مقالات ودراسات

الناقدة أمل ممدوح تكتب: “الرمادي” تحية للاختلاف بقاعدة نفي النفي!


 أمل ممدوح

ناقدة ـ مصر

ـ

بضدها تتبين الأشياء كما يقول المتنبي والضد يظهر حسنه الضد كما يقول شاعر آخر، فتصوير القبح قد يقود لرفضه وتدعيم الجمال بطريقة نفي النفي إثبات؛ هذا القانون الفلسفي الماركسي والهيجلي الكانتي من قبل واللغوي والمنطقي كذلك، وإن كان يعني فلسفيا أن نفي الفكرة تحيل إلى أخرى يتم إثباتها في سلسلة التطور الإنساني التي لا تتوقف، لكنه يبقى مرحليا أسلوبا مؤثرا في إثبات فكرة ما فتبني النقيض الفكري قد يكون معبر تقويضه ونقده من داخله دون حاجة للكثير من الجدل، وهي الفكرة التي بنى الأديب الإنجليزي “جورج أورويل” الداعم لمبادىء الديمقراطية والثائر حتى على نفسه وطبقته لحد تغيير اسمه تبرؤا من عالمه الطبقي والاستعماري؛ روايته الشهيرة (1984) التي بدت شديدة التشاؤم والسوداوية ومغرقة في الإحباط ورغم ذلك تعد رواية ثورية تمنع نشرها الكثير من الأنظمة، وبأسلوب الإثبات بنفي النفي بنيت حبكتها وأقيم سردها من خلال إثارة التناقضات والمسميات المخالفة للأفعال والأفعال المخالفة للأفكار، فهي بهذا تروج ضمنيا لعالم أفضل وأكثر مثالية من خلال بناء ديستوبي اتسمت به حيث الديستوبيا وتعني المدينة الفاسدة نقيض فكرة اليوتوبيا التي تعني المدينة الفاضلة أو المثالية، وقد التقطت المخرجة عبير علي هذا الخيط في البناء الفكري لرواية أورويل لتقدم رؤيتها الخاصة في دراماتورج وإخراج عرضها “الرمادي” المأخوذ عنها لفرقة “مختبر المسحراتي” من إنتاج مركز الهناجر للفنون وإعداد آمال الميرغني .

    عبر اسم العرض بتميز عن نقطة اهتمامه وارتكازه بعمق وبلاغة توازي إسم الرواية الذي يستشرف زمنا قادما إذا تبدل رقماه الأخيران في عام كتابته 1948 لعام في زمن آخر هو 1984، فقد اختارت المخرجة ثيمة الرمادية وغياب الاختلاف والحقيقة في التعامل مع النص المنتقد للفاشية والديكتاتورية. ويبدأ العرض بشاشة تستعرض أحداثا فيلمية للنازية مع نبذة عن الرواية التي تدور في دولة “أوشيانيا”، بينما سبقت بدء العرض  شاشة أخرى كبيرة تعرض صور الجمهور مع صوت نداء إذاعي يكرر بآلية:”برجاء عدم الانحراف عن المسار، نحن نحدد لك المسار الآمن، مسخرون لتلبية احتياجاتك..”، وبذلك يضعك العرض في حالته مع أولى خطواتك داخل المسرح لمدة تكفي للتدرج من تعجب لرؤية نفسك دون سبب حتى الضيق بإحساس المراقبة حين يطول، كل ذلك يدفعك للتورط في بيئة آلية قادمة، تنطفىء الشاشة وتبقى رماديتها ومن خلفها يتقدم أشخاص بمظهر واحد لا يميز ذكرا من أنثى مكررين عبارات الاتهام “خائن،عميل، كاف، جاسوس، مختلف، ..” حتى إذا ما اقتربوا من الشاشة بدوا كمساجين، للآن كل لمحة وخطوة تجاه عمق العرض تحمل فكرة تكاد تكتمل؛ ليبدأ العرض بأصوات نداءات آلية على أرقام ونرى”وينستون” وعمره 39 عاما المتمرد في أعماقه مراقب في بيته بشاشات ككل سكان المدينة التي يحكمها “الأخ الأكبر” الذي لا يراه أحد ويوعدون بتجسده كأنه إله؛ بما تحمله هذه التسمية من صفة تبدو حميمية لكنها تعكس إحساس الوصاية والغموض، ويصبح وينستون قيد الاشتباه إثر رصده متلبسا بكتابة المذكرات كأمر محظور في أوشيانيا، ونرى جميع سكان المدينة يرتدون زيا واحدا رماديا بقصة شعر واحدة وشكل حذاء واحد وينادون جميعا بأرقام، يكررون تقريبا نفس الكلام ونفس الأفكار، بمنطق يثير الضحك وفطرة ممسوخة تثير الشفقة والألم، فأسرة “بارسون” ترى التوجه لحديقة الإعدام ومشاهدة إعدام الخونة أو الأسرى حيث أوشيانيا في حروب دائمة؛ نزهة ممتعة ووطنية يدان المتخلف عنها، فنرى الأطفال عدوانيين يتلذذون بمشاهد القتل ويتلصصون كالمناخ العام المتربص بالآخر وبكل مختلف باسم الوطنية والسلام وإن أدوا بآبائهم إلى السجن أو الإعدام، ويشارك وينستون كارها مبتسما في حدائق الإعدام السادية وإلا اتهم اجتماعيا ورسميا بالاختلاف والشذوذ والخيانة، ونرى الإعلام الموجه المضلل فلا حقيقة هناك وما كان بالأمس مثبتا ينفى اليوم ببساطة كتبدل الدول الصديقة والمعادية فجأة وأنباء انتصارات لا تتفق مع تدهور الواقع، ووصف للأشياء بعكسها فوزارة التموين المقترة تسمى وزارة الرفاهية ووزارة الإعلام التي تطمس الحقائق وتزور سجلات التاريخ تسمى وزارة الحقيقة والوزارة التي تعتقل المواطنين وتعذبهم تسمى وزارة الحب، مع آلية تجعل السعادة تصرف آليا، فالعقل الإنساني والاجتماعي فاقد للقدرة على التمييز بين بؤسه وسعادته وضيق عيشه ورفاهيته وحق الوطن وحقه كإنسان وبين العام والخاص فلا خصوصية للفرد في أوشيانيا ولا لأفكاره التي تلاحقها “شرطة الأفكار”، حتى الفن وطني فقط ولا ألوان إلا الرمادي في كل شيء رغم الأحكام القطعية الحادة الداعمة بذاتها لهذه الرمادية والضبابية، مع سعي للغة جديدة مختصرة مقلصة منعا لجريمة الفكر، لكن الحب يشق الجدر المصمتة فيجمع بين وينستون و”جوليا” الموظفة في نفس وزارته تطبع روايات تراها سلعا وتشترك في جمعية لمناهضة الجنس بعكس مبادئها فتتكيف مع تناقضات حياتها مختلسة التعبير عن أهوائها، وتبرز العدمية إزاء الدولة الجاسوسية من خلال “أوبراين”رجل الحزب الداخلي الذي يستدرج الحبيبين لحركة متمردة وهمية للإيقاع بهما، وصاحبة الجاليري المستأجر غير المراقب ذو الألوان التي تفاجئهما بالعكس وتشي بهما، وأرى أن عدم وشاية وينستون بجوليا إثر التعذيب مثلها لم يكن موفقا دراميا كما لم أقتنع بخروجهما من المعتقل بانتظار الإعدام وحديثهما لبعضهما عن الورود المزروعة والكناريا واللوحات مما رغم  جو المراقبة والمحظورات العام.

      استطاع العرض إثارة الشفقة تجاه السكان المستلبين إنسانيا ونشاهدهم أغلب الوقت ككائنات آلية غير بشرية عبر حاجز يفصلهم بدوره عن الحياة ويشكل خيطا رفيعا يفصل تبادل الأماكن معهم، منتهيا بدائرية تشاؤمية مؤلمة كنهاية الرواية مؤقتا فتقترب الشخصيات كالبداية من الشاشة مكررين الاتهامات لكن جديد المخرجة رفع هذه الشاشة بعد إتمام وصول شحنة الضيق واليأس للجمهور من هذا العالم الرمادي البائس الممل المثير للشفقة لتنطلق من نقطة وعيه المكتسبة إلى ما قد يبدو مناقضا لما بني على الدلالات الضدية؛ فاختارت عكس مسار التضاد من النقطة مكتملة الشحنة فجعلت الشخصيات التي أقررنا بانهزامها تخلع رمادية ملابسها  تدريجيا كفعل ثوري لملابس ملونة زاهية تجسد انتقالا ضديا صادم البهجة وتؤدي مؤدين رقصة بأغنية “الأوقات الحرجة” لبريخت كرؤية متفائلة تخفف قتامة العرض لولا إطالة للأغنية دون جديد أرخت قوة الخاتمة.

      قد يرى البعض تشابها بين عرضي “الرمادي” و”الزومبي والخطايا العشر” سواء في الموضوع وهو أمر وارد جدا أو في أسلوب الشاشات المراقبة وهو ما يستدعي الرد بأن الرواية المنبع لكليهما (1984) تحتوي بالفعل على فكرة شاشات المراقبة، أما عناصر العرض فجاءت مترابطة داعمة لفكرتها سواء الديكور المعبر عن مكان كالقبو مليء بالمواسير رمادي تماما لا تتميز فيه الأماكن إلا بتغيير مواقعها باستثناء الجاليري  وركن علوي وحيد “مكان أوبراين”، مع ملابس صارمة موفقة وكلا العنصرين السابقين لهناء نصر وعبير علي، واستوعبت إضاءة محمد عبد المحسن  مقتضيات الموضوع متنوعة بين الإضاءة الصفراء المتجردة والزرقاء الشاحبة المثيرة للشجن والكآبة، وأعطت الموسيقى ظلا شجنيا وإن لم أر ضرورة للعزف الحي والظهور الواضح للعازفَين، ويمكن تفهم المطلوب أدائيا لأشخاص متشيئين فاقدي الشعور بالحياة لكنه أيضا لم يكن أداء متميزا بقدر جودة التوجيه، وإن كانت إنجي جلال “المذيعة” ذات حضور وأداء جيد وكذلك”المذيع” وأحمد رضوان “سايم” مع حضور أفضل من الأداء لدعاء حمزة “جوليا”.

ـــــــــــــــ

المصدر : مسرحنا ـ أغسطس 2016


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock