المغربي هشام بن الشاوي يكتب: بيتر بروك ومسرح الأضداد
هشام بن الشاوي
المغرب
ـ
لم يكن نتاج بيتر بروك أحداثاً مسرحية فحسب، بل كانت أحداثاً في الحياة، وعوض الحديث عن تأثير المسرح في الحياة، كان المسرح عند بيتر بروك وسيلة في الحياة كما نفكر عبر المسرح في الحياة، هذه العلاقة المباشرة بين المسرح والحياة هي إحدى الدعائم الأساسية للممارسة المسرحية عند بيتر بروك.
”
كانت حرب فيتنام مناسبة بالنسبة إليه للقاء بين مسرح الوقائع الحية وممثلين أحياء عبر مسرحية “إس”، إذ جعل المسرح حدثاً يتحدث عن الحاضر في لحظة الحاضر
“
وفي قراءتنا لتجربة بيتر بروك قبل المرحلة الباريسية، نلاحظ أنه اعتبر الإخراج كحرفة لا يمكن أن يأتي إلا تدريجياً بالاحتكاك بالممثلين، وأن المخرج الذي يأتي إلى التدريب الأول وقد سجل كل التحركات يعد مسرحياً متحجراً.
وفي خضم عمله بمسرحيات شكسبير تساءل بيتر بروك عن علاقة مسرحيات شكسبير بقاعة المسرح الإليزبيتي، فاهتدى إلى أن هذا المسرح كان يعمل وفق قاعدة تقريب الممثلين من الجمهور تقريباً يجعل الخشبة تلتصق بالجمهور، هذه القاعدة هي أساس المسرح الشكسبيري، وبذلك كان من الأوائل الذين طرحوا إحدى أهم الإشكاليات التي يعرفها المسرح المعاصر حول كيف ينبغي أن تكون قاعة المسرح وعلى أي أساس ينبغي بناؤها وتصميم هندستها.
وعلى عكس الكثير من الجماعات المسرحية التي شغفت بالبحث والتجريب، واختارت الهروب من المؤسسة والاتجاه للمختبر، زاوج بيتر بروك بين الاتجاهين (المؤسسة الرسمية والمختبر)، فنحن، يقول بيتر بروك، لا نستطيع الهروب من المؤسسة ولا الدعوة إلى تفتيتها، ما يمكن القيام به هو تنظيم حركة المقاومة الداخلية والعصيان المنظم من الداخل، وبعد سنوات من العمل في إطار المؤسسة، سيغادرها ليخلق كيانا مستقلا بباريس، معترفا أن المؤسسة كالأوبرا تقاوم، ولمحاربتها فعلا يجب مغادرتها.
وعند تقديمه لمسرحية بيتر فايس “مارا ساد”، والتي تعد كنوع من التأمل حول الحمق والتاريخ، اعتقد المتتبعون، نظرا لأن المسرحية أتت في مرحلة معينة من أبحاثه المختبرية، أن إخراجه كان عبارة عن خلاصة لتقنيات برتولد بريشت وأطروحات أنطوين أرطو، فرد بيتر بروك رافضا نعت عمله بالخلاصة؛ لأن الأضداد ظلت في هذا العمل في وضعية المجابهة وليس هناك خلاصة أو وفاق بل ثمة عملية لتعايش الأضداد.
في سنة 1966 استطاع بيتر بروك أن يصل إلى تحديد اتجاه لبحثه وصياغة سؤال لهواجسه: “كيف يمكن لشيء جوهري أن ينقل بواسطة محرك حي؟ نعود دائما إلى نفس المعضلة”، حيث كانت حرب فيتنام مناسبة بالنسبة إليه للقاء بين مسرح الوقائع الحية وممثلين أحياء عبر مسرحية “إس”، إذ جعل المسرح حدثاً يتحدث عن الحاضر في لحظة الحاضر.
وبعد هذه التجربة قلّ إنتاج بيتر بروك، وأصبح أعمق مع تحديد اتجاه عام لهذا التوجه بإعلانه أننا نعيش زمنا فيه كل شيء يتطور ولا يمكن للبحث فيه إلا أن يكون بحثا في الشكل؛ تحطيم الأشكال القديمة بتجريب أخرى جديدة، إيجاد كلمات جديدة، علاقات جديدة، أماكن جديدة، وبنيات جديدة، فالمسرح لا يمكن أن يتقدم في عالم يتحرك، يتعرج أو يتقهقر، إلا بشكل منحرف، ما يمكن معرفته هو أن المسرح في حاجة إلى ثورة مستمرة.
وعند استقراره بباريس في 1968، أعلن بيتر بروك عن تيمته الكبرى: “يرتبط ما هو أخلاقي بما هو جمالي في عمل الممثل”، وكوّن بباريس المركز الدولي للأبحاث المسرحية مع ميشلين روزان، حيث رفض الهواة في مركزه، لأنه لا يعتقد في إمكانية القيام بأي شيء بأياد فارغة، وفتح المجال لمحترفين لهم تكوين قريب منه أو اشتغلوا في اتجاهات موافقة لما يطمح إليه.
وبغية معارضة التقسيمات التي يعرفها العالم ويعيشها المسرح، ولو معارضة رمزية، حث على أن يكون المركز دوليا ينتمي أعضاؤه لجنسيات وأصول عرقية مختلفة، محاولا من خلال هذا المزج العرقي أن يظهر كيف يمكن للتفاهم أن يحصل بين أناس يبدون مختلفين، وكيف يمكن أن يتم هذا التفاهم بدون “خلاصات” وبدون “اتفاقات مغلوطة”، وهكذا ستدخل الصبغة العالمية شيئا فشيئا لتكون فيما بعد مادة عروضه وهيكل مسرحه.
ثم انطلق بيتر بروك وجماعته عبر رحلة المعرفة والتعرف نحو المجهول، رحلة ستقوده إلى إيران ثم أفريقيا فأميركا. ولم يأخذ معه أية معدات مسرحية لهذه الرحلة باستثناء صندوق يحتوي على آلات موسيقية وآخر فيه ملابس بيضاء، وأربعة وعشرين قصبا وبساطا وعلبا من الورق المقوى من أشكال مختلفة.
ومنذ تجربة المسرح الخام، ظلت الساحة العمومية لا تفارق أعمال بيتر بروك المسرحية، ومنطلقا منها يعلن بأنه يمكن اتخاذ أي فضاء فارغ ونسميه خشبة، وأن يعبر أحد هذا الفضاء تحت أنظار شخص آخر كاف ليكون هناك حدث مسرحي.
وفي بحثه عن مزج الأضداد سافر بيتر بروك وجماعته، بعد أفريقيا، إلى الولايات المتحدة مغيرا مرة أخرى اتجاه بحثه ليعمل بتنسيق مع جماعات أخرى تبحث انطلاقا من محددات متقاربة بعض الشيء. وبهذه التجربة تنتهي مرحلة التكوين بالرحلة وعبر الرحلة ليعود إلى باريس، ويقرر إنهاء حالة انغلاق المركز على نفسه وعلى البحث والتجريب لينفتح على الجمهور الواسع، فيختار شكسبير مرة أخرى.
وقد ابتكر بيتر بروك طريقة لتقديم مسرحية “مهابهاراتا”، والتي تبلغ مدتها تسع ساعات، والمأخوذة عن نص ملحمي غير مسرحي في الأصل يتمحور حول أسطورة هندية، سبق أن قدمها في مهرجان أفنيون خلال ليلة واحدة في صيف 1985، وفي باريس قدمت في ثلاثة أجزاء خلال ثلاث أمسيات؛ يؤدي المتفرجون عن الأجزاء الثلاثة مسبقا، ثم يحضرون لمدة ثلاث ليال متتابعة لمتابعة العمل المسرحي، ومن خلال هذه التجربة تمكن بيتر بروك من تحقيق حلم عجز عن تحقيقه العديد من المخرجين، ألا وهو المزج بين المسرح والحياة؛ حيث يصبح المسرح جزءا من الحياة اليومية، وتغدو الحياة اليومية جزءا من المسرح.
ـ
العربي الجديد