المسرحي السعودي ياسر مدخلي يكتب: آلة الدَّهشة!
المسرح نيوز ـ القاهرة | مقالات ودراسات
ـ
ياسر مدخلي
برغم تنوع الرؤى وتباينها حول مفهوم الدهشة إلا أننا نجد المسرح بوتقة قادرة على استيعاب هذه المفاهيم. لقد تأثّرت هذه الآلة المدهشة بتطور البشر و كان لزاما على محترفيها أن يواكبوا الذوق و ينتصروا له بما تنتجه المسرحيات نصوصا وعروضًا ولكنها صدأت في حقب زمنية كان الهامش نصيب المسرح الذي قبع في الظلّ لعقود، وأيضا تلك الفترات التي اختطف فيه المسرح ليقدَّم لصانعيه فقط في مهرجانات يستعرض فيها المسرحيون أمام بعضهم.
المدهش أن هذه الآلة عندما عادت للضوء ونفضت غبار التجريب وخرجت من القاعات المزخرفة إلى العامة وسمع نغمة تشغيلها الناس .. اقبلوا عليها مشدوهين أمامها، وحتى إذا كنا نتخوف من هذا التطرّف المسرحي الجديد الذي يأخذه من الجمود.. الغارق في الرمزية .. إلى منصات الإضحاك والترفيه! إلا أنني أرى فائدته في هذه المنطقة الجديدة تستحق أن تُعطى وقتًا كافيًا لنفهم معنى خوفنا على آلة الدهشة.
إن صناعة المسرح تبدأ بفكرة مدهشة .. تنمو معها قصة وشخصيات وصراع وحوار.. وتلي كتابة المؤلف كتابة مخرج يبث الروح في النص لنراه مجسدا على المسرح.. والممثل يقوم بكتابة جديدة حبرها إحساسه وتجليه، وكذلك الجمهور.
إن الدهشة السمعية، اللفظية .. هي نمط المدهش في العصور السابقة التي تحتفي بالكلمة والموسيقى وتحترم النطق والإلقاء .. والدهشة الجديدة في هذه الآلة والتي تنتمي إلى عصرنا هذا هي الدهشة البصرية.. هذه التقنية التي تغزو بيوتنا ومقار الأعمال والشوارع وتدهشنا بالجديد هي ذاتها التي أعادت ترتيب مفاهيم الدهشة.فهذه التقنية التي تؤثث الإطار البصري/السمعي للمسرحية تنتمي إلى جسد السينوغرافيا.
التي كونت ثقلا مهما في تدعيم الخطاب المسرحي اللفظي وبذلك تكون شريكا رئيسا في تكوين الخطاب المسرحي.
إن الدهشة هدف رئيس ووظيفة بالغة الأهمية في تمكين الخطاب من إكمال العملية الاتصالية مع المتلقي، فأضحت السينوغرافيا (الدهشة الجديدة) -إن صح التعبير- وسيلة للخطاب وغاية للعرض.
وفي ظل الظروف المتجددة التي تنتج الدراما على مستوى الابتكارات والتقنيات المختلفة نجد أننا نتساءل كما هو حال مارتن أسلن ونقول .. كيف يمارس المشهد براعته؟
والتجديد الذي طال الكلمة والمكان والممثل .. والتجريب الذي يبحث عن أمر ما ؟! كلها عوامل تحتاج إلى إعادة ترتيب .. ولكن قد نتفق مع فكرة بأن المتغير الوحيد الذي يجعلنا نركض خلفه لنواكب متلقي هذا العصر هو .. السينوغرافيا.. هذا المصطلح القديم الجديد الذي ولد من فن الزخرفة على حد تعبير مارسيل فريد عن المسرحيين القدماء.
لكننا قد ننشغل في جدلية تفسير هذا المصطلح أكثر من الاشتغال عليه فنيًا .. وربما يرى سامي عبدالحميد أن بعض المخرجين يتعدَّى على السينوغرافيا أو أن سينوغرافي ما يتدخل في المنطقة المخصصة للمخرج .. ويؤكد بنفسه بأنه “لا يحسم هذا الأمر سوى التجربة الشخصية”.
المدهش في السينوغرافيا .. أننا قادرون على جعل فضاء العرض منتمٍ لأي مكان وأي زمان نريد.. والدهشة تكمن في تلك المفاتيح الفلسفية التي تطور التصميم السينوغرافي.
وإذا قلت لكم بأن الدهشة المسرحية تكاد تنطفيء إثر كسل المسرحيين المتراخين.. غير منتبهين لدهشة تُنتج اليوم في عروضٍ اليوتيوب، وتطورات السينما بجانب العروض المرئية الأخرى، التي فازت بالمتلقي في عصر الترفيه والمتعة .. فإننا في خطابنا المسرحي لن نجد المُشاهد إلا من خلال فهمنا للقاسم المشترك مع منافسينا الجدد .. القاسم المشترك المتمثل في الدهشة البصرية التي تحققها ثورة تقنيات الألفية.
لذلك سنجد أن المسرح المدهش باللغة كان في عصور تميزت بالأدب، والمسرح المدهش بالأداء نجده في عصور معامل ومختبرات واستديوهات الممثل.. وها نحن نأتي بعدهم في زمن يكون فيه المدهش بالمنظر والصورة .. نعم نحن في عصر تتسابق على الرهان فيه براعة الفرجة.
ونجد في المسرح الخليجي بالذات ، اتجاها مختلفا للعروض المسرحية التي تنشأ بين فقر الإمكانيات و وفرة الخيال..
قد يشبهنا الكثير من المسرح العربي إلا أن الخليجي دائما ما يرصد الحراك العالمي ويشاهد تطوراته وبالذات شباب المسرح الخليجي الذين رصدوا الانتاج العالمي وخرجوا من العباءة الاكاديمية والتقليدية لمواكبة أشكال متقدمة بحثا عن جمهور حقيقي.
إن التأثيث السينوغرافي له مهمات داخل العرض المسرحي فهذا الفن المنتمي لحقيبة الدهشة يدرك الكثير من المشتغلين فيه أن الإبهار ليس كافيًا، ومن الضروري أن يكون للسينوغرافيا حضور كباقي مفردات الخطاب المسرحي.. فالمضامين والرسائل والعلامات التي تطرحها السينوغرافيا ذات أهمية توازي اللغة والجسد.
ومن خلال مشاهدتنا لمهرجان الكويت وأيام الشارقة والجنادرية وآوال.. والدن وغيرها.. سنجد أن قراءتنا للخطاب المسرحي من حيث السينوغرافيا سيجعلنا في حيرة أمام بعض العروض، ولكنه في نفس الوقت مؤشر لقوة هذا العنصر في توجيه المعنى وتفسير الرمز.. ولو سقط البعض في فخ البهرجة الفارغة أو المتناقضة إلا أن السينوغرافيا في الخليج لازالت مهمة جادَّة تؤرق صُنّاع المسرح، ومُنتجي الدهشة لوعيهم بأهمية الصورة وضرورة الشكل كبوابة للوصول إلى المضامين.
تلك المضامين التي نجدها ثرية بتنوعها واختلاف منطلقاتها ومرجعياتها الدينية والقبلية والمناطقية والاقتصادية والتراثية.. وقد استفاد الخطاب المسرحي الخليجي من هذه الموروثات والمرجعيات التي صنعت بصمة مميزة لكل عرض.. وأصبحت مكوّنًا رئيسًا يساعد على فهم رسالة العرض بما لم يُكتب في النص و ما لم يُلق في الحوار .. حينها نرى الجمادات تقول لنا أو في بعض الأحيان تكمل المقولة.
تجارب (مسرح كيف)
وربما لابد من الحديث عن التجربة الشخصية في آلة الدهشة التي مارستُها بشغف في عدة مسرحيات.. وأفتخر بأني قد نجحت في تصميم وتنفيذ المكون السينوغرافي فيها ليتكرر صدى مقولتها برغم مرور سنوات على العرض المسرحي.. ومن هذه الأعمال مسرحية عميان التي أجد وأصدقائي في محترف كيف للفنون المسرحية تعليقات المسرحيين باهتمام بالغ على لقطات تحتفي بسينوغرافيا العرض.. تحمل ما تبقى من الدهشة بعد العرض، سواء ما قدم في مكتبة جدة العامة، أو مركز الفنون الركحية بالكاف تونس، أو العرض الحائز على جائزة السينوغرافيا في جامعة الملك عبدالعزيز.
وكذلك مسرحية جباياهوه التي كانت مشروعا تاريخيا بامتياز احتاج للبحث والتصميم لأكثرمن ثلاثة أشهر وكان تحدِّ مع الإنتاج التجاري وسرَّني بأنه أحد الأعمال السينوغرافية المعروضة في المعرض العالمي للسينوغرافيا في براغ ويمثل إحدى حارات مكة المكرمة في السيتينات.
وأيضا مسرحية مجلس الشقق التي صنعت دهشة من نوع معاصر في مهرجان جدة الذي عكس الحارة الشعبية بتفاصيلها وأزقتها ومشكلاتها اليومية وشخصياتها المتباينة.
ومسرحية تصريح دفن إذ كان العرض في الجنادرية و قدمنا فيه سينوغرافيا جديدة في اشتغالنا المسرحي فحضر الظل وخياله و الفراغ و اللون وامتزجت الصورة بالصوت .. وتوقف الصوت في لحظات لنشاهد الصورة وتوقفت الصورة وسمعنا الصوت فقط .. واشتعل الظل مع الضوء في لقطات احتاجت مني العديد من المحاولات بإمكانيات بسيطة للغاية.
وأيضا ذلك التحدي الكبير الذي واجهني كمخرج وسينوغرافي لمسرحية هيا نكتشف الكنز لفريق افتح ياسمسم عندما عرضتها في الكويت قبل سنوات.. كيف كان القلق يعبث بثقة المتعهد حتى شاهدني في منتصف إحدى الليالي وأنا منهمك في تلوين قطع الديكور وتركيبها.
وغيرها من المسرحيات التي كان للسينوغرافيا كلمتها وصوتها وملامحها المتماهية مع النص وشاركت في نسيج الدهشة بما يجعل كثير من اللحظات العرض منطقة تحليل واستفزاز .. حتى أني أتذكر بأن الديكور في مسرحية جبا ياهوه ومسرحية هيا نكتشف الكنز حصل على تصفيق حار بمجرد أن كشف الضوء عن ملامح الديكور.. وما لاحظناه من رغبة الجمهور في التصوير مع الديكور بعد العرض.. وحتى اليوم أجد من يذكرني ببعض الأعمال.
إن دهشة المسرح تنشأ نتيجة الاشتغال المعملي الذي يركز على مهمة البحث عن المُجدي والمبهر ضمن إطار المضمون لتأطير رؤية عامة للعرض، فالسينوغرافيا البائسة تظهر خاوية لأنها تفتقر إلى وجدان الباحث المُدرك للأبعاء الاجتماعية والثقافية والتاريخية وغيرها.. وتخلو من التفاصيل التي يكتشفها المصمم والمخرج وبقية الفريق من خلال سبر أغوار المكان والزمان والحدث الدرامي وظروفه البيئية الأخرى المؤثرة في الشكل.
وأرى أن برغم كون السينوغرافيا مظهرا بصريا شكليا إلا أنه يُبنى من خلال الوعي بضامين تنمو بقراءة النص وإخراجه .. هذا التنقيب الذي يشبه الدخول إلى النص هو المرحلة الأولى لينجح الخروج به من مأزق الورق إلى سماء التجسيد وكل ما كانت هذه العملية متأنية وجادة كلما أشعلة جذوة الدهشة.
إشكالات السينوغرافيا
ومن أكثر الإشكالات التي تواجه السينوغرافيا تلك العُزلة التي تجعلها أشبه بالجالري الذي يستعرض فيه الفنان التشكيلي فنّه بمنأى عن العناصر الأخرى، ويرجع ذلك إلى عدم انسجام المخرج مع السينوغراف.. أو شعور السينوغراف بالنّديّة وتمرده وتطرّفه لصالح خاماته التي أبدعها في ديكور ومؤثرات خلابة.. ما جعل الكثير من المخرجين مصممين .. تاركين للسينوغراف فقط فرصة التعديل والاقتراح.. أو كما نسميه بلغة المهنيين.. “شغل اليد”.
أيضا.. حاجتنا إلى وعي الممثل بالسينوغرافيا وتكنيكات التعامل مع هذه القطع التي تقاسمه الخشبة ويرتكز عليها في اكتمال صورة أداءه.. فالسينوغرافيا التي تمتلك حمولات فلسفية قد تصبح مشوّهة بفعل ممثل ضعيف لم يتقن الاستفادة منها.. أو على الأقل لم يتماهى معها بالعمق الكافي للارتقاء والتجلي .. ولو تفوّق أحدهما على الآخر يجعل العرض أعرج، فضلا عن وجود فجوة بين عناصر المنظر المسرحي.
ودهشة السينوغرافيا ليست في كون السينوغراف (المصمم/ المنفذ) مهندس ديكور أكاديمي أو فنان تشكيلي عالمي .. أو حِرَفي – صنايعي- بل تحتاج السينوغرافيا اليوم إلى مفكر حرّ يحلِّق في سماوات المعنى .. على بساط التقنيات الجديدة .. تلك التقنيات التي تتعلق بالحياة قبل المسرح.. ويكون جريئا ليبتكر مادة أو جهازا أو حتى يقوم باستخدام قطعة من السوق لحالة مسرحية يوفق بين الأفكار ويجندها ليخدم مخيلته.. أذكر بأننا حولنا علبة زيت السيارات لكشافات ملونة .. في مسرحية ظلا.. وعندما شاهدها عبدالله سويد قال .. (عملتم شيء من اللاشيء..) وكثيرة هي المواقف التي كنا نخجل من كشفها للآخرين ولكنها في حقيقة الأمر ابتكار يدعم المخيلة.
ولأن عملنا في مسرح كيف .. قائم على البحث المنهجي كانت نتيجة الاشتغال على مشاريع مسرحية بحثية أن توصلت إلى صياغة آلية للتجربة المسرحية التي انتهجها وطبقتها في محترف كيف للفنون المسرحية.. فجاء تكثيف النص محور البحث في عزف اليمام، وكان تمثيل الجمهور رهن التجربة في البرمائي، ونصيب الممثل بتجربة الطاقة في تصريح دفن، و الحبكة في مجانين، والسينوغرافيا في عميان وظلا وجبا ياهوه ومجلس الشقق …إلخ
وأخيرا .. اسمحوا لي بمشاركة بعضا من ملامح هذه التجارب .. التي قدمتُها بأقصى ما أملك من جِدَّة و منهجية.
- السينوغرافيا بوابة عبور المتلقي إلى العرض، في ظل هذه الثورة البصرية التي تناكف المسرح وتزاحمه وتستحوذ على الجمهور بل وأتاحت له أن يكون جزءا من صناعة التمثيل و إنتاج العروض المرئية الأخرى.
- كلما انطلقت تصاميم السينوغرافيا من فلسفة النص كلما كانت مبهرة واستفادت من الموروث والطبيعة واكتنزت الطاقة التي تنتج الدهشة.
- السينوغراف ليس فنان ارتجالي بل هو مؤلف.. وحكَّاء بلغة الأشياء.
- على السينوغرافيا أن تقول مع النص .. ولا تُكرر ما يقال.
- الخيال المدهش ليس ما نراه في السينوغرافيا.. بل مانراه من خلالها.
- المخرج الواعي لمبدأ التكامل بين عناصر العرض المسرحي.. سيكون جرئيا في إلغاء بعض الجمال على حساب التكثيف والجزالة.
- العمق الحضاري الذي يشكّل خصوصيّة للمجتمعات والأقاليم، رافد عظيم لعموم المسرح .. وللسينوغرافيا على وجه الخصوص.
- التفاصيل الأكثر دهشة، تلك التي لا نتوقع انتباه الآخرين إليها.
- الاشتغال على السينوغرافيا يسبق البروفات بأسابيع وربما أشهر .. السينوغرافيا تستحق ذلك.
- السينوغرافيا المدهشة تقتدي بالخيال .. لا تستهن بقدرتك على تنفيذ خيالك .. فقط امتلك الوقت و الجديَة.
وشكرا لكم …