الناقدة رنا عبد القوي تكتب: هل من مسيح جديد يحمل آلام البشر ؟ تلك هي المسألة التي يطرحها العرض الأردني “هاملت بعد حين”!

المسرح نيوز ـ القاهرة ـ رنا عبد القوي| مقالات ودراسات

ـ

ونحن بصدد العرض المسرحي الأردني (هاملت بعد حين)، إعداد واخراج زيد خليل مصطفي عن نص الكاتب ممدوح عدوان (هاملت يستيقظ متأخراً) والمأخوذ عن النص العالمي (هاملت) للكاتب الانجليزي شكسبير، ربما أول دلالة نواجهها في العرض هو اسمه (هاملت بعد حين)، وخاصة بعد معرفتنا بالاسم الأصلي للنص وهو (هاملت يستيقظ متأخراً)،

 

فما بين (الاستيقاظ متأخراً) و (بعد حين) تتغير الدلالات، فالأول يشير الي حالة الغفوة التي كانت تسيطر علي هاملت الابن الذي قُتل أباه بيد أمه وعمه ولم يتشكك في شئ، إلي أن ظهر له شبح الأب وأخبره بالخيانة وظل متردداً، حتي استطاع الانتقام منهم بكشفهم أمام مَن في القصر مِن خلال المسرحية التي تجسد خيانتهم . أما الثاني فيشير الي تغيُر ما – غير معلوم أو مُحدد المدي – قد طرأ علي هذا الـ(هاملت)، مما تطلب منه السلوك بطريقة مغايرة ومفاجئة، ليست متوقعة منه، بجانب ان (بعد حين) هي جملة توحي بتعدد المتشابهون مع هاملت أو المتسِمون بـ(الهامليتية) ولكن قضاياهم قد تكون مختلفة وأزماتهم قد تُحل بشكل آخر .

 

ومن هنا يكون مدخلنا الي قراءة العرض المسرحي، الذي اتخذ ومنذ اللحظة الدرامية الاولي تكنيك المسرح داخل مسرح منهجاً له طيلة الوقت في تفكيك النص الشكسبيري، و تحويلة الي مجموعة نصوص متداخلة ومتناصة لتعميم الأطروحة الفكرية التي يرنو لها مخرج العمل، فحكايات (شهر زاد لشهر يار) في ألف ليلة وليلة، و الاحالة الي حادثة الغدر الانساني الشهيرة بين الاخوين (قابيل وهابيل)، وتشبيه العم بقابيل والملك هاملت المقتول بهابيل، و الاشارة الي السيد عيسي المسيح، وكونه تحمل خطايا البشر وعُذب بدلاً منهم، وياهوذا الذي وشي به مع الحوارييون علي طاولة العشاء المزيف و الاخير . والمحاولة الدائمة من خلال تكنيك الفوتو مونتاج لتلاقي جميع هذه القصص المختلفة – الحقيقي منها والاسطوري – في نقاط إلتقاء انسانية عامة وأشمل ما هو إلا لاتخاذ مفهوم الغدر كإطار درامي للاحداث أعمق دلالة من حكاية هاملت الشهيرة، بشكل يسمح لها بالامتداد خارج الزمان والمكان، و تماسها مع جميع احداث عصرنا الحالي .. فهاملت بطل الاحداث هو شاب هذا العصر، المخدوع، المصدوم، الذي يتلقي طعناته من أقرب الناس إليه، و مع ذلك يتلقاها بصدر رحب، إيماناً بفكرة الخلود، التي حظي بها السيد المسيح .

 

و اللجوء لفكرة الراويتان، و وجودهما علي خشبة المسرح طيلة الوقت كشهود علي الاحداث، أو لسرد الاحداث الماضية، و ربما للتمهيد للاحداث القادمة، وللتعقيب عليها، سواء بالتهكم أو بالاداء الميلودرامي المتفاعل والذي يتبني موقفاً محدداً، ممسكين مكانس تقليدية بأيديهم يرقصون بها حيناً، أو ممسكين بشموع حزناً وحداداً أثناء تعليقهم علي خيانة جرترود للملك هاملت الأب، أو عازفين بآلة الكمان كخلفية موسيقية لاحداث ما .. هذا ارتكازاً علي فكرة الفرجة المسرحية الواعية والغير مندمجة مع الاحداث، فتقاطعهما للاحداث و محاولتهم للربط بين اللحظات الدرامية بتعليقاتهم طيلة العرض، مُحققة لفكرة الطرف الثاني في العلاقة الفنية، و حضور المستقبل أمام المرسل، للتعارض معه حيناً أو لالتماس الاعذار له حيناً آخر، و من المؤكد أن وجودهم معززاً رئيسي للدياليكتيكية القائم عليها الفعل المسرحي .

 

والعرض يؤسس لمفهوم البناء الاجتماعي الهرمي بصرياً من خلال السينوغرافيا (حركة ممثلين، و مساحات أماكن تمثيلهم، والاضاءة الخاصة بهم أيضاً)، فخشبة المسرح مقسمة مستويات علي ارتفاعات مختلفة ، يقف عازف آلة الكمان مُفتتح العرض علي برتكابل عالياً، وكأنه مايسترو العرض  ومحفز لسريان الأحداث، كما يظهر الملك الخائن العم طيلة العرض عالياً في منتصف أعلي المنصة، إشارة الي سيطرته وهيمنته علي الاحداث الدارمية، ومكانته الحالية كملكاً علي الدنمارك، بينما يتحرك هاملت وأوفيليا علي جانبي أسفل منصة الأداء وبالمنتصف في لحظات إلتقائهم كحبيبان، وتتحدد مساحة الملكة الأم دايماً إما علي أقصي يمين أو علي أقصي يسار المنصة، لتُتَرجم وجودها في ظل زوجها الملك الخائن وشعورها الدائم بالندم . وعلي مستوي الاضاءة ، فالمخرج اعتمد علي تعتيم خشبة المسرح إلا من بؤر الاضاءة الخاصة بكل شخصية، فلا يوجد لحظة استخدم بها  (Full Light) علي مساحة التمثيل، فلكل شخصية الاضاءة الخاصة بها وشكلها الهندسي – إذا صح القول –  الخاص أيضاً، والذي يحدد مكانة الشخصية في قلب الاحداث، فعلي سبيل المثال الملك العم دائماً يظهر تحت اضاءة علي هيئة (مثلث)، أو (هرم)، مشيراً المخرج بذلك الي هيمنة الملك علي الهرم الاجتماعي، و وجوده علي رأس ذلك الهرم، وبجانب وجوده بمساحة أداء عُليا، فهو المتحكم الاول في كل ما يحدث. كما أن هذا التسليط المباشر أكد علي معني الانفصال والانقسام بين شخصيات العرض، وعلي ان كل منهم في وادي.

 

وعلي مستوي العناصر السمعية بالعرض، فمن جانب اللغة، فقد اعتمد المخرج اللهجة الشامية/ الأردنية، وقد يكون هذا للتأكيد علي عمومية القضية وانسانيتها، وتجريدها من القالب التاريخي والمكاني للاحداث، وأما من جانب الغناء و الموسيقي الحية، فقد استخدم المخرج (آلات ايقاع، وآلات وترية، وآلات نفخ) كعنصراً أساسياً في صياغة معاني العرض، فآلة الكمان(الفيولينة)، و البيانو، و الصاجات التي نسمعها أثناء رقص الراويتان والأم علي اغنية تتهكم علي موت الملك الأب، جميعهم يبنون معاً المعني العام للعرض، كما أن للغناء طيلة العرض دوراً هاماً واساسياً للاعتراف بما لم يُنطق به في الحوار علي ألسنة الشخصيات .

 

أما عن تنكنيك الاأداء التمثيلي الخاص ب(هاملت) الابن ، والآلية التي استخدمها المخرج والممثل للتعبير عن اغتراب هذا الشاب المصدوم عن مجتمعه ، فقد كانت آلية خاصة ومختلفة حقاً، وهي تغييب هاملت عن الوعي للحظات والعودة اليه بشهيق وكأنه العودة للواقع من جديد .

 

وبينما ينتهي العرض بمشهد محاكمة هاملت، واتهامه (بالاساءة الي الاسرة الحاكمة، والتشهير بعمه الملك من خلال اعمال فنية، وبالتغرير بفتاة قاصر، وبالانحلال الخلقي المتمثل بالسكر وعلاقات نسائية، واشاعة الاوهام المضللة للجماهير حول ظهور الاشباح والاطياف، وبممارسة المسرح الذي أدي إلي عرقلة النمو الاقتصادي بالبلاد) فهي اتهامات تعبر عن مجموع الاتهامات التي يتم الضغط بها علي شاب هذا العصر الذي يتطلع الي العدل وحدة ولا يساعده أحداً في ذلك.

 

لذا أتي مونولوج هاملت في أخر العرض، وبعد المحاكمة، وكأنه الرحيل أو القصاص منه بعد المحاكمة، مونولوجاً يترجم حالة تحمل حالة الصلب وتحمل التعذيب بدلا عن تعذيب الاخرين، متباهياً بما حصده من مجد نظير هذا النبل، قائلاً (ها أنا اعلو علي الاحياء حياً بعد موتي .. وكل ظل بعد موتي كاذباً ) و هنا اشارة واضحة للسيد المسيح عيسي ، خاصة بإبرازها برفع الممثل المؤدي هاملت مُعلقاً في أعلي خشبة المسرح مجسداً الايقونة الشهير لهيئة صلب المسيح .

ـــــــــــــ

نشرة التجريبي 2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock