الناقدة رنا عبد القوي تكتب: رائحة الحرب أم رائحة الموت ؟.. تلك هي أزمة العرض العراقي

المسرح نيوز ـ القاهرة| رنا عبد القوي*

*باحثة وناقدة مصرية

ـ

 

الناقدة المصرية رنا عبد القوي
الناقدة المصرية رنا عبد القوي

 

الحرب علي الفكر، علي الابداع، علي المختلف، و المُغاير.. الحرب علي الانسانية، علي التصميم علي الحياة والرغبة في التمتع بالبقاء .. الحرب علي الحرية .. جميعها حروب .

 

حروب هي كل ما أصبح يحيط بالانسان .. وفي هذا المفهوم العميق واللا محدود للمعاناة الانسانية في زماننا الحالي يغوص العرض الفلسطيني المنبع عن رواية (التبس الأمر علي اللقلق) للكاتب الفلسطيني (أكرم مسلم ) التونسي العراقي من حيث التأليف المسرحي حيث اشترك في كتابته الكاتب التونسي (يوسف البحري) والكاتب العراقي (مثال غازي)، والعراقي الانتاج (الفرقة الوطنية للتمثيل) دائرة السينما والمسرح بوزارة الثقافة العراقية، والاخراج لعماد محمد .

 

هذا العرض و معاناته في رحلة مجيئه من العراق الي مصر واصراره علي تحدي الصعاب والعراقيل للمشاركة بالدورة الاحتفالية باليوبيل الفضي لمهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي، نتيجة طبيعية لعدم فهم و وعي الحكومات بدور الثقافة والفن المسرحي مجتمعياً في الحد من الحرب والدمار الانساني، لا تنفصل عن قضيته وطرحه الفكري والفني . فذاك العالم العربي الذي يعاني ويلات الحروب حتي ساد خرائطه اللون الأحمر من كثرة الدماء الذي نُزف وتشبعت به الاراضي ، لم يكن قادراً علي التفكير في الحياة، و في الثقافة ، و في الفن،  بقدر ما هو مشغول بالتفكير في الحرب والمكاسب والخسائر والحفاظ علي أقل القليل من الاستقرار المزعوم.

 

هذا العالم المؤلف الآن من شيوخٍ منقسمي الميول بين حب الحياة واشتهاء الدمار، و شباباً تائهاً ضائعاً بين معرفة الحقائق والجهل بها، راغباً في العيش، غير مستطيعاً الملاذ به . هذا تحديداً ما اتخذه العرض المسرحي (رائحة حرب) مدخلاً لجميع اشكال الانقسام الفكري داخل المجتمع الواحد والمؤدي للدمار المحقق، وكان أولي خطوات مؤلفي العرض نحو ذلك هو تغيير اسم الرواية بعد مسرحتها من (التبس الأمر علي اللقلق) الي (رائحة حرب)، هذا العنوان الذي يستدعي الي متلقيه جميع صور الخراب والدمار والقتلي والدماء والقنابل التي باتت رائحتهم منتشرة في جميع الانحاء .

 

فمن خلال فضاءاً واحداً، يضم ثلاث أفراد مختلفي الاعمار والانتماء الفكري ، يشير العرض الي الوطن الواحد الذي يحيا تحت سماءه شعباً مختلف الاتجاهات الفكرية . (الجد) السلفي الدموي الذي يدعو الي الحرب والقتال والاستشهاد معززاً ما يدعو له بآيات من القرآن الكريم ، فنظرته للاسلام نظرة ذات عدائية مع الاديان الاخري وعدائية مع مفردات الحياة أيضاً ، فهو دائماً ما يجد لما يدعيه بعداً فلسفياً دينياً من شأنه أن يضع لما يقوله في نهايته نقطة نهاية لا تقبل الاستكمال أو الجدال معها، و(الجدة) التي فقدت جميع أبنائها في الحروب التي خاضتها العراق منذ سنوات والي الآن ، ولا تعرف ما الجدوي من الحرب و لا تري أية فائدة منها ، حتي أنها أصيبت بمس من الجنون ، تولول دائماً علي ابنائها،  تصرخ دائماً من الغضب والتساؤل لما كل هذا ، تتحدث عالياً الي الرب راجية منه القدرة علي الصبر ، و ثالثهما الشاب ، وهو (حفيدهما) الذي راح والده ضحية احد الحروب ويؤرقه كونه لا يعرف فداءاً لأي قناعات استشهد أباه، وتضحية لمن؟ كما تنتابه مشاعر بالرفض تجاه الحروب والقلق من المستقبل المجهول ومما ينتظره، فأصبح شأنه شأن الكثير من شباب جيله متأرجحاً بين خيارين، إما البقاء وسط الحروب وإما الهجرة والاغتراب بعيداً عن الوطن .. وهذه الشخصية من شخصيات العرض هي الممثلة لحالة مستقبل الوطن – العراق بالنسبة الي العرض، والوطن العربي بأكمله بالنسبة للمتلقي العربي- فشباب ضائع، تائه، لا يرغب في خوض المعارك الغير مبررة والتي انهكته مبكراً و لا يملك القدرة علي الحياة بعيداً عن رائحة الحرب .

 

فطيلة الوقت الدراما المسرحية محكومة بالصراع بين ثلاث قوي، القوي الأولي هي قوي الرفض للحرب الممثلة في الجدة ، هذا كونها المرأة رمز الخصوبة واستمرار الحياة والتي فقدت برهان خصوبتها الحي وامدادها للحياة بموت جميع أبنائها، فكأنها عاقراً لم تنجب أبدا، وهي هنا .. و وفقاً لثقافة الشعوب العربية فهي ترمز للأرض، والوطن، والعِرض، الذي ما إن نالت يد مغتصب منها فكأنما نال من عرض الشعب و نخوته ، بجانب ان تلك المرأة ذات المس ذات الشعر الأبيض الأشعث ، تلعن دائما الحرب التي تجعل الرجال يشعرون برجولة زائفة، يناضلون نضال زائف من أجل مفاهيم مغلوطة وأمم وفقاً لوصفها (أمم نائمة في العسل) ، طارحة تساؤل هام (هل الموت هو من يدافع عن الامة ؟ ومن يدافع عن الحياة إذا؟) .. والقوي الثانية هي قوي الحرب والدمار الممثلة في الجد السلفي الذي لا يجد في حياة الانسان أعظم من الاستشهاد، ويري أن هؤلاء الشهداء رجال مجاهدون لابد ان يفخر بهم الوطن، مستنداً علي ذلك بآيات من القرآن تَعِد قتلي الحرب بالشهادة والجنة، والحياة والرزق الابدي في عالم آخر أفضل (لهم جنات عرضها السموات والارض)، (ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون)، كما يري ان الموت آت لا محالة فمن يقف علي المقابر اليوم، غداً هو بداخلها، والموت حق علي كل انسان، فينطق بالعبارة الايمانية القائلة ( السلام عليكم دار قوم مومنين انتم السابقون ونحن اللاحقون) .. و ثالثهما قوي هي في الواقع مسلوبة القوي تماماً، وهو ذلك الشاب الذي يقف بينهما طيلة الوقت، يظل سائراً ذهاباً واياباً، يميناً ويساراً بين الجد والجدة، بين افكارهما التي يتبنياها، و حججهما، وأسانيدهما، حيث يجلس كل منهما علي طرفٍ بعيدٍ عن الآخر، يحاول اقناع الشاب بصحة أفكاره .

 

ولابراز حالة الترصد و الاحتقان، فعلي مستوي الحوار، تبني مؤلفا العرض المسرحي الحوار  المتراشق حيناً بين الجد والجدة لإثبات الصراع القائم بين فئات هي في الواقع أُختلقت جديدة بين الشعب العراقي حتي وصلت لفئات متقاسمة بداخل أفراد الأسرة الواحدة، والحوار التهكمي حيناً آخر لاعمال عقل المتلقي بدلاً من اغراقه في التأثر بالحالة الميلودرامية .

 

وعلي مستوي الصورة، (الديكور، والمادة الفيلمية، والمؤثرات البصرية، والاضاءة)، ابتكر صانعوها عباس قاسم، محمد رحيم، هشام كاظم،محمد النقاش، علي اكرم، طُرقاً جديدة وصلت للساحرية في صياغة فضاءاً مسرحي يعبر عن تأزم الأحداث والشخصيات بشكل يضيف الي العرض معناً آخر لم ينطق به في الحوار علي لسان الشخصيات الدرامية، وهذا من خلال تقنيات مسرحية حديثة ومتطورة تطوراً يليق بمنتج عراقي صانعوه عقول منفتحة علي العالم مواكبة للتطور التقني، فيبدأ العرض بفتح ستاراً ضوئياً ثم فتح أسواراً حديدية ضوئية، هي تشير الي ذلك السجن الفكري أكثر منه مكاني الذي يعيش بداخله هذه الشخصيات، وفي خلفية المشهد مجسد ضوئي لثلاث منافذ تجلس كل شخصية أمام واحدة منها، تشير الي اتجاه فكري يتبناه كل منهم، ويستمر العرض بصراعاته واحداثه مع تغيير وتبديل الأماكن والفضاءات من خلال الاضاءة والفيديو بروجيكتور والمابينج واستغلالهم بحيث يعبرون عن كل لحظة درامية في الحوار المسرحي بتجسيد المناخ الخاص بها بصرياً .

 

العرض المسرحي (رائحة حرب) يستحق دراسة اعمق وأشمل، لا يتسع لها مقالاً نقدياً، فهو يحتاج الي دائرة نقاشية يتم تناول افكار وتقنيات العرض فيها بالتحليل والتفسير، وربما حالتنا كوطن عربي هي أيضاً ما تحتاج الي دوائر نقاشية كثيرة لتحليل وتفسير ما وصل اليه حالنا من انقسام فكري نال حتي من أصغر الخلايا الاجتماعية فينا وهي الأسرة .

 

نشرة التجريبي 2018

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock