الناقد أحمد عبد الرازق أبو العلا يكتب: المسرح المصري بين حربيَّ يونيو 67 وأكتوبر 73

المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

 

أحمد عبد الرازق

كلما جاءت ذكرى انتصارات حرب أكتوبر عام 1973 كلما تساءلنا : هل استطاع الإبداع بأشكاله المتعددة ، التعبير عن هذا المتغير الكبير ؟
وأود قبل الإجابة عن هذا السؤال ، أن أتحدث قليلا– بما يفيدنا هنا – عن دوافع الإبداع ، بعيدا عن نظريات علم النفس التي تحدثت عنه ، مؤكدا على أن موقف الكاتب يُعد عاملا أساسيا في إبداعه ، لأن الفن – بشكل عام – جزء من التطور الثقافي المستمر في المجتمع ، فضلا عن أن الكاتب يستمد من تراثه ، وواقعه الذي يعيش فيه ، الموضوعات والمفاهيم التي يتعامل بها مع المجتمع ، ولذلك فإن الانفعال ، لا يساعده على الإبداع ، بقدر ما يجعل تجربته خاليه من روح الإبداع الملهمة ، تلك التي تجعله نابضا بالحياة ، وصادقا .
والسؤال : هل غاب الانفعال عن الكتابات المسرحية والأعمال السينمائية والإبداعات الأدبية التي عبرت عن انتصار أكتوبر ، أو حرب أكتوبر بمعناها الشامل ؟!
في محاولة للإجابة عن هذا السؤال : أقول : إن السينما – بوصفها الفن الذي يعتمد علي الصورة ، وبالتالي يمكن الاستفادة عن طريقها بكل التسجيلات التي تمت لعملية العبور ، وإسقاط خط بارليف – قدمت عددا محدودا من الأفلام ، لم يتجاوز -عددها – عشرة أفلام ، أو تزيد قليلا ، ومعظمها جاء انفعاليا ، ومباشرا ، وبعضها جاء تسجيليا ومنها (العمر لحظة( 1973 )الرصاصة لا تزال في جيبي (1874- )أبناء الصمت( 1974 – ) الوفاء العظيم( 1974 – بدور 1974- الطريق إلي إيلات 1993- حكايات الغريب 1993 – حائط البطولات 1999 – الممر 2021 )
وفي مجال الرواية والقصة القصيرة صدرت بعض الأعمال لكل من ( جمال الغيطاني – يوسف القعيد – سعيد سالم – محمد الراوى – عبد الفتاح رزق- قاسم مسعد عليوة – إبراهيم عبد المجيد – أحمد ماضي – صلاح عبد السيد – سيد نجم ) وربما كان الشعر هو أكثر الأنواع التي عبرت عن الانتصار فور العبور ، لطبيعته الانفعالية ، والوجدانية ، أما في مجال المسرح – وهذا ما يعنيننا هنا – فقد كان الأمر مختلفا ، تماما لأنه ( برغم ما كان لحرب يونيه 1967 نتائج مروعة منها احتلال أجزاء من الأرض العربية في سيناء والجولان ، فضلا عن توقف حركة الملاحة في قناة السويس ، وبرغم ما كان لحرب أكتوبر نتائج مبهجة كُللت بالانتصار وبعبور القناة ، وسقوط خط بارليف المنيع ، إلا أنه في الحالتين لم تنعكس قضايا الحربين في نصوص المسرح المصري )
والسؤال : لماذا؟
هناك مجموعة من الأسباب يمكن إجمالها في التالي أولا : ضرورة مرور فترة طويلة على الأحداث ، تساعد الكاتب على معالجتها فنيا ، بعيدا عن المباشرة والخطابية ، والانفعال . وثانيا : هناك من النقاد من ذكر أن السبب يرجع ( إلى أن كتابنا لم يكتووا مباشرة بنيران الحرب ، ومن كتب منهم جاءت كتابته مباشرة وانفعالية ) والسبب الثالث : أن الانفعال يولد أعمالا لا قيمة لها ، أما التأمل فهو الوسيلة الناجعة لتقديم إبداع حقيقي ، يبقي مع مرور الأيام ولا تذهب قيمته . والسبب الرابع : يعود إلى المتغيرات السريعة المتلاحقة التي لم تهدأ ، حتى يستطيع الكاتب متابعتها ، وفهمها واستيعابها ، ومنها (حرب الاستنزاف ) بعد الهزيمة ، وحتى اتخاذ القرار بحرب التحرير في أكتوبر 1973 . ثم المتغيرات التي جاءت عقب الانتصار ، وأولها : انتهاج سياسة (الانفتاح الاقتصادي) عام 1974 أي بعد الحرب بعام واحد ، وجاء هذا المتغير ، تمهيدا لمتغير أكبر وهو (اتفاقية كامب ديفيد) عام 1978 وبعدها بعام واحد عقدت ( اتفاقية السلام مع إسرائيل) في 26 مارس 1979 ، وقبل التاريخين قام السادات (بزيارة القدس) في عام 1977 ( 19 نوفمبر) كل هذا حدث بعد انتهاء الحرب بأربعة أعوام فقط ، فكيف يستطيع الكُتاب التعبير عن حرب أكتوبر في ظل تلك المتغيرات الكبيرة المتلاحقة ؟ تلك التي ترتبت عليها نتائج كثيرة ، تركت تأثيرا على (الواقع) الاجتماعي ، والاقتصادي ، والسياسي ، وهو المرجعية التي تنطلق منها الرؤى الفنية ، والمواقف الفكرية ؟!
وفي ظل تلك المتغيرات ، وجدنا إبداعات متميزة تحدثت عنها ، بعيدا عن قضية الحرب ، وما خلفته من آثار ، فكتب ( نجيب محفوظ) – علي سبيل المثال – روايته ( يوم قتل الزعيم ) عام 1985 ، معالجا فيها الآثار التي خلفتها سياسة (الانفتاح الاقتصادي ) وراصدا العوامل التي أدت إلى سقوط الطبقة المتوسطة ، تحت أقدام الطبقة الطفيلية ، التي أنتجها الانفتاح ، طبقة الانتهازيين ، والمستفيدين والزعيم – السادات– وهو بطل حرب أكتوبر ، لم يستطع أن يحقق علاقة متوازنة بين الطبقيتين ، فقتل – وكان ضحية عدم المقدرة تلك – بأيدي أفراد من أبناء الطبقة المتوسطة ، وسبق اغتياله ، مجموعة أخري من الاغتيالات : اغتيال أحلام الشباب ، واغتيال طموحاتهم وتواجدهم الطبيعي في الحياة ، واغتيال كل القيم النبيلة ، وجاء الربط بين كل هذه الاغتيالات مُتعمدا من ( نجيب محفوظ) ومعظم الضحايا – في الواقع – ممن حضروا (حرب أكتوبر ) ودافعوا عن تراب الوطن ، لكنهم في ظل تلك السياسة ، التي أهدرت حقهم في الحياة ، دفع بعضهم الثمن ، بارتكابه جريمة قتل الانفتاحي الذي حاول الاستيلاء علي الفتاة وإبعادها عن خطيبها ، ليتزوج بها ، وحجته أنه يملك المال ،
أما الشاب فلا يملكه !! هنا فقد حياته تماما . ذلك الموقف الذي عبر عنه ( نجيب محفوظ ) جاء متسقا مع السياق الذي فرضته تلك المرحلة ، أما معظم الكتاب الآخرين ،انشغلوا بأشياء أخرى ميدانية بعيدا عن الإبداع ، وظهرت حركات مناهضة التطبيع ، ومنها ( لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية ) عام 1979 ، عقب اتفاقية السلام ، ودعت تلك اللجنة إلى حماية التراث الوطني الشعبي من تغلغل الإيديولوجيات المُهددة لهويته ، ورفض أشكال التبعية الفكرية والثقافية ، ورفض التطبيع مع إسرائيل على جميع المستويات ، وقد تحقق الرفض بالفعل في المجال الثقافي ، وتحول إلى رفض شعبي، بعيدا عن ممارسات التطبيع التي تقوم بها المؤسسات الأخرى غير مؤسسة الثقافة . في ظل تلك الأجواء ، لم تظهر إبداعات حقيقية ، تعبر عن ذلك الانتصار ، أو تلك الحرب ، وما خلفته من آثار على كل المستويات ، واختلط الحابل بالنابل ، وهنا لن يستطيع الإبداع القيام بدوره ، إلا بعد ترتيب الأوراق .. ولكن كيف يتم ترتيبها، ونتائج تلك المتغيرات ، تطرح نفسها في الواقع بشكل سريع ومتلاحق ؟؟
علي المستوي الفني بدأت المسلسلات التلفزيونية ، تستقطب معظم نجوم المسرح ، ممثلين وكتابا ، مما أثر تأثيرا بالغا على واقع المسرح المصري ، فكيف في ظل هذا يمكن أن ترى عملا يتحدث عن أكتوبر ؟! ومن هنا ذهب معظم الكتاب إلى معالجة موضوعات أخرى لا علاقة لها حتى بالواقع المعيش ، وعلى حد تعبير الناقد ( فارق عبد القادر ) فإن العروض التي قُدمت عقب نصر أكتوبر تقول ( إن ما حدث قبل 73 كان شرا كله ، وكان سوءا كله ، وهكذا يصبح ما حدث في أكتوبر عملا معزولا عن سياقه التاريخي والإنساني ، وأن هذا الذي حدث في أكتوبر ، قد أشار بعصا سحرية فإذا كل فساد قد سقط ، وإذا كل شر قد أزيح ، ولم يتبق لنا إلا أن نجلس نجتر أحلام يقظتنا ، ثم هو يقدم لنا النضال المصري بصورة مثيرة للاستخفاف والزراية ، ويميع أطراف القضية ، فلا نعود نعرف من الذي يحاكم ، ومن يستحق المحاكمة ) صفحة 223 من كتاب ازدهار وسقوط المسرح المصري- كراسات الفكر المعاصر – القاهرة 1979 .
ومن ضمن التحولات التي حدثت – ليس فقط على مستوى الواقع ، ولكن على مستوى الأشخاص – أن كاتبا مثل ( علي سالم ) قام بتأييد اتفاقية السلام ، وكان قبلها قد أيد رحلة السادات إلى إسرائيل ، بل وفعل مثله ، وقام بزيارة إسرائيل ، بعربته الخاصة ، وسجل رحلته في كتاب بعنوان ( رحلة إلى إسرائيل ) عام 1994 وعلي سالم نفسه ، يُعد واحدا من أهم كتاب المسرح المصري .. قدم أعمالا عبرت عن هزيمة يونيه ، وأعمالا أخرى عبرت عن نصر أكتوبر ،وكان من أكثر كتاب المسرح تفاعلا مع الحربين ، وتلك هي المُفارقة ، التي أدت به في النهاية ، إلى التوقف عن كتابة المسرح ، والتفرغ لنشاطه السياسي ، في ظل التطبيع ، الذي رفضه كل الكتاب . وهو الذي كتب بعد هزيمة 67 مسرحية ( أغنية على الممر ) عام 1971 ومسرحية (أنت اللي قتلت الوحش ) عام 1970 وبعد حرب أكتوبر كتب ( عملية نوح ) عام 1974 مؤكدا فيها على حتمية الحرب ، لإنقاذ مصر من الطوفان الذي سيغرقها،وفي النص مزج ما بين الواقع والأسطورة ، مُستخدما قصة سيدنا نوح للخلاص من الطوفان ، مؤكدا – أيضا – في نهايتها على أهمية وضع خُطة مُحكمة بعيدا عن الخيال المُعتمد على سفينة الإنقاذ الأسطورية ، تلك الخطة – كما رأى – تحققت في حرب أكتوبر ، لأن العبور تم بالشعب ، وليس بالصفوة المختارة ، هؤلاء الذين اعتمد عليهم نوح ، ليكونوا ركاب سفينته.
وبعد كتابته لتلك الأعمال المُرتبطة بقضية الحرب ، تنازل عن كل شيء ، ليس فقط سياسيا ، بانتهاجه لسياسة التطبيع ، ولكن – أيضا – بدعم مسرح القطاع الخاص ، بمسرحيته الشهيرة ( مدرسة المشاغبين ) وبعدها مسرحية ( الكلاب وصلت المطار ) وكلها أعمال ، هابطة ، لا ترقي لفن المسرح ، الذي كتب هو نفسه فيه أعمالا جيدة ، قبل مرحلة التحولات التي أشرت إليها .
مراحل مُعالجة القضية مسرحيا :
أعني بالقضية هنا (قضية الحرب) بمفهومها الشامل ، وسأبدؤها بحرب 1967 التي انتهت بالهزيمة ، مرورا بحرب الاستنزاف ، التي انتهت بنصر أكتوبر 1973 خلال تلك السنوات الست ، كان المسرح حاضرا (كماً )- إلي حد ما لكنه ليس مثاليا – وكان متفاوتا (كيفاً) .
مرت المعالجة بثلاث مراحل :
الأولي: مرحلة الهزيمة ( يونيو 67)
والثانية : ( أثناء حرب أكتوبر73 ) و
الثالثة : بعد انتهاء حرب أكتوبر ..
اختلاف القوانين التي حكمت الواقع المصري ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا ، حددت شكل التناول،وطبيعة المعالجة – في تلك المراحل الثلاث- وكشفت التفاوت بين كاتب وآخر ، فيما يتعلق بمسألة الصدق الفني .
خلال الست سنوات التي أعقبت الهزيمة ، قدم كُتاب المسرح عددا من النصوص لا يتساوي مع عددها خلال الست سنوات السابقة عليها ، وقبل أن أشير إلى أبرزها ، أود أن أذكر- قياسا على ذلك – أن جنسا إبداعيا آخر وهو الرواية ، استطاع كتابها التعبير عن ذلك المتغير الخطير ، بالقدر الذي نستطيع معه أن نقول : إن لدينا إبداعا روائيا مُتميزا جاء انعكاسا لهزيمة يونيه ، واستدعي هنا إحصائية قام بها أحد الدارسين الذين اهتموا بهذا الموضوع ، في مجال الرواية ، حدد فيها أن الإنتاج الروائي زاد بسبب هزيمة 67 ففي إحصاء عام وجد أن حصيلة الست سنوات السابقة علي الهزيمة ( سنة 1961-1966) تصل إلى 92 رواية على مستوي الوطن العربي ، بمعدل 15 رواية كل سنة ، وارتفع الرقم بين عام ( 1968-1973) إلى 167 رواية بمعدل 27 رواية كل سنة. (شكري عزيز ماضي– انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية – المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1978). وتلك الأرقام ، تكشف عن أهمية الكتابة في مواجهة الأزمات ، وتؤكد على ضَرُورَتهَا في مقاومة الهزيمة، بالتعبير عن اَلْمَثَالِب ، وصولا إلى نتائج إيجابية تُسهم إسهاما فعليا في تخطى أسبابها، وصولا للنصر المرجو.
الإبداع من هذه الوجهة يُعد أداة من أدوات المقاومة، ويمكن أن تستخدم عَبَّارَة (المقاومة بالإبداع) قياسا على عبارة (المقاومة بالسلاح ) مقاومة الهزيمة كان لها تأثير أكبر من فرحة الانتصار ، لأن الكتابة لاتجيء تعبيرا عن الفرح ، بقدر ما تجيء تعبيرا عن الحزن والآلام . هذا ما حدث مع الرواية ، فكيف كان الحال مع المسرح ؟! المسرح والهزيمة :
كانت النصوص المُعبرة عن الهزيمة قليلة بالقياس إلى عددها قبل الهزيمة – على العكس من الرواية كما ذكرت منذ قليل – والسبب يعود إلى أن كتاب الستينيات ، الذين صنعوا النهضة المسرحية الكبيرة ، شعروا بأنهم صاروا جزءا من أسبابها ، لأنهم آمنوا بأفكار ( جمال عبد الناصر) وبقدرته على اتخاذ القرارات التي تصُب في مصلحة الوطن ، بما في ذلك قرار الحرب ، إلا أنهم صدموا بأن قرار الحرب جاء مُتعجلا ، أو أن الجيش لم يكن مهيئا لها بعد ، أو لأسباب أخري ، لا يعرفونها ، ومن هنا جاءت أعمالهم لتبحث عن الأسباب .. طرحوا مجموعة من الأسئلة ، استغرقتهم فتاهوا ، وتاهت رؤاهم ، وضعفت قدرتهم على مواجهتها بالإبداع المتصل ، من هول الصدمة . بالإضافة إلى أن الرقابة لعبت دورا كبيرا في حجب عدد من المسرحيات، وأوقفت عروضا عالجت نفس الموضوع ، بعد عرضها على خشبة المسرح ،خوفا من غضب الجماهير ، وسخطهم علي سلطة الهزيمة . واتخذ المسرح بعد هزيمة يونيه 67 مظهرين : أولهما : ازدهار المسرح التجاري والثاني : المسرحيات التي أطلق عليها الناقد ( فاروق عبد القادر ) اسم ( مسرحيات السلطة ) ويعني بها تلك المسرحيات التي ساندت النظام ، بدون إدانته ، وبين هذين النوعين ، قُدمت مسرحيات قليلة جادة .
فضلا عن أن المسرح التجاري اعتمد على الاقتباس ، من النصوص الأجنبية ، وقدم عروضا كوميدية مثل ( قصة الحي الغربي ) – ( العيال الطيبين) – (سيدتي الجميلة) – (هاللو دوللي ) – ( مدرسة المشاغبين ) – ( انتهي الدرس) كل تلك العروض الكوميدية قدمت ومصر تعيش في حالة حرب . أما عن مسرح السلطة ، فهو المسرح ( الذي ظهر بعد 67 لمناقشة قضية الهزيمة وعلاقة الشعب بالسلطة أو الزعيم ، وطرح قضايا الواقع الذي فجرته الهزيمة ) مثل أعمال ( علي سالم ) أنت اللي قتلت الوحش 1970 – عفاريت مصر القديمة 1971 – وبلدي يابلدي لرشاد رشدي 1968
أما عن المسرحيات الجادة فهي : وطني عكا لعبد الرحمن الشرقاوي 1967 وكانت أول مسرحية يقدمها المسرح المصري عن المقاومة الفلسطينية ، وفي عام 1971 قدم يوسف إدريس مسرحيته ( الجنس الثالث ) ، والمخططين 1969 ومن المسرحيات الأخرى الجادة التي عالجت موضوع النكسة : العرضحالجي( ميخائيل رومان ) 1968 المسامير(سعد الدين وهبة )1969– (سبع سواقي) سعد الدين وهبة 1972- (النار والزيتون) 1970 للفريد فرج ( وطني عكا 1969) لعبد الرحمن الشرقاوي – ولمحمود دياب مسرحيات ( باب الفتوح) 1971- رجل طيب في ثلاث حكايات وتتضمن ثلاث مسرحيات : الغرباء لا يشربون القهوة- الرجال لهم رؤوس – أضبطوا الساعات 1970)- ( ليلة مصرع جيفارا 1969) لميخائيل رومان . وعلي الرغم من أن كاتبين مسرحيين هما : يسري الجندي ومحمد أبو العلا السلاموني ، لاينتميان لجيل الستينيات ، بالمعني الإجرائي المعروف – لأن أعمالهما عُرضت فوق خشبة المسرح ، في السبعينيات والثمانينيات – إلا أنهما – معا – كتبا نصوصا في الستينيات ، وان لم تر النور إلا بعدها بسنوات كثيرة ، ومنها ما يتعلق بمعالجة موضوع الهزيمة ، فكتب يسري الجندي نصه ( اليهودي التائه) في أواخر عام 1968 وبداية عام 1969 وكتب محمد أبو العلا السلاموني نصه ( رواية النديم عن هوجة الزعيم) عام 1970. ويؤكدان معا – في نصيهما – على فكرة المقاومة( مقاومة الهزيمة )
ومن الجدير بالذكر أنه تم إيقاف بعض العروض المسرحية من قبل الرقابة ، ومنها : العرضحالجي والمسامير..
فضلا عن أن المسرح القومي نفسه ، والذي يُعد رمزا للمسرح المصري ، لجأ إلى إعداد النصوص الأجنبية ، وقدمها بالعامية ، على الرغم من دوره في تقديم الأعمال المترجمة كنصوص كاملة ، حدث هذا مع نصوص : كاليجولا ( البير كامي) – وشم الوردة( تينسي وليمز) – الإسكافية العجيبة(لوركا) . وفي ظل تلك الأجواء نجد كاتبا مثل ( نعمان عاشور ) وهو رائد المسرح الاجتماعي في مصر ، لم يستطع أن يكتب سوي نص واحد عبر فيه عن تلك الهزيمة ، وهو نص ( سر الكون ) الذي لم يكن تأليفا خالصا .
في تلك المسرحية رصد في فصولها واقع البيئة ، موضحا حقائق التطور الاجتماعي في تلك الفترة ،وأعني بها 67 ، وبعد وقوع الهزيمة ، فكر في أن يكون التعبير الدرامي الموضوعي لما سبق النكسة ، وأدى إليها هو امتداد السيطرة الرجعية في شخصية ووضع نادر بك وعائلته ومن حوله ، مصحوبا بظهور القوي الجديدة التي تمثلها الطبقة العمالية التي يمثلها (محمد النمس ) بموقفه ونظرته وتطلعاته ، ولذلك فكر ( نعمان عاشور ) وهو يحاول إعادة صياغتها من جديد – بما يتوافق وحدث الهزيمة – أن يغير عنوانها أيضا ليصبح ( النكسة ) بدلا من ( سر الكون) ، لكنه عدل عن كل هذا ، ولم يقم بالتعديل ، الذي فكر فيه ، واختار أن يكتب مسرحيته ( سر الكون ) واستدعي فيها بعض شخصيات نصوصه السابقة.
وحين نتأمل الرؤى التي قدمها كُتاب الستينيات تعبيرا عن الهزيمة ، نجد نصوصهم عكست مواقفهم منها بشكل متباين،ومتغير من كاتب إلى كاتب آخر،ويمكن تحديد تلك المواقف في التالي:
أولا : التأكيد على فكرة المقاومة ، مقاومة الهزيمة ، والعدو ، والتأكيد على قيمتها لأنها السبيل الوحيد للخروج من الحالة التي خلفتها الهزيمة .
ثانيا : جلد الذات وتقديم ما يشبه البكائيات وتُعد أعمال (نجيب سرور ) المُعبرة عن الهزيمة نموذجا لهذا النوع من الكتابة ( يابهية وخبريني 1968- آلو يا مصر 1969-الحكم قبل المداولة 1969).وكذلك ما كتبه (ميخائيل رومان) مع استخدام الرمز أحيانا في ( الزجاج1968 )- (ايزيس حبيبتي ) 1971 وكان مهموما – دائما – بعرض شخوص بلا ملامح ، لأنهم يفقدون هويتهم على المستوي الشخصي ، وينتظرون من يخلصهم من الهزيمة التي لا دخل لهم فيها . وهذا البُعد – أيضا – نجده في نصيه ( العرضحالجي1968) الذي رفضته الرقابةو(الخطاب) 1969 ثالثا : إدانة النظام ورجاله وتحميلهم وحدهم مسؤولية الهزيمة أيضا .
ومعظم النصوص التي قدمت على خشبة المسرح ، عقب الهزيمة جاءت مباشرة ، ولم تهتم كثيرا بالبُعد الفني ، لأن القضية كانت في مقدمة تفكير كُتابها ، في حين أن النصوص التي كُتبت بعد الهزيمة بسنوات وبالتحديد في عام 1970وما بعدها – قبل أكتوبر 1973 – كانت أكثر تماسكا وإن ذهبت إلى التسجيلية ، خاصة تلك التي تعرضت للصراع العربي الإسرائيلي مثل : ( النار والزيتون – باب الفتوح – وطني عكا –اليهودي التائه ) .
أما تلك التي ذهبت إلى معالجة الأسطورة كما فعل (علي سالم) في مسرحيته ( أنت اللي قتلت الوحش1970 فقد جاءت متماسكة موضوعا وبناء ، وفيها انتقد المؤلف الحاكم الفرد ورجاله وحاشيته والشعب أيضا، كما انتقدهم من قبله ( يوسف إدريس ) في مسرحيته ( المخططين) 1969وكتب (علي سالم ) أيضا مسرحية ( أغنية علي الممر ) 1971
وأخيرا أقول: إن هزيمة 6719 ألقت في نفوسنا إحساسا بالقهر والعجز ، وكان عليها أن تدفعنا للبحث عن طريق جديد نسير عليه ، ليس فقط بعد تحقيق النصر الذي تحقق – بالفعل- في السادس من أكتوبر 1973، ولكن من أجل مستقبلنا كله ، إلا أن ذلك لم يحدث للأسباب التي ذكرتها في مقدمة الدراسة .
ماذا بعد أكتوبر 1973 ؟!
أثناء المعركة صدرت بعض الأعمال المسرحية ، التي كُتبت على عجالة لتواكب الحدث ، منها : مسرحية ( هنا القاهرة ) من تأليف : عبد العزيز عبد الظاهر ومن إخراج : عبد الرحمن الشافعي ، ومعها مسرحية ( القرار) من تأليف : سعيد عبد الغني وإخراج : محمد سالم ، قدمتا على مسرح السامر يوم 18 أكتوبر 1973 ، وفي نفس التوقيت قدم منتخب جامعة القاهرة مسرحية ( الحمام على برج أكتوبر ) من إخراج : كمال ياسين ، على مسرح قاعة ايوارت بالجامعة الأمريكية ، وعرضت مسرحية ( أقوي من الزمن ) التي كتبها ( يوسف السباعي) في المسرح القومي من إخراج ( نبيل ألألفي ) عام 1973 و(صلاح الدين) تأليف : ( محمود شعبان ) وإخراج ( كمال حسين ) عام 1973 و(حدث في أكتوبر) لإسماعيل العادلي وإخراج ( كرم مطاوع ) عام 1973 وحبيبتي شامينا تأليف ( رشاد رشدي ) ومن إخراج ( سمير العصفوري ) عام 1973 ،
ومسرحية (مدد مدد شدي حيلك يابلد) من إخراج ( عبد الغفار عودة) 1973 في المسرح الحديث ، وقدم قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية مسرحية (حبيبتي يامصر) عام 1973 من تأليف (سعد الدين وهبة ) وإخراج ( سعد أردش ) وكتب فؤاد دوارة مسرحيته ( العبور) أكتوبر 1973 ، لكنها لم تُعرض فوق خشبة المسرح ، ونُشرت في كتاب عام 1976بمقدمة كتبها ( توفيق الحكيم ) بخط يده ، تتضمن تحية لصاحبها ، وتهنئة بكتابتها قال فيها: ( لاشك أن عبور 6 أكتوبر قد كان له – إلى جانب القيمة العسكرية – قيمة أخرى روحية ، هي أن صدى المدافع قد أيقظ روح مصر ، فإذا هو أيضا عبور روحي إلى تحدى جديد ، وقد أدى ذلك إلى ضرورة التعبير عنه في أعمال أدبية وفنية كثيرة ، من بينها هذه المسرحية التي أطلعني عليها الأستاذ فؤاد دوارة ، وهي بأسلوبها الحي الممتع ،وطريقة المُعالجة الفنية التي عرضها بها ، جديرة أن نطالعها ، ويطلع عليها القراء ، لتساهم بدورها في ميدان اليقظة الروحية التي نحاول جميعا أن ندعمها بكل قوانا ) وأكد مؤلفها في مقدمته للمسرحية على أنه كتبها مع أول أيام المعركة ، وأنهاها قبل وقف إطلاق النار .
ونلاحظ أن الحركة النقدية بشكل عام لم تهتم كثيرا بالأعمال التي واكبت نصر أكتوبر لأسباب كثيرة ، ربما من أهمها أن معظمها جاء انفعالا لحظيا بالحدث ، أخرجها من منطقة الإبداع الفني ، وجعلها أقرب إلى الأعمال الدعوية ، المرتبطة بمناسبة خاصة ، لأن معظمها لم يتناول إنسان ما بعد الحرب ، وجاء الاهتمام فقط ببطولات الجندي المصري ، فظهرت الأعمال وكأنها تسجيل للحدث ، وليست معالجة له ، فضلا عن الأسباب الأخرى التي ذكرتها في مقدمة الدراسة .
وهذا ما دفع ناقدا مثل (أحمد محمد عطية ) لطرح هذا السؤال عام 1982 : ( الآن وقد مرت ثمانية أعوام على انتهاء معارك حرب أكتوبر ، يحق لنا أن نتساءل : أين مسرح أكتوبر ؟! وكيف انعكست حرب أكتوبر في المسرح المصري ) وهنا نراه لا يذهب إلى الأعمال التي قدمت على مسارح الدولة عام 1973، لأنه رآها مباشرة وزاعقة ، ومن ثم اختار نصوصا رأى أنها حققت قدرا من الفنية ، مما دفعه للكتابة عنها ، معتبرها نموذجا للمسرح الذي عبر عن أكتوبر ، اختار ثلاثة أعمال : (عملية نوح) لعلي سالم 1974 والتي أكد فيها على أهمية وضع خطة مُحكمة بعيدا عن الخيال المُعتمد علي شعبية الإنقاذ الأسطورية ، تلك الخُطة تحققت في حرب أكتوبر ، لأن العبور تم بالشعب ، وليس بالصفوة التي كان نوح يعتمد عليها حين قام بتجميع النماذج الممثلة للشعب المصري ، و مسرحية (رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام) لمحمود دياب 1975 و(العبور) لفؤاد دوارة 1976 .. ( مسرح مابعد أكتوبر)
عرضت مسرحيات : ( الحرب والسلام) إعدادا لقصة قصيرة كتبها (يوسف السباعي ) رأس العش وبحلم يا مصر(سعد الدين وهبة ) – عم أحمد الفلاح (رشاد رشدي ) وهؤلاء الكتاب كانوا يعملون في وزارة الثقافة ، ويتولون مناصب قيادية فيها ، وربما كان هذا هو السبب الذي دفع الناقد ( فاروق عبد القادر ) إلي إطلاق عبارة ( مسرح السلطة ) على أعمالهم
وأضيف أنه بعد عام من انتصار أكتوبر ، ظهرت بعض الأعمال المسرحية ، التي عالجت موضوع الحرب ، بطريقة أفضل بعض الشيء منها سقوط خط بارليف ) هارون هاشم رشيد، ومن إخراج سناء شافع – (العمر لحظة ) يوسف السباعي من إخراج : أحمد عبد الحليم – (رأس العش) سعد الدين وهبة من إخراج سعد أردش ( القرار) سعيد عبد الغني ومن إخراج مجدي مجاهد ) وفي عام 1975 عُرضت مسرحية (النسر الأحمر) لعبد الرحمن الشرقاوي ومن إخراج كرم مطاوع – وفي عام 1976 مسرحية ( باب الفتوح ) لمحمود دياب من إخراج : سعد أدرش ، وتلك المسرحيات التي كتبها : عبد الرحمن الشرقاوي ومحمود دياب لم تتناول موضوع حرب أكتوبر بشكل مباشر ، ولكنها ذهبت إلى التاريخ ، باستحضار بطولات صلاح الدين الأيوبي ، في محاولة من الكاتبين للابتعاد عن المباشرة ، والخطابية ، بالمعالجة التي تدخل في إطار ما يعرف بمسرح الإسقاط السياسي .
والسؤال الأخير الذي أطرحه الآن هو هذا : لماذا لم يتفاعل الكاتب المصري ، مع هذا الحدث الكبير ، وبعد مرور خمسين عاما ليقدم أعمالا إبداعية تعبر عنه ؟!
غير تلك التي عرضت في أعوام : 1973-1974-1975- 1976
الإجابة هي ظهور المتغيرات المُتلاحقة التي أشرت إليها في المقدمة : الانفتاح الاقتصادي 1974 ، ثم اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ثم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 وما سبقهما من زيارة السادات للقدس ، ( 19 نوفمبر 1977). ثم ظهور تيارات الإسلام السياسي ، بعد أن أفسح) أنور السادات( المجال لظهورها ، ليضرب بها اليسار ، الذي وقف ضد اتفاقية ( كامب ديفيد ) وهذا ما أقلقه ، فأخرج المارد من القمم ، ودفع الثمن باغتياله على يديه !!
تلك المتغيرات تحديدا ، أجهضت الفرحة بانتصار أكتوبر ، لدي الكتاب ، فتوقفوا عن التعبير عنها ، وأعلن معظمهم – فيما عدا الكاتب المسرحي ( علي سالم ) موقفهم الرافض لاتفاقية كامب ديفيد ، وما تبعها من محاولات ممارسة سياسة التطبيع ، في كل المجالات ، فيما عدا المجال الثقافي ، بوقوف المثقفين ضده ، فكانوا حصنا منيعا، فلم يستطع ممارسة دوره .
نموذج مثالي لمعالجة قضية الحرب
(أكتوبر 1973)
سأبدأ من اسم المسرحية نفسه ( تغريبة مصرية ) والتي كتبها ( محمد أبو العلا السلاموني ) عام 2007 – أي بعد حرب أكتوبر بأربعة وثلاثين عاما .
كلمة تغريبة تأتي من الفعل ( غرب) بمعني الذي تمعن في السفر ، وابتعد عن الوطن ، متوجها نحو بلاد الغرب .، وتستخدم دائما في السير الشعبية .والابتعاد عن الوطن أو بُعد الوطن عن صاحبه ( بالمعني الدلالي) يُعد تغربا إجباريا يدفع ثمنه بطل السيرة .
والسؤال : لماذا تُستخدم تلك الكلمة دائما في السير الشعبية ؟ الإجابة هي : أن الكلمة تُستخدم لأن معظم موضوعات السير تدور حول الهجرة والسفر الدائم .
هنا يدور موضوع المسرحية حول بطلها ( علوان ) الذي صار اسمه ( غريب ) بعد عودته من حرب أكتوبر ، حيث أصيب فيها بفقد الذاكرة ، فنسي بلده وأهله ، ورافقه الراوي ( وكأنه راوي السيرة ) وجاب به بلدانا وقرى كثيرة ، لعله يتذكر من هو ، وتلك الرحلة تبدو أمامنا وكأنها رحلة البحث عن ذات الجندي الضائعة ، بعد عشر سنوات من النسيان ، وبعد انتهاء الحرب ، يعود ليري كل شيء قد تغير ، بعد أن ترك القرية وسافر مع رفاقه إلى ميدان الحرب ، رحلة السفر تلك ، تعقبها – بعد الانتصار الذي شارك في تحقيقه – رحلة أخري داخل الوطن باحثا عن أهله وناسه ، فيكتشف أنه فقد الوطن أيضا ، حين سيطر عليه الانفتاحيون الذين استفادوا من الحرب ، وتسببوا في ضياع البلاد ، وإفقارها ..
أزمة البطل تشتد كلما اقترب من الحقيقة ، يشعر باغتراب وغربة شديدتين ، نتيجة ضياع الحلم ، وضياع الأمل .
الإحساس بالهزيمة الداخلية لبطل المسرحية ، هو الذي أفقده الذاكرة ، لكنه بمساعدة الراوي والآخرين – حين يذكرونه بحرب أكتوبر التي خاضها ، ويستدعون مشاهدها أمامه -يستعيد ذاكرته من جديد ، ويتعرف على أهله وناسه ، لكنه وجد نفسه ، مضطرا لخوض حرب أخري داخلية ، ضد الفاسدين ، والمستفيدين ، وأعداء الداخل ، هو في حالة حرب مستمرة ، وحالة سفر دائم ، ويظل عائشا في دائرة التغريبة الجهنمية ، التي تسلبه حق الراحة ، وحق الاستمتاع في العيش الكريم ، في وطن استرد كرامته ، وحقق كبرياءه ، حين انتصر على الغيلان .
(علوان ) هذا يبدو في المسرحية ، بطلا يماثل بطل السيرة الشعبية تماما ، حين يضعه المؤلف ، في مواجهة الغيلان ، في رحلة البحث عن الجوهرة ، التي هي شرط استرداده للذاكرة ( قوم يا أبو زيد – قوم يا فارس ، قوم يا عنتر ، قوم يا بيبرس) وتبدو تلك الرحلة ، متشابهة مع رحلة الشاطر حسن في السيرة التي تحمل اسمه مع حبيبته (ست الحسن ) حين سافر من أجل تنفيذ طلب حصوله على الجوهرة التي تتيح له فرصة تحقيق حلمه بالحصول على ست الحسن ، والتي استمرت ألف عام ، تحملهم من أجل تحقيق الحلم ، بطل مسرحيتنا ، ليس لديه مانعا ، ليفعل هذا ، ليس هذا فقط ، بل أعلن استعداده للقيام بما طُلب منه ، لإثبات هويته ، حين فُرض عليه أن يضع جسده داخل تابوت ، ويُلقى في المقبرة ، لمدة يوم ، فإذا لم يمت فهذا إثبات بأنه فعلا ، ابن هذا الوطن الذي لايعترف به . وهذا الفعل يتشابه أيضا – مع ما حدث لأوزوريس في الأسطورة الفرعونية ( ايزيس وأوزيريس) حيت قطع جسده (ست ) ورماه في النهر ، وقامت (ايزيس ) حبيبته ، بتجميع أشلائه ، وإعادته إلى الحياة من جديد ، تأكيدا لفكرة البعث ، وتأكيدا لفكرة انتصار الخير على الشر، حين يكون هناك صراع بينهما.
البطل هنا ، قام بحل اللغز حين واجه الغيلان والأعداء ، كما سبق وحله ( أوديب ) في الأسطورة اليونانية ( أوديب) وكل هذا الذي فعله ، قام به حين فُرض عليه ، ولم يخف ، ولم يتراجع ، برغم أن أعداءه ، أرادوا التخلص منه عن طريق كل تلك الحيل .
لقد وضع الكاتب ( محمد أبو العلا السلاموني ) بطله ، في مواجهة مواقف متعددة، ودفعه للقيام بأفعال ، ليست فقط من مواقف وأفعال أبطال السير الشعبية ، ولكنها أيضا من أفعال أبطال الأساطير ( المصرية واليونانية ) وهذا ما جعل بطلنا ( علوان ) أو الغريب يبدو بطلا ملحميا ، وشعبيا في الوقت نفسه .. كيف ؟
ملحميا ، لأنه مُحارب اتصف بصفات المحاربين العظماء مثل الشجاعة ، والتواضع والحكمة والفضيلة ، وأيضا لأن سفره جاء من أجل خوض المعارك ، ضد الأشرار ، وهو يملك قدرات خارقة ساعدته على المواجهة .. مواجهة الشر .
وشعبيا ، لأنه مُحارب من الفلاحين ، وابن من أبناء الفقراء والمكافحين من أجل العيش الكريم ، و بطولاته هي التي خلدت ذكراه ، وجعلته في ذاكرة الناس ، وذاكرة البسطاء من أبناء الشعب ، هو في نظر الجماعة الشعبية نموذج حقيقي للبطل الذي يستحق أن تُكتب عنه الأشعار ، وتُروي من أجله السير ، ويرافقه الرواة لنقل سيرته إلى الناس ، حتى لا تنسي أفعاله البطولية .
وأعتقد أن تلك المعالجة قدمت لنا بطلا بمواصفات جديدة ، جمعت – كما ذكرت- بين الصفتين ، وحيث إن السير الشعبية تحكي حياة وأعمال شخصيات قامت بأعمال عظيمة لأهلهم ، وقدموا تضحيات كبيرة للدفاع عن القبيلة ، أو الأمة ضد الغزاة الغرباء ، والمعتدين ، فان كل هذا قد تحقق في هذه المسرحية ، لكن المؤلف ، غامر ببطله أكثر ، ليجعله معادلا موضوعيا ، يكشف به عن تجربة كل أبناء الوطن من الفقراء ، الذين حاربوا وانتصروا ، لكن إهمال بطولاتهم ، وإغفال دورهم ، بطمس معالم الوطن الذي تحرر من الغزاة ، علي يد الذين لم يحاربوا ، ولم يغامروا ، ولم يضحوا بشيء ، لكنهم يسرقون قوت هؤلاء المحاربين ، الذين يمثلون الشريحة الأكبر من أبناء الوطن .. هذا المعني الكبير ، الذي أراده المؤلف ، اتسعت معه التجربة الفنية ، فلم تعد – فقط – مجرد سيرة شعبية مُعاصرة – كما ذُكر على غلاف المسرحية- لكنها سيرة شعبية وملحمية ، تحمل دلالات ، وعلامات كثيرة جدا ، لقضية حيوية ، تتعلق بإنسان ما بعد الحرب ، هذا الذي اهتم به الأدب العالمي ، ولم نهتم به نحن في أعمالنا .
وسأستحضر- هنا – سؤالا سبق وأن طرحه المُؤلف حين كتب مقالا تناول فيه ، وتحدثَّ عن تجربته المسرحية في إطار استلهام التراث والتاريخ حين ذكر قبل أن يسأل ( … نجد أنفسنا أمام بطل من أبطال حرب العبور الذي حقق بطولات فائقة ، إلا أنه عاد بعد عشر سنوات وقد فقد ذاكرته ، ويبدأ رحلته وغربته في كل كفور ونجوع مصر ، مصطحبا أحد رواة السيرة من عازفي الربابة ، لعله يعثر على أهله خصوصا وقد وجد أمه قد تزوجت عمه ، وزوجته تُزف إلى ابن عمه ، وعمه وابنه قد استوليا على أرض أبيه الذي مات حزنا وكمدا بل أن ابنه الذي تركه وذهب إلى الجبهة وهو في بطن أمه قد نُسب إلى غيره ، إن (تغريبة مصرية) تعتبر محاولة تجريبية في السير علي خطي ونهج السيرة الشعبية ، ولكن بصورة معاصرة ) وبعد أن ذكر هذا طرح سؤاله : إلي أي مدي نجحت هذه المحاولة سواء في استلهام شكل السيرة أو مضمونها ؟
هذه المسرحية قدمت صورة لإبداع الشعب المصري ، بتراثه الشعبي والأسطوري ليجعل تاريخ الجندي المصري ( بطل العبور) يقف جنبا إلى جنب تاريخ الملوك والقواد ، سواء كانوا عظاما أو غير عظام ، لكنه على أي حال تاريخ ، واثبت أن هوية بطله ونسبه ممتدة عبر تاريخه ، وأن هذا التاريخ كله ، يستطيع حمايته لو حاول أي أحد أن يسلبه حقه في الحياة ، أو يطمس هويته ، وهو أيضا وحد بين فئات الشعب ، لمواجهة العدوان سواء كان على أراضيه ، أو على وطنه من الداخل.
ــــــــــــــــ
المقال نشر في مجلة المسرح ..شهر نوفمبر ٢٠٢٢
رئيس التحرير : الناقد ( عبد الرازق حسين ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock