مقالات ودراسات

الناقدة نور الهدى عبد المنعم تكنب: “الحفلة التنكرية”.. نص كلاسيكي وإسقاطات سياسية آنية


المسرح نيوز ـ القاهرة | نور الهدى عبد المنعم*

ناقدة وكاتبة مصرية

ـ

 

من المؤكد أن المخرج هشام جمعة كان يدرك جيدًا حجم المخاطرة أو المجازفة حين اختار نص “الحفلة التنكرية” لألبرتو مورافيا وترجمة سعد أردش لإخراجه وتقديمه بمعالجة حديثة وإسقاطها على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن، فكانت بمثابة المقامرة في كل التفاصيل، فالنصوص الكلاسيكية يغلب عليها الجدية وتقدم باللغة الفصيحة، مما قد يجعل المتفرج العادي يمل منها ولا يتفاعل معها، لكنه استطاع بحرفية أن يُشرك الجمهور في الأحداث التي تدور على خشبة المسرح من خلال تناول قضاياه ومعاناته اليومية، من خلال بعض الاسقاطات، فذكر الوضع الاقتصادي وارتفاع الأسعار والضرائب، كما جسد بوضوح فساد الحكومة وتضليلها للحاكم والعمل من أجل الحفاظ على المناصب لا من أجل الوطن والمواطن، واستخدام الكوميديا في تناول هذه القضايا بإضافة بعض الجمل الحوارية التي جاءت على لسان أبطال العرض، خارج سياق النص ولا استطيع الجزم بأن هذه الجمل مكتوبة في إعداد المخرج أم لا، لكن الأهم أنها لم تخرج عن السياق العام للأحداث ولم يكن بها كلمة واحدة غير لائقة، وعلى ذكر الكوميديا فقد كان آداء الفنان محمد رياض الذي جسد شخصية الجنرال تريزو مفاجأة كبيرة لم أكن أتوقعها، خاصة حين قام بتقليد السادات ومبارك والقذافي، فقد عُرف في كل أدواره السابقة أنه يجسد الشخصية الجادة الرصينة، خاصة في الأعمال الدرامية التاريخية مثل “ابن حزم الأندلسي”، “الإمام الغزالي”، “عصر الأئمة”، وكذلك أدواره في الأعمال الدرامية الاجتماعية مثل “العائلة”، “إمرأة من زمن الحب”، “أميرة في عابدين”، “رد قلبي”، “لن أعيش في جلباب أبي”، ورغم هذه الكوميديا التي أطل بها علينا إلا أنها لم تفقده قوة أداءه وبراعته في إتقان اللغة العربية وحرصه على مخارق الألفاظ ووضوحها ووصول صوته إلى آخر متفرج في الصالة، فقد ظهر محمد رياض على خشبة المسرح وكأنه قد جاء من عهد سابق، يحسب له أيضًا أنه لم يخطأ مطلقًا بتحريك ذراعه الأيسر حيث من المفترض أن هذه الشخصية بذراع واحد.

كما يحسب للمخرج أيضًا اختياره لأبطال العمل، وكذلك توزيع مساحات الأدوار بينهم فلم أشعر بالبطولة المفردة ولكنهم جميعًا أبطال العمل، الفنانة لقاء سويدان تقوم بتجسيد شخصية امرأة تدعى “فاوستا” وهي من النبلاء التي تمتلك أموالا كثيرة، وتفتقر إلى المبادئ وهي شخصية لها أبعاد نفسية عميقة ومكتوبة بعناية شديدة، ورغم ذلك تبدو في العرض هي ذاتها الطفلة التي غنت “البنات البنات” بالرشاقة واللياقة نفسها، فقد مثلت وغنت ورقصت، وكذلك الفنان محمد محمود الذي تنوع آداءه بين الجد والهزل والصرامة والسخرية، أيضًا الفنان خالد محمود الذي أطل علينا من زاوية جديدة بتجسيد شخصية مختلفة تجمع بين الحماس والثورية وحب الوطن والاستعداد للتضحية من أجله، وبين الحب الذي يكنه ل “الماركيزه فاوستا سانشيز”

كل الفنانون بلا استثناء أجادوا في تجسيد أدوارهم: جيهان سلامة، جميل عزيز، بلال مجدى، هشام عصمت، مصطفى جابر، أشرف عبدالفضيل، وليد أبو ستيت، محمد سعيد، صلاح المصري، همام عبد المطلب، أحمد يوسف، محمد سمير، نجاح حسن.

ورغم هذه المجازفة فقد نجح المخرج في تقديم سبيكة فنية متنوعة ذكرنا منها المزج بين القصة الكلاسيكية والواقع المعاش والآداء الرصين والكوميديا، كذلك استعان ببعض العبارات باللغة العامية بجانب الفصحى، أما الديكور الذي صممه الفنان محمد هاشم فهو ينتمي كليةً للمدرسة الكلاسيكية، وتميز بالتنوع بين الألوان الهادئة كما في بهو القصر، والألوان الساخنة كما في حجرة الجنرال التي تعكس شخصيته الحادة، وكذلك الملابس التي صممتها الفنانة مها عبدالرحمن وقد تميزت بالثراء والفخامة، والأغانى للشاعر فرغلى مهران، والرؤية موسيقية لوليد الشهاوىأما الاستعراضات التي صممها الفنان فاروق جعفر فقد تنوعت بين الرقصات الكلاسيكية داخل أحداث العرض والرقصات الحديثة التي قدم وأختتم العرض بها، وكعادته دائما أمتعنا الفنان إبراهيم الفرن بتصميم إضاءة موظفة بعبقرية مع المشاهد الدرامية فتنوعت الهدوء والسكون كما في مشهد كتابة الجنرال لمذكراته والصغب والسخونة كما في مشهد إطلاق النار على الثوري.

وقد استعان أيضًا في بعض المواقف بكسر الإيهام البريخيتي، ومن أبرز هذه المواقف حين نادى قائد الشرطة “محمد محمود” على الديكور ليأتي بالمكتب للجنرال بدلاً من أن يذهب إليه.

“الحفلة التنكرية” كتبها مورافيا كرواية عام 1941 وكعمل مسرحى عام 1958، تدور أحداثها فى دولة متخيلة قصد بها مورافيا توجيه النقد والسخرية للحكم الفاشى أو للديكتاتوريات التى أسست فى أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى سواء الفاشية فى إيطاليا أوالنازية فى ألمانيا، كتب مورافيا أحداث روايته أو مسرحيته فى يوم يستعد فيه القصر لتنظيم حفلة تنكرية احتفالا بالجسر الذى سيفتتحه جنرال البلاد تيريزو أرانجو وهو رجل عنيف دموى محب للحرب يهابه الجميع ويخضع الشعب لحكمه بالقوة والكراهية لا مجال للاعتراض عليه أو معارضة أوامره وأفكاره، يقع هذا الرجل فى حب الماركيزه فاوستا سانشيز التى تتلاعب بمشاعره كى تحصل منه على حكم لإخراج أخيها المعتقل، وفى نفس التوقيت يحاول تشينكو قائد البوليس إقناعه بأن هناك مؤامرة تدبر ضده داخل القصر، ويدبر تشينكو مؤامرة وهمية من خلال الخدم الثائرين على الجنرال والراغبين فى التخلص منه، كى يظل محتفاظا بمنصبه وحتى يؤكد له أنه هو الوحيد القادر على حمايته من المتآمرين والحاقدين، وينتهى العرض بمقتل الماركيزه غدرا على يد أحد الخدم ليتحول الحفل فى نهايته إلى قداس جنائزى على روح فاوستا سانشيز.

 

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock