الناقدة أمل ممدوح تكتب: الاستنساخ انتقاما في ديستوبيا ” التجربة “

المسرح نيوز ـ القاهرة |أمل ممدوح*

ناقدة مصرية

ـ

الناقدة أمل ممدوح

البعض تغرسه الحياة بحدقتين باردتين في بقعة خاصة في مرمى ريحٍ لم تُعرف قبله لتحمل ذاته استثناءً بفرادة ألمها واختلافها وتجربتها وذاكرة العالم فيها، حين رأت غير ما نقشه الضوء في كل العيون..وربما رأت الظلام، لكنها قد تضطر لأسر اختلافها وتخبئة ألمها لتتعايش بسلام فتدجَن بالألفة الباهتة والسجن في نظام نمطي مفروض يصبح الإنسان فيه نموذجا مقبولا اجتماعيا “يصبح مثلما كان إنسان آخر ذات مرة” ؛

 

تلك الجملة الرئيسية لبطل مسرحية “كاسبار” للكاتب النمساوي المتمرد المشغول بنقد النظام الاجتماعي”بيتر هاندكة”؛ المستوحاة من قصة “كاسبار هاوزر”الحقيقية ؛ ذلك الصبي الألماني الغامض في القرن التاسع عشر الذي تربى منعزلا في قبو مظلم لأسباب غامضة، فنشأ محدود اللغة غريب الطبع ليحاط باتهامات الكذب وإن تمت رعايته، وقد عثر عليه في الطريق بيده رسالة تعرّف باسمه وتوصي بالتحاقه بخيالة الجيش مرددا جملة واحدة بهذا المعنى، فالتقط هاندكة من قصته فكرة سطوة النظام اللغوي والاجتماعي في تشويش الفرد ومحو خصوصيته وصبغ اختلافه الثري لاكتساب التماثل الآمن،

 

فاللغة عنده نظام قاهر يحجم العالم وصورته متفقا بذلك مع التيار الحدسي في الفلسفة الذي يرى الفكر أكثر اتساعا من اللغة التي تقيده مقابل التيار المثالي الذي لا يرى فكرا بدون لغة، فاللغة تحجّر الفكر عند “برجسون”بينما الألفاظ حصون المعاني عند”هيجل”،وعن هذا النص لبيتر هاندكة بمعالجة تختلف نوعا قدم عرض”التجربة” للمخرج أحمد عزت من إنتاج مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية وذلك ضمن عروض الدورة 24 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر .

رجل صامت يضع أجساد أشخاص بترتيب معين في مكان كالقبو ..هو مشهد افتتاحي للعرض يظهر بعده هذا الرجل في ركن جانبي منكمشا في وضع جنيني راويا عن نفسه، في مونولوج تمهيدي يرجعنا لأصل الحدث في الماضي وسط ظلام كامل ،إلا من إنارة علوية ظلالية لموقعه تعزله موحية بالعمق والتشوه الداخلي تدخلنا لعالمه أو قبوه، في بوح يبدأ بالتعريف باسمه ” كاسبار هاوزار” ضمن كلمات مبتورة متعسرة النطق وأداء داخلي شديد المعاناة، لا سرد متسق بل كلمات مبعثرة بلغة عاجزة توحي بحكايته ” طفل، رسالة، طريق، وجدوني، ظلام، شخص ، قش،  تجارب فأر كنت، قبو،..”

 

لتأتي النقلة للحظة الراهنة بشكل ذكي بسيط فتصبح الإضاءة عامة ويستقيم تماما هذا الجسد وتنضبط اللغة ويقوى الصوت وتتغير تعبيرات الملامح لدهاء وقوة كتعبير عن نقلة زمنية ونفسية، فيبدو أمامنا إنسان آخرهو ما أصبح عليه بعد وقت، متحركا بنا نحو اليمين إلى قلب المسرح في جزئه العلوي الخلفي الذي يبدو غامضا محجوبا وراء سلك كبير ضيق الفتحات في مكان قاتم غامض يوحي بالخطر أو بقبو سري مهجور وربما قبر، بلا فتحات سوى سلمين جانبيين في آخر الخلفية بديكور جيد التصميم بشكل كبير لدنيا عزيز؛ ديكور محاصِر يعبر عن الأسر النفسي والمرضي، فالمكان كمربع مغلق كبير يضم مربعا أصغر..

 

كما سجن بداخل سجن، يحيط بالمربع الأصغر كموضع مراقبة أسلاك صلبة شفافة يحيطها الظلام ضمن المربع الأكبر، فالمكان يوحي بتوتر وخلل مع حالة مراقِبة أعم، بما يتفق مع التجربة التي يبدأ في شرحها”كاسبار”الذي يتخذ دائما في الخلفية مكانا علويا سياديا تحكميا في وضع مراقِب ومحرك لكل شيء من بعد بما يوحي بمزيج من صور الإعلامي الموجِّه والمسيطر بامتلاكه وحده لميكروفون قوي الصدى؛ ورجل المخابرات ومدرب السيرك أيضا خاصة بجرس يمسكه يشير به متحكما من بعيد في حركة الإضاءة وتوجيه نماذج التجربة التي يدعو الجمهور لحضورها من خلال ميكروفون كما تقدم عروض السيرك، بتسليع ممتهن ساخر ، وذلك بعد أن عرّفنا بهروبه وقراءته في عدة علوم حتى قرر تربية أربعة أشخاص في نفس ظروف نشأته،

 

كل منهم اسمه “كاسبار”آخر لم يمش أو يتكلم أو يرى أو يسمع من قبل، لنبدأ رؤية أربعة نماذج بشرية في المنطقة السفلى بما يوحي به موقعها من خضوع ..نراهم مفترشين المربع الأصغر مقسمين سيمتريا لفتاتين وصبيين، يبدأون حركة جنينية من سكون كما البعث..محاصرين بمربعات ضوئية تؤطر كلا منهم كقبر أو قبو أحسن تماما مصمم الإضاءة إبراهيم الفرن توظيفها وتنويع دلالاتها في بقية العرض من إيحاءات بعزلة، قبر،حصار أو علاقة نفسية معينة ، مع نقلات رشيقة عميقة الدلالات مغذية لإيقاع عرض قليل الكلمات.

 

ليبدأ كاسبار التحكم فيهم بمثيرات منتقاة يلقيها إليهم من خارج القفص يحدد بها ما يستكشفون به العالم بإثارة حادة متعمدة أحيانا لغرائزهم ونزاعاتهم الفطرية تؤدي لغيرة وتنافس، منها زجاجات ألوان وسكاكين يلقيها متفرجا عليهم بينما يلقنهم اللغة بحدود ضيقة كتعريفات الألوان الأساسية والأشكال الهندسية بجملة ارتكازية “أود أن أصبح مثلما كان إنسان آخر ذات مرة”، ككل رصيدهم اللغوي الذي يستخدمونه في كل موقف وشعور بطفولة بريئة تثير الشفقة، تاركهم بتبلد متلذذ كما تكون اللعبة يواجهون غرائزهم البرية ببدائية في وضع فرجة قاس وُرط فيه الجمهور أيضا.

 

“كاسبار” بملامح وسلوك يعكسان بارانويا ونزعة انتقامية مرضية؛ قام باستنساخ رباعي منه باسمه وبنفس لون ملابسه البيضاء كانتفائه ، حفاة جميعا باستثنائه فهو السيد ذو الحذاء الوحيد في رمزية قمعية فوقية، منتقما بإعادة تمثيل نفس الحدث باستبدال دور الضحية هنا بالجلاد، أربعة لا نموذجا واحدا في نزعة لخلق مجتمع ديستوبي (نسبة لديستوبيا أي المدينة الخيالية الفاسدة)، صغير مشابه له يردد صرخته كسعي استشفائي قاتم ينفي استثناءه المؤلم ووحدته، بإشراك آخرين معه في ترديد ظلمه بما يبرر تكرار الجملة المذكورة طوال الوقت كأساس لغوي جامد ” أود أن أصبح مثلما كان إنسان آخر ذات مرة “، تدريجيا ينقسم الأربعة لفريقين كل منهما زوج من الجنسين أحدهما يتحابان بينما يعاديهما ويحاول التفريق بينهما الزوج الآخر الشاعر بالغيرة، ليصبح هناك فريق طيب محب وآخر شرير ظالم يصل لذروة عنيفة وقتل.

 

يسير العرض لنهاية دائرية بين قهر بيّن إلى محاولة للنجاة بالدهاء لتأسيس قهر جديد وديكتاتور جديد تأكدت الإشارة إليه بتقمص ” كاسبار ” لشخصية هتلر في خطبته لنماذج تجربته، داخل تأطير بصري يوحي بشاشة تليفزيون ..فالقهر يولد القهر والاستبداد ينبىء بديكتاتور جديد يصير إليه الفتى المظلوم ، الذي نجده كي ينجو من الآخرين يكرر نفس فعل كاسبار الذي رواه عن نفسه في البداية،  فيقف في نفس مكان المونولوج الأول لكاسبار  بنفس إنارته وبجملته المروية ” تصنعت عليهم الموت .. ”

 

ليخفت الصوت كما بضع نقاط تروى في سطر يكرر معنى سابق، وهي نهاية شديدة التوفيق تناسب البناء الديستوبي كحالة دائرية انتقامية من الحياة ناقدة لها ليصبح لدينا أبرياء صاروا أشرارا وناجون بلا نجاة يورثون ظلمهم للحياة من جديد ، إلا أن الأمر رغم ذلك سار في العرض كمسار غرائز حياتية وفطرية أكثر منه ناتج إفساد متعمد كان يجب إبراز أثره ليوازي تأثير سطوة  نظام فاسد على أبرياء، فبدا الأمر نزاع فِطَر صالحة وفاسدة وخير وشر فطري بإغفال تأثير الاستثناء وسطوة التحريك وقهر العجز والتنميط اللغوي والذي لم يظهر أثره إلا في شكل ظاهري بالتكرار والمحدودية في مسار الأحداث والشخصيات ، حيث لدينا نماذج بدت فاسدة بفطرتها وأخرى ظلمت بفعل الآخرين لا بفعل القبو وسيده أو مأساة النشأة، مما شتت مسار وحبكة العرض وأهدر جزءا من ثقلها بعدم توافق السبب مع النتيجة إلا في الفكرة المجردة لحالة القهر لا تفصيل وخصوصية الحالة المقدمة .

 

هناك صياغة تشكيلية للرؤية الدرامية غنية بالتفاصيل محققة لدلالات العرض العميقة ولحالة تأملية تناسبه جاءت بشكل يفرض احترامها وتقديرها، خاصة على مستوى الإضاءة التي صممها إبراهيم الفرن التي خرجت من التوفيق إلى الإبداع، خاصة في مشهد استخدام زجاجات الألوان في إضاءة بيضاء جاء عاكسا لروح سحرية لاهية بريئة بشكل جمالي حيث بدا رذاذها كمسحوق ضوئي ملون ، مع درجات إنارة مناسبة الظلال تناسب العمق الدرامي عامة ، وكذلك موسيقى موحية بالبعد النفسي للحالات المتنوعة وديكور موفق أشرنا إليه وسينوغرافيا أجادت صنع العلاقات والدلالات كاستخدام البالونات الحمراء والأشرطة الحمراء للإنذار بالعنف والصراع الدموي،  إضافة وهو ما يستدعي الإشارة إليه للحيل البديلة المستحدثة على العرض لتوافق تغير المسرح إلى المسرح الكبير بالأوبرا وارتفاع خشبته بما لا يسمح بمتابعة جيدة لما تم تأسيسه من حالة بصرية على الأرضية المسرحية حيث كان يعرض العرض في مسرح مختلف أقرب لمسرح الغرفة.

 

فكان استحداث البالونات الملونة في مجموعات لونية بديلة لرسمها بالليزر على الأرضية ورفع الأشرطة الحمراء لمسافة من أرضية المسرح، موفقا ينم عن سعي يستحق التحية نحو الدقة والإبداع ، مع أداء جيد من غالبية الممثلين وعلى رأسهم بطل العرض محمد الهجرسي بأداء صوتي وجسدي جيد موحٍ بالتبلد المرضي والانفصال والألم النفسي المجسدين بدورهم لمأساة ” كاسبار “.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock