الناقدة الكبيرة د. وفاء كمالو تكتب: مسرحية اهتزاز إبداع ناري.. شرقي القسمات
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
د. وفاء كمالو
يقدم مركز الهناجر للفنون الآن مسرحية “اهتزاز” , التي تأتي كمغامرة مثيرة تجاوزت حدود السائد والمألوف , باعتبارها قطعة من الوهج الفني الأخاذ , الذي يمتلك خصوصيته الفريدة وبصماته المدهشة وضرباته الجريئة الساخنة , فهذه التجربة تأخذنا إلى عالم رحب لا يعرف حدود العقل والمنطق , يندفع نحو جموح الرغبة وغواية الحب وسحر الاختراق وأحلام الحرية , فالخطاب المسرحي يروي عن امرأة غير مألوفة , ترغب في الجبل المفتون , وفي عناق الرجل الذي ترتعش حين تراه , امتلكت قلبها وعقلها وجسدها , لتواجه هوس الاستلاب والاختزال , عاشت صراع الوجود وعجزت عن مواجهة العدم .
مؤلفة المسرحية هي الكاتبة المتميزة” رشا فلتس “, التي قبضت على جمرات الفن النارية , فتجاوزت جمود التابوهات , واشتبكت بحرارة مع الإنسان والحب والجنس والمجتمع , رفضت الخضوع والرضوخ وآمنت أن فعل الكتابة المتجدد هو فعل احتجاج ضد كل أشكال التسلط , فقد امتلكت حرية مواجهة العالم عبر حالة إبداعية مدهشة , لها قانونها الخاص , وإطارها المرجعي المتميز, حيث الوعي والصدق والتساؤلات الحارة , التي تمزق أقنعة الزيف والتناقضات – – , لذلك جاءت مسرحية اهتزاز كومضة وعي ثائر على التيار السائد في الثقافة العربية الذكورية , تواجهنا بمفارقة لاذعة , تدين مفاهيم المجتمع الأبوي المتسلط , وتعلن العصيان على عصور القهر الطويلة , وتضع الرجل في قلب معاناة المرأة , ليدرك أبعاد الجحيم التاريخي الذي تحترق فيه النساء .
مخرج المسرحية هو الفنان الكبير” حسن الوزير” , الذي انطلق إلى تجربته المثيرة المدهشة , ودخل هذا العالم الغامض الشائك المتوتر , جاءت بصماته فريدة لامعة , تكشف عن جموح الوعي والفكر والخيال , استطاع أن يلامس منطقة شائكة يصعب اختراقها فنيا , حيث تعامل مع أدق وأشرس مشاعر المرأة , ومع لا وعي الرجل في المجتمعات الشرقية , فكشف برشاقة عن آليات التسلط والرضوخ , وعن التوترات والتناقضات , التي تحرك وجود الرجل , وتدفعه لفرض حصاره المريض على عقل المرأة وجسدها وكيانها, وفي هذا السياق اتجه المخرج حسن الوزير إلى تحويل الرموز والدلالات , إلي وجود حي متدفق , يبعث توترا حيويا نابضا في وجود المتلقي , فقد اتسم العرض بالسرعة والتصاعد وإيقاعات الجمال , رغم دورانه على المستوى النفسي العميق , ويذكر أن التصميم الحركي قد تضافر مع التشكيل الضوئي والمؤثرات السمعية بأسلوب بالغ الحساسية , جاء مرتبطا مع الحالة النفسية المتقلبة , فتعمقت دلالات البرودة والفراغ والغياب المعنوي , والتسلط والرضوخ على المستوى الفعلي والرمزي , وهكذا يتضح أن المخرج الكبير قد أهدى المسرح المصري عرضا جديدا مدهشا رفيع المستوى , أخاذ الجمال , ثائر الرسائل والخطابات , قدم فيه نموذجا خلابا للمرأة التي رفضت مظاهر قهرها , وتجاوزت مفاهيم الاستلاب والاختزال , تلك الحالة التي اتخذت مسارها عبر ثورة جمالية مدهشة تموج بسحر البكارة وقداسة الحب والحرية .
تتخذ الأحداث مسارها في إطار تشكيل سينوغرافي خلاب شديد البساطة والأناقة والإبهار, يكشف عبقرية الفنان الكبير فادي فوكيه , الفراغ الرمادي يسيطر على المشهد , وعمق المسرح يواجهنا بذلك الرأس التجريدي الجميل, حيث الاهتزاز المخيف الذي يسكن عقل وأعماق الإنسان , وعبر ذلك الفراغ يشتبك البار الصغير على اليمين مع الكرسيين في المقدمة , ويظل الضوء الأنيق يشاغب الظلال ويكشف عن الشباك والباب , ليبعث جدلا مع الزمان والمكان , وعناقا مع توترات المشاعر وعذابات الخوف والبرودة والاختناق .
يتضافر التعبير الجسدي مع الكوريوجرافيا والموسيقى والحوار الصريح الثائر , ونتعرف على الشابة الجميلة نسمة وصديقتها ليلى , تبحثان معا عن المعنى وامتلاك الذات , عن الحب والجنس والارتواء , عن اهتزاز الروح والجسد وسحر الاكتمال , لكن نسمة لم تكن امرأة عادية – – , كانت شديدة الرقة والحساسية , تسكنها قداسة لا يعرفها الواقع , تعيش ترددا مخيفا , دفعها إلى الهروب من الحياة والناس والمجتمع , ظلت مؤرقة بصوت أبيها الذي مات , تلك الدلالة التي تقودنا إلى سيطرة مفاهيم المجتمع الأبوي المتسلط , وعبر ذلك الصراع النفسي العنيد, يظل العرض في حالة جدل مثير مع الحب والحرية, العشق والموت , انتفاضات الروح وعذابات الجسد , استبداد المجتمع , ووقائع اغتيال النبض في
قلب امرأة تحولت عبر لغة الفن إلى قراءة حية في أعماق نساء الشرق , تلك الحالة التي منحت العرض إمكانات الانتقال من عذابات وجود فردي , إلي ضغوط واقع شرس , يتبنى القمع والقهر والانتهاك والاغتصاب.
لم تستطع نسمة أن تفعل ما تريد , كانت تعشق الكتابة — , ولم تكتب , فهي تتجه بلا وعى إلى عكس كل ما تهواه , حاولت صديقتها ليلى أن تجذبها إلى التفاصيل المدهشة , أخبرتها أن أجمل ما حدث في حياتها هو لقائها بذلك الرجل الذي شعرت معه بالحب والجنس , لكن نسمة ترفض ذلك المنطق , وتؤكد أن السعادة تنبع من الأعماق دون احتياج لرجل يمنح اللحظات سحرها , وفي هذا السياق يتضافر النص الموسيقي الخلاب مع الضوء والأداء الحركي والتشكيلات الجسدية , ويعايش المتلقي إبهارا عارما يدور عبر مستويات عديدة , نسمة تدعو الله أن يخلصها من المرض , واللحظات تشهد حضور الرجل في قلب حياة الشابتين , فيأتي” سيف “, رجل الأعمال الثري , هو صديق لهما — , يقترب من ليلى فتشاغبه , يعلن بكل وقاحة أنه يشعر بالإعجاب نحو الصديقتين معا , خطوط الحركة تكشف بذاءة أعماقه , والرؤى الفلسفية النفسية الأخاذة تبعث وهجا مسرحيا مبهرا .
يأخذنا التشكيل الحركي إلي رقصة الحب والشهوة والجنون سيف يقترب من ليلى, يجذبها , ونعايش إبداعا حركيا راقيا يوحي بحالة الاكتمال الجنسي , وحين تأتي نسمة تتداعى مشاعرها , وتؤكد أن الجنس معقد مثل الكتابة , فهو السعادة والتعاسة , الشهوة والاهتزاز والليل والقمر , تلك الحالة التي تتجسد عبر تصميم حركي رفيع المستوى يكشف عذابات الأعماق , وفي هذا السياق تمضي الصديقة لتعود في اليوم التالي , تحدث نسمة عن ليلتها الساخنة مع سيف وعن سعادتها الجارفة معه , وفي المساء يأتي الرجل ويقررون أن يلعبوا معا لعبة الحياة , فيندفع إلى نسمة يهمس لها بالحب , يعانقها , يقترب ويبتعد فترقص هي في جموح مثير , التشكيل الجمالي يبعث رسائل اللقاء المجنون مع الأنثى المثيرة كاملة الأنوثة , وحين تتساءل ليلى يخبرها ببساطة وقحة , أنها هي الواقع , ونسمة هي الخيال والأحلام , وأنه يعشقهما معا .
تأخذنا خطوط الحركة إلى ذلك القرار الحاسم , الصديقتان ترفعان صوتهما معا- – ويطردان سيف من حياتهما, وحين تمضي ليلى تؤكد لصديقتها أنها ستكون أفضل مع الزمن , وتبقى نسمة وحدها أسيرة الانتظار والدقات والهزات المفزعة .
شارك في المسرحية النجمة الجميلة المدهشة إيمان إمام , والفنان المتميز شادي سرور صاحب الخبرة والموهبة والحضور , مع الجميلة دنيا النشار النجمة اللامعة القادمة بقوة.
كان الديكور للفنان فادي فوكيه , والتصميم الحركي لمناضل عنتر , والإضاءة للفنان إبراهيم الفو , والموسيقى لمحمد حمدي رءوف , والأزياء لمروة عودة .
د . وفاء كمالو