الناقدة البحرينية زهراء المنصور تكتب عن العرض السعودي: تنصيص البيروقراطية والفساد
تتعدد استعمالات التنصيص في اللغة العربية إلى ما بعد نقل الاقتباس الحرفي من مكان آخر لنص مكتوب، وللتعبير عن عدم وجود لفظ مرادف في اللغة لكلمة دارجة، وللفت النظر إلى جملة ما، أو تستخدم للتهكم من وضع ما، كما حصل في العرض السعودي “تنصيص”، الذي خصه مؤلفه فهد ردة الحارثي بالسخرية من البيروقراطية الملتهمة للإبداع والمبدعين، عبر ربط مشروع إجراء تعديل بالمسرح بالأنظمة التي تتبع توزيع مسئوليات فضفاضة على أشخاص يتبعون أهوائهم الشخصية، تحت الإطار القانوني الذي يساند المماطلة في الإجراء ويدعمه.
وحتى يمهّد العرض للفكرة الرئيسية، استهلالية العرض وضحت السلطة/الرقابة الممتدة من فوق عبر مجسم بشكل نصف هيئة آدمية, يتواجد منذ بداية العرض وحتى نهايته ثابتا ومتغيرا عبر الإضاءة يتحرك للأسفل والأعلى بغرض فرض وجوده, أثناء بدء تجربة أداء لإحدى الفرق، وبأسلوب ميلودرامي غارق في الكوميديا للممثلين، عبر تقنية المسرح داخل المسرح، التي عرف بها بيراندللو في مسرحياته الثلاث، وعرفت أبرزها بـ”ست شخصيات تبحث عن مؤلف”، أو كما “هاملت” شكسبير من حيث فصل حدثين قائمين قد يكونان على شكل من التشابه أو التوازي.
والهدف في “تنصيصنا”: تعريف الجمهور بالعمل المسرحي للفرقة التي تشتغل لعمل قادم، ينقطع بالالتفات إلى شق في الستارة الرئيسية توضحه كاميرا خلفية –لم تعمل اثناء العرض لخلل تقني- تستخدم لبيان حجم الشق في البداية، وكيف أنه يكبر مع مرور الوقت والأشخاص. وقد لا يبدو استعمال هذه التقنية من البداية واضحاً، لولا أن تكرار اللقطة مع بيان حجم وعدد الأشخاص الذين يمكن أن تكون “رؤوسهم” في إطار “الشق”، ومع المحاولات ستكون كامل أجسادهم ظاهرة من خلاله أيضاً!
على المستوى الرمزي، هناك اشتغال على فكرة “الشق” من حيث تأويلها إلى العيب الظاهر في المجتمع/ السلوك الشخصي/ السياسة/ الاقتصاد/ التعصب الديني/ الرقابة المجتمعية والفنية، وكل ما يمكن أن يرى عيباً يمكن أن يتمادى ويكبر مع مرور الوقت، وبمساعدة عوامل أخرى.
أما المنظور المرئي، فيوحي بأن ثمة حدثاً تقليدياً ذا بداية وذروة ونهاية، والثيمة الأساسية هي طرح الآليات التي تقام من الطرفين. فعندما يبادر المسرحيون إلى بث الشكوى للمسئولين، بعد محاولاتهم الفردية لحل المسألة، وعلى اعتبار أن هناك جهة رسمية مسئولة عنهم، ولو بشكل إشرافي، تدور المسألة عبر لجان، وأصحاب شأن مهمين ومهمشين، لهم سلطة، أو مجرد موظفين يؤدون واجبهم بملل. وقد تكون هذه فكرة قد تناولتها الدراما بأشكال كثيرة، الفارق هنا كون المسألة متصلة بالمسرح بشكل مباشر وليس برمز، أي أنها تحاكي واقعاً، وتربطه برمزية غير عصية على الفهم، وكون أن فن المسرح أساساً يعتمد على مجموعة من الإشارات والصور المرئية التي تبعث مضامين لجمهورها.
ومن خلال هذه الفكرة التي ستدخلنا في متاهات الروتين، والمكاتبات المستمرة، أو معرفة ما استجد من المسئولين، ربما سيكون هناك كثير من التطويل الذي سيدور في هذه الزاوية، لكن الإخراج تجاوز هذه المرحلة عبر الأشكال الفنية التي منها: أن يبتكر شكل المسابقات –المدرسية تحديداً- في اقتراح الحلول لتغطية الشق، مع خلق كاركترات جديدة للممثلين تتجه للكوميديا، مما يسهل وصول الفكرة للمتلقي. ولعل الاستعانة بالهيئة الكاريكاتورية سبب آخر للفهم والقبول لفكرة الفساد الحكومي المستشري في المجتمعات، عبر طرح أفكار بشكل مبالغ فيه متصل بالوجع. فمقابل الخيال والإبداع في أفكار المشاريع؛ شجرة القطن/ شجرة الآيسكريم/ عمود الكهرباء الذكي/ النافورة الحساسة بالحضن، هناك عدم اكتمال بسبب اقتران الأعمال بأصحاب مصالح مباشرين ينتمون هم أو أقاربهم لهذه الهيئة الحكومية أو غيرها، فتؤثر المصالح الفردية التي كانت ولازالت سبب كوارث الكثير من تأجيل/ تعطيل/ إيقاف المشاريع على جميع المستويات، وللتوضيح أن المشاريع تنبع من فساد باطني من كبار وصغار الموظفين، ومتى ما كان لديهم استعداد لهذا الفعل في ظروف متاحة.
لابد من الاشارة أيضاً الى أن مجمل الأعمال المشتركة بين المخرج سامي الزهراني والمؤلف الحارثي أن ثمة انسجاماً ظاهراً وواضحاً يظهر على كل عناصر الخشبة، خاصة في أداء الممثلين، عبر فهمهم للشخصية، وعلاقتهم ببعضهم أثناء العرض، واستثمار المخرج الأصوات الجميلة لغناء بعض المقاطع المعروفة، وهي طريقة محببة للجمهور، وتكسر حاجز الملل جراء التكرار الدرامي المطلوب لبعض المشاهد أثناء محاولة الترقيع غالباً، عدا أن الكوميديا تساعد على قراءة المشكلة، والإحساس بوقعها، دون أن يصاحب هذا تعقيد أو التباس في المعنى، وهذا نابع من طريقة معالجة النص للفكرة، والقدرة على تبسيطها والبناء عليها. فكما يشبك العرض بين اللغة العربية واللهجة السعودية الدارجة، في تباين يشبه ترديد أغنية مألوفة يومية عادية، إلى جمل تؤول؛ مثل “حلمت البارحة أن الشق يخرج منه مخلوقات تتناسل”، أو “الشق أكبر من الرقعة”، لرمي المعنى في ملعب المتلقي اللاقط، الذي يلتفت إلى ما وراء الجملة، وليس إلى موقعها في الحوار بطبيعة الحال.
كان مشهد قراءة تقرير اللجنة هو “الماستر سين”/المشهد الرئيس كما يطلق عليه بلغة السينما، إذا عمل المخرج على تغريب النهاية كنوع من إيقاظ الوعي لدى المتلقي، كما دعا لذلك بريخت عبر استخدام لفظ أو شخصية في غير مكانها المعتاد، لإثارة الانتباه باغترابها، وقدمها عرض “تنصيص” بتوظيف السينوغرافيا المتمثلة في الأزياء العربية القديمة، والموسيقى الموحية بذات العصر، وربما شكل المنادي القديم في الأسواق! على إعلان النتيجة لمشكلة حالية/ عصرية، بشكل ينتمي إلى وقت آخر، ولا يتسق مع الصورة البصرية التي قدمت عليه، والحل الذي جادت به دوامة اللجان وتفريعاتها وأعمالها وما نجم عنها، والتي اتخذت من أجل رأب الصدع/ ترقيع الشق في ستارة المسرح، بالحكم على أن يبقى الوضع/ الستارة على ما هي عليه، وعدم إجراء تغيير عليها، وحتى ينحو العرض نحو المبالغة التي تقارب الواقع، وتشبهه في كثير من الأحيان، على “إلغاء المسرح عموماً والتخلص من مشكلة الستارة التي كان المسرح سبباً فيها، وهي مقاربة واقعية لحالات عدم الاعتراف بقوة هذا الفن الذي يتعرض في كل مكان لانعدام الدعم المادي والتشجيع المعنوي/ دمجه مع جمعيات ثقافية وفنية أخرى/ إخلاء مقرات المسارح لأغراض تجارية بحتة/ عدا المشكلات الداخلية التي يهدمها أشخاص لأغراض فردية. جسد العرض الممثل/ قارئ التقرير وهو يبتلع بالتدريج أثناء القراءة بقطعة قماش داكنة، وبمعاونة سينوغرافية أخذت شكل الإعصار. يختفي الممثل كمن سبقوه، في علامة دالة على سيطرة قوى الجهل والظلام والمصالح الضيقة. ورغم كل المتعة التي قدمها عرض “تنصيص”؛ من كوميديا سوداء، وإيقاع مشدود حتى النهاية، والشعور بالانتماء لمشكلة تنتمي بالضرورة إلى أغلب مشاهدي المسرحية، يخرج المتلقي بعدها محملاً بمسئولية حماية هذا الكيان، وربما يدفعه هذا الشعور إلى اتخاذ موقف ناضج وواعٍ، وتحويله من مستهلك إلى فاعل ومنتج.