مقالات ودراسات

الناقد أحمد خميس يكتب: نساء بلا غد.. فن صناعة الوجع!


 

المسرح نيوز ـ القاهرة |أحمد خميس*

ـ

*ناقد مسرحي مصري

هناك عروض مسرحية تمرر للمتلق الصدق الداخلي لطبيعة القضايا والاحداث المتناولة داخل نسيج اللعبة الدراميةوهي مسالة لا تكتسب عبر التجويد أو التدريب اليومي لمجموعة اللاعبين وإنما من خلال إيمان اللاعبين بالقضية التي يقدمونها وبأهميتها ومن ثم تبقي هذة العروض في قلب المتلق ولا تبرحه وقد يتذكر تفاصيلها بعد عدد كبير من السنين , وعروض أخري تحاول هذة الخاصية ولكنها تقف عند حدود مهارة المؤدي وقدرته علي ضبط تفاصيل فنون الاداء والانصهار مع بقية عناصر العرض وهذة تتعلق بجودة الصناعة بشكل ميكانيكي , وفي هذة العروض تبقي هناك دائما مسافة بين المتلق والعرض المسرحي إذ يخرج منها دون أن تترك أثر حقيقي .

فمهما كانت هي في النهاية (عروض جيدة الصنع) من هذة العروض قدمت لنا المخرجة نور نواف غانم مسرحية جواد الاسدي (نساء بلا غد) وبداية أقول لكم إنني إستمتعت بفنون أداء مجموعة الممثلات (سماء إبراهيم , بسمة ماهر , نهال الرملي) حبث حاولت كل منهم تقديم كل ما لديها كي تقنع المتلق بمأساتها الخاصة وموضوعها المغاير لكن اللعبة الدرامية منذ البداية تهتم بقالب التكوين الدائري (نهاية تشبة البداية تقريبا) أكثر من إهتمامها بقضايا حقيقية من لحم ودم , فنص العرض كما شاهدته لا يقدم لك معاناة حقيقية ذات تاريخ راسخ وإنما إطار للمعاناة وتشكيل مغزول علي عجل للفروق بين تلك الحيوات التي تطلب اللجوء لدولة أجنبية تتعامل مع منهم كرقم ليس إلا , وقد يكون ذلك التكوين الذي يرسم المعاناة من الخارج هو ما دعا المخرجة لبناء إطار موازي بدأت من خلاله عرضها المسرحي فالبداية كانت من خلال الشاشة السينمائية الموضوعة في بانوراما مركز الإبداع والتي عرضت علينا من خلال تقنية المونتاج مجموعة لقطات بدت وكأنها تدريب تمثيلي يستعرض رد فعل المؤدي في اللحظات المختلفة ,

إحداهم ممثلة (فاطمة) تحلم بجوليت وجلجامش وترتبط بتاريخ تمثيلي طويل في دمشق والأخري (مريم)متدينة أو تدعي التدين الظاهري الأمر الذي يسمح لها بتكوين علاقة ما مع رجل من الدولة التي تطلب اللجوء إليها وفي لحظات بعينها نجدها تنفي هذة العلاقة وتؤكد إنها لم تكن , والثالثة (اديل) متحررة إلي حد كبير ولا يعنيها المجتمع أو مفاهيمه بأي حال من الأحوال , فقط هي فتاة تحاول الحياة بشكل مختلف , ويبدأ الحدث وكأن كل منهن تقف أمام المحقق وتمليه رقمها وفكرة كيفية وصولها للبلد , ومع فروق الشخصيات يتضح البناء شيئا فشيئا , ومع تطور الحدث تتضح العلاقات المتوترة والمعانة الظاهرية التي تستجدي بحكايات الإغتصاب والقهر والموت والتضحية , كما تسمي كل منهن المدينة التي جائت منها وكيف أنها تمر بمعاناة حقيقية مؤلمة , ومن خلال تكوين المخرجة للمشاهد يظهر شغفها بدور التقطيع السينمائي في فلسفة التناول الداخلي فتبدو وكأنها تقول في اللعبة الداخلية المعاناة واحدة وإن إختلفت الحكايات وحتما ستكمل كل حكاية الموضوعات المماثلة لينتهي بنا الحال عند المحقق فتذكر كل واحدة منهن رقمها في ملف اللجوء

في رأيي ان المكون الدرامي إهتم أكثر بالصناعة ولم يتكئ علي حكاية واحدة فيشبعها من الداخل من حيث التفاصيل والأهمية فالمؤلف (جواد الأسدي) معروف كمخرج له باع طويل في العمل المسرحي ولكنه كمؤلف تظهر الصناعة أكثر في أعماله وكنا قد شاهدنا له من قبل مسرحية بأسم (مندلي) لفرقة مسرحية من الإمارات ضمن المهرجان التجريبي قبل توقفه وكانت مسرحية مأخوذة عن فويتسك ل (جورج بوشنر) الكاتب الألماني الشهير

علي مستوي الشكل كان المنظر المسرحي رغم زخمه فقيرا وليس فية أي تفاصيل جمالية ملفتة في المنتصف تم وضع منضدة يمكن أن تستخدم كمنصة لعرض مونولوجات الممثلة وعلي يسار المتلق كومت بعض الأغراض خلفها سرير وحيد ومجموعة كتب تخص الممثلة المثقفة والتي لعبت دورها السكندرية المعروفة (سما إبراهيم) والتي تبدو في هذا العرض مكتسبة لخبرة لا بأس بها حيث التنويع في ردود الفعل والحضور الحركي اللافت والإهتمام الفائق بالمشهد التمثيلي المأخوذ عن ملحمة جلجامش , وكذلك التناغم في تقديم المشاهد المتداخلة والتي إتكئت فيها المخرجة علي بيان تنوع المأساة وتشظيها بين الحيوات المختلفة لمجموعة البنات اللاتي يطلبن اللجوء من بلد تكرة وجودهم , وعلي نفس الطريق بدت كل من بسمة ماهر ونهال الرملي في حالة أدائية مميزة من خلال خلق تفاصيل حياتية تحاول التأصيل للإختلاف بين الحيوات وطرق التعامل مع الموقف الجامد

تبدا اللعبة هنا بالمنطق الذي يتصالح مع مركز الإبداع في تقديم العروض المسرحية حيث كل تفاصيل اللعبة معدة لخوض تجربة جديدة (شماعة ملابس – فستان – كتب – منضدة للعب الدرامي سرير – أغراض متناثرة)وحتي كشافات الإضاءة الموجهة في مقابل بعضها البعض تلعب بنفس منطق الكشف الجمالي الذي يرسم الموضوع بعناية قبل أن يدخل في تعرية الموقف الساكن , أما لحظات البوح فيمكن تسليط إضاءة عازلة للشخصية الدرامية تضع كل واحدة من الممثلات في بؤرتها الخاصة التي تمرر فكرة الحكي الداخلي

وتمتاز المخرجة في هذا العرض بكونها تمتلك الصناعة وتعرف كيف تدخل الجيم بالمنطق الذي يظهر قدراتها الطيبة في صناعة عرض مسرحي جيد الصنع , وحتي في إختياراتها للممثلات بدت واعية تماما تعرف الفروق بين الوداعة واللعب والحرية فتمرر للمتلق إشارات لا يمكن الإختلاف عليها في الفروق الشكلية والأدائية

إستمتعت بالجيم التمثيلي الذي يدخل المراهنة من خلال زاوية الأداء الطيب ولكنني فهمت أن الصناعة بدت لها الغلبة علي التكوين رغم القضية المهمة الموجودة خلف الأحداث المعروضة

نساء بلا غد بدا العنوان بشكل أو بأخر وكأنه يشير علي أبدية العلاقة بين دول ترفض اللجوء ونساء يقفن علي الحدود يتوسلن بحكايات مكررة عن الألم والقهر والإغتصاب , خكايات مكررة وردود أفعال باردة لاتبغي الحل

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock