من جملة قراءات يمكن أن تقرأ من بين السطور. نحن لم نفكر في أن نقوم بمسرحية عن الكراسي ولكننا لدينا خمس شخصيات موجودة فوق الكراسي وحاولت التشبث بكراسيها والمهم في استعمال هذه الكراسي هو الاستعمال السينوغرافي الركحي الفني، وإذا وصلت مجمل هذه القراءات فهذا شيء جيد.

*هناك إدانة واضحة في هذه المسرحية من خلال الحوار ومنطوق الشخصيات، لكافة فئات المجتمع من إعلاميين وقضاة ورجال الأعمال وفنانين ومواطنين وسياسيين، وكأننا أمام محاكمة فنية لها شروطها ورؤيتها الخاصة؟

– في الحقيقة المسرحية تدين كل انسان لم يفهم الحرية والديمقراطية مهما كان توجهه. ففي المثقفين هناك من لم يفهم الحرية، وفي السياسيين هناك أيضا من لم يفهم الحرية وكذلك الشأن بالنسبة إلى المواطنين العاديين. في النهاية كل من ليس له القدرة على تقبل الآخر ومحاولة فهمه والعيش معه فهو مدان.

* بصراحة أستاذ عز الدين هل أنت خائف على حرية الفكر والفن والتعبير اليوم بعد صعود التيار الاسلامي إلى سدة الحكم في بلدان الربيع العربي؟

-أنا لا أخاف على حرية التفكير والتعبير بوصول أناس ينتمون الى التيار الاسلامي الى السلطة في هذه البلدان، خوفي كله من البرامج سواء كانت اسلامية أو غير اسلامية وما يمكن أن تحمله هذه البرامج وامكانية العودة بنا الى عصور مظلمة حسبنا أنفسنا خرجنا منها.اذن المشكلة ليست مشكلة ايتكات وملصقات هذا اسلامي وهذا غير اسلامي. يمكن أن يأتي الى الحكم تيار آخر غير اسلامي ولكنه يحمل في برامجه تطرفا ما قد يحملنا الى الهاوية، ولذلك فأنا أخاف مثل هذه المشاريع ولا أخاف تيارا بعينه.

*المسرح اليوم والأدب والسينما والابداع والثقافة عموما هل يمكن اعتبارها القلعة الأخيرة التي يمكن أن نتحصن بها من هذا العنف والتعصب والفوضى والتكفير المسيطر اليوم، واعتبارها ملاذنا الأخير الذي يمكن أن يصمد في مثل هذه التيارات المتطرفة؟

-هذا أكيد الثقافة هي ملاذنا وحصننا الأخير،لأننا بحاجة الى ثقافة سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية، نحن بحاجة الى جبهة كاملة ودرع يحمينا من كل مد وتيار متطرف مهما كان نوعه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العرب أونلاين


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock