مقالات ودراسات

الناقد أحمد هاشم يكتب”لامبو” بين الشعرية.. وشاعرية التعبير الجسدى


المسرح نيوز ـ القاهرة | أحمد هاشم*

  • ناقد مسرحي مصري

 

يتجاوز الدكتور “محمد أمين عبدالصمد” فى مرئيته الدرامية”لامبو” حدود (الأنا) لدى المبدع ـ ككاتب ـ لصالح العمل “لامبو” الذى يكتبه، وواعيا بترك مساحة كبيرة لغيره من صناع العمل المسرحى من المبدعين، لا سيما أن العمل غير تقليدى، ويجعل من الرؤية البصرية مرتكزا أساسيا له.. تلك الرؤية التى يتم صياغتها بالإضاءة والتعبير الحركى، وتشكيل مفردات الديكور، لتصنع مع الكلمة  والمعنى صورة مسرحية شديدة الثراء يقوم بنسجه “محمد الملكى” مخرجا، “عمرو عجمى” غازلا لخيوط الآداء الحركى .

يقيم “محمد أمين عبدالصمد” مرئيته على تيمة إنسانية متجزرة فى النفس البشرية منذ أن وجد الإنسان على ظهر البسيطة، حيث الفوارق الطبقية الإجتماعية، والمقابلة بين قطبيها الغير متكافئين، ومراوحا طوال الوقت بين تلكما القطبين عبر مجموعة من الأفعال لشخوص مرئيته، ليبتني أبعاد تلك الشخوص ـ عبر أفعالها ـ مشكلا منها شخصيات حية من (لحم ودم) نكاد نتسمع أنفاسها من على خشبة المسرح، ونشتم عرق الطرف الكادح منقطبى الصراع فيها(لامبو،والده”أبدول”،والدته”سارة”،أبوه الروحى سانشيز، “جابرييلا” ) بينما الطرف الآخر تفوح منه رائحة العطور، والثراء (جارسيا، القس، الأميرة، والماركيز)

يستوحى المؤلف الجو العام لقصيدة الشاعر الكبير الراحل “عبدالرحمن الأبنودى” المسماة  ” الخواجة لامبو العجوز مات فى أسبانيا” التى كتبها فى عام 2014 ناعيا بها المخرج السينمائى الشاب “محمد رمضان” ورفاقه الذين ماتو متجمدين بجبل “سانت كاترين” فى شتاء ذلك العام متأثرين بإحدى العواصف الثلجية، وتقصير الأجهزة المعنية فى إنقاذهم، حيث كان الفنان ورفاقه يقومون بتصوير فيلما تسجيليا بتلك المنطقة، ولم يكن “الأبنودى” ينعى المخرج كشخص، وإنما كل الفنانين المهمشين فى العالم، الذين لا تحميهم نجومية، ولا تدثرهم روابط سلطوية، أو رأسمالية.

والتقط الكاتب ” محمد أمين عبدالصمد” تلك الفحوى، سائرا خلف نفس الإغتراب الزمانى والمكانى، ليتتجاوز بهما أى تصادم وارد مع سلطة غير مستقرة بعد، وأوضاع سياسية وأمنية قلقة متوترة ـ وقت كتابة مرئيته الدراميىة ـ تحولات فى توجهات سياسية، لم تكن قد كشفت ـ ساعتئذ ـ عن وجهها الحقيقى، ليجعل من “أسبانيا” الإقطاعية مكانا لأحداثه وبطله الذى يتصادف أن يولد كما يخبرنا الراوى لأبوين فقيرين فى نفس اليوم الذى يولد فيه “جارسيا” سيدا، وابنا للماركيز سيد المقاطعة، وجاعلا من تلك المقابلة لامبو / جارسيا مرتكزا للصراع بين القطبين الذين جمعهما يوم الميلاد، ومكانه دون أن تجمع بينهما المكانة الإجتماعية ، ودون أن يختار أحدهما قدره .

 

بينما الصدفة وحدها جعلت أولهما إبنا لأسرة فقيرة من معية خدم القصر، بينما الآخر إبنا لسيد المقاطعة ومالك أرضها، ومناجمها، وبحيرتها، يتسابق الأعيان ليكون أحدهم أبا روحيا للطفل “جارسيا” بينما يبحث والدا “لامبو” عمن يكون أبا روحيا له يوم تعميده، فلا يجدان سوى فقير سكير غجرى “سانشيز” يقوم بذلك دون إختيار،وإن كان يلقنه أثناء التعميد مايحدد خيارات “لامبو” قيما بعد، ليكون ملتصقا بالفقراء، محبا للعزف على الجيتار، والغناء لهم، ومتمردا على الظلم، وحالما بالمساواة والعدل بين الجميع، وليلمح العرض منذ البداية (أثناء طقوس التعميد) فى إشارة دالة إلى أن التفرقة بين غنى وفقير تمتد إلى مايتعلق حتى بالطقوس الدينية،وأن العوار لايكمن فى الدين بقدر مايكمن في رجال الدين، وكل الخانعين والمنتفعين المتحلقين  حول الماركيز.

 

وتمتد تلك الفكرة أفقيا مع تطور الأحداث، إذ نجد القس هو من ينتزع الطفل “لامبو” من قيادته للترانيم الكنسية رغم مهارته، وجمال صوته، ليحل محله صوتا نشازيا يلقى بكلمات لا تمت للترانيم بشيئ، وتعترض عليه الأطفال دون جدوى لأنه “جارسيا” ابن الماركيز، وعلى نفس الصعيد يقوم منظم مباريات صراع الديوك بإصدارحكم بذبح ديك الطفل “لامبو” لأنه حقق إنتصارا فى حلبة المصارعة على ديك “جارسيا” السيد إبن السيد، ورجل الدين (القس) هو نفسه من يقوم بالحكم على الفتاة “جابرييلا” بالرجم، حين تظهر عليها أعراض الحمل، ويحشد أهل القرية للقيام بذلك الرجم، متجاوزا مقولة السيد المسيح الخالدة الدالة على عمق قيمة التسامح كمرتكز وقيمة دينية مسيحية أساسية ” من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”.

 

وحين يذكره بها الفتى “لامبو”، يسد القس عنها أذنيه، وقلبه، وعلينا ألا نغفل عن أن فعل الرجم هنا الذى أورده المؤلف على الرغم من أنه ليس من أسس التعاليم المسيحية، وأنه واحد من القيم المتواترة فى الدين الإسلامى، وإن كان فى الأساس هو واحد من الأفعال المتواترة فى الديانة اليهودية، إنما قصد به المؤلف ربط الأحداث بمشاهده المصرى، وفى ذات الوقت إدانة العنف، ومن يدعو إليه من رجال الدين بغض النظر عن إرتباطه بدين معين، وإذ كان القس قد حكم على “جابرييلا” بالرجم فإنه يتغامض عن إصرار “لامبو” بضرورة توقيع نفس العقاب على شريكها فى الفعل لا سيما وأنها إعترفت بأن من لطخ ثوبها هو الماركيز لمجرد أن هفت نفسها لثمرة خوخ من حديقة قصره، وينفى الماركيز عن نفسه التهمة ملفقا حكاية عبثية، وملصقا فعله المذرى إلى كلبه “سامبو” الذى كان يقوم بواجبه كحارس أمين على ممتلكات سيده!!،

 

وبالتالى يتم التجاوز عن عقاب الكلب المتسبب فى حملها!!، ويؤمن القس على تلك الرواية العبثية،وممتدحا الكلب على قيامه بواجبه، ويتمادى رجل الدين فى إستخدام سلطاته الدينية لإرضاء سيده، ويصدر فتواه بحرمان “لامبو”والطرد من مظلة الكنيسة، والخروج من ظلال بركاتها ورحمتها لا لشيئ سوى لتمرده على كل أشكال الظلم التى يمارسها الماركيز ضد فقراء بلدته العاملين فى أرضه ومناجمه، وإستغلالهم إلى أبعد مدى‘ والتعامل مع موتاهم تحت أنقاض منجمه المنهار بخسة تصل إلى الضن بحفر الأنقاض، وإستخراج الجثامين، ويتركهاتحت الأنقاض لتكون هى قبورهم حتى لا يتكلف نفقات إنتشال الجثامين من تحتها، ولا يعدم القس تسويغ ذلك بتأكيده على إسباغ الشهادة عليهم، كما يتعامل مع أحيائهم كمخلوقات متدنية، قد يشاركونهم الإحتفال فى مرقص نعم، إنما أن ترقص الأميرة مع عوام فقرائهم مثل “لامبو” فذلك ما لا يسمح به “جارسيا” أبدا حتى لا ينال ذلك الشرف، ولا حتى يحلم به : “شوف يا لامبو.. ماتحلمش.. إحنا إحنا .. وإنتم إنتم .. وكل الحكاية رغبة مننا فى تجديد دمنا .. شوية رقص غجرى م العام للعام ما يضرش، لكن تفكر إن ده العادى والجارى .. يبقى لازم أفوقك” .

 

ويستمر “لامبو” على تمرده للسائد والمألوف، وعلى مناهضته لكل أشكال الظلم، وعدم العدالة أو المساواة الفارقة بين البشر الذين لم يكن لهم أدنى إختيار فى تراتبهم الإجتماعى، ويضن عليه الماركيز حتى بتصفيته جسدياوالخلاص منه ومايسببه من متاعب حتى لا يصبح بطلا شعبيا يمكن إستنساخه فى آخرين قد يهفون للقيام بنفس الدور، ويترك وحيدا حتى يتم العثور عليه محتضنا جيتاره، ملقى على أحد الأرصفة، وقد فارق الحياة فى يوم الإحتفال بعيد أحد القديسين، لتكون آخر أغانيه، وكأنها درسا يحفره على القلوب الخضراء للأطفال الذين يبثهم أشجان أوتار جيتاره “يوم ما تعرف حقك.. ما يضيعه إلا جبنك.. إمسك فيه بالسنان والإيد .. مش ها يخدك إلا اللى خلقك.. إنسى فراغ الجوف .. ولا تصاحب قلب مرجوف .. الكلمة تعيش سنين .. والجسد يبلى فى سنة”  ويرفض رجل الدين (القس) إقامة الصلاة عليه بدعوى خروجه على الكنيسة وحرمانه من تبريكاتها .

 

إن المرئية الدرامية “لامبو” لا يكتفى مؤلفها “محمد أمين عبد الصمد” بإعتبارها مرثية لكل الموتى من المهمشين بل يتجاوز ذلك إلى إدانة كل من شارك فى تهميشهم من حلفاء محور الشر (السلطة، والإقطاعية الرأسمالية، ورجال الدين)، وإذا كان الواقع الدرامى قد كان قاسيا على “لامبو” فإن المؤلف فى نهاية عمله المسرحى يسعى إلى تكريمه، إلا أن ذلك التكريم قد جاء ميتافيزيقيا، بإحاطته بهالة نورانية بينما يعلو فى الفراغ متجاوزا طاحونة الهواء، وبرج الكنيسة

 

يشكل المؤلف فراغه المسرحى من شارع مرصوف بالبازلت، وبضعة مبان متلاصقة منها كنيسة يعلوها برج، وفى الأفق تظهر طاحونة هواء، وتلك المتلازمة.. طاحونة الهواء / الكنيسة تكشف عن رؤية المؤلف للاجدوى مقاومة ومواجهة السلطة الدينية الراسخة، وأن مقاومتها هى أشبه بمحاربة طواحين الهواء، تنتهى دون ن تحقق أية إنتصارات، وهى رؤية تشاؤمية بالطبع تحتاج إلى مراجعة بالتأكيد .

 

ويتلقف مصمم الديكور ذلك التشكيل ليجعل منه مرتكزا لخلفية فراغه فى فى عمق المسرح، بينما يجعل فى المقدمة مجموعة من آلة الجيتار التى يرسم وجودها فى الأمام مع الطاحونة فى الخلف الخطوط الأساسية لشخصية “لامبو” الفنان الحالم بغد أفضل، المتمرد على الواقع الذى لم يختاره، الرافض للسلطة الدينية الهشة المنافقة، المحارب للظلم الراسخ إلى الدرجة التى تجعل منه دينكشوتيا لايمتلك نفس أدوات وقوة المناوئ لهم، ويتيح ذلك التشكيل مساحة كبرى هى وسط كل المسرح ليكون فضاء للحركة (الميزانسين) التى يرسمها بكفاءة المخرج الموهوب “محمد الملكى” الذى يتجاوز هو الآخر عن نرجسية المخرج تاركا مساحة كبرى لمصمم التعبير الحركى الموهوب بلا حدود “عمرو عجمى” ليشكلا معا نسيجا إنسيابيا متعانقا مع موتيفات الديكور‘ وخالقا فى النهاية مجموعة من اللوحات البصرية شديدة الثراء بمفرداتها، شديدة الجمال فى أثرها على المتلقى الذى لا يستشعر لحظة أن أى منها مقحم على العمل من خارجه إذ أنها تنطلق بشكل أساسى من خطوط وخطوات رقصة ” الفلامينجو” الأسبانية (حيث تدور الأحداث فى قرية آسبانية) الشهيرة التى تصاحبها دائما نغمات آلتا الجيتار، و”الكاستنييت”.

 

وانعكست براعة كل من المخرج، ومصمم الحركات الجسدية فى تأكيدهما للصراع بين “لامبو” ، ومنافسه عبر ذلك الآداء الحركى الراقص فى كثير من مشاهد المواجهة بينهما ليختزلا بتلك الحركات الآدائية كثيرا من مشاهد حوارية، ليحل المعادل الجمالى البصرى محل السمعى، وليصبح ذلك المعادل الجمالى فى نفس الوقت جزء من النسيج الدرامى ، ومتجليا فى أهم عناصره وهو الصراع، وليس مجرد حلية جماليةبصرية، ومن ثم لا يمكن فصلها عن كلية العمل، وقد شارك فى صياغة تلك الصور مجموعة من شباب فرقة قصر ثقافة “بور سعيد” منهم ” كريم باسم” الذى إستطاع يآدائه الهادئ أن يعكس خنوع المهمشين لسادتهم، والرضاء بالذل مقبل المأوى ولقمة العيش، وإستطاع ببراعة أن يضع يده على متناقضين  (حبه لإبنه، ومعارضته له لتمرده  على واقعه) دون أن يفقد لحظة الحفاظ على الحد الفاصل بين هذين المتناقضين، وبنفس حالة الرضا تلك والقناعة بالقليل أدت “سارة هانى” دور الزوجة، وهى ممثلة تمتلك طاقة فنية هائلة وإن لم يتح لها هذا الدور تفجير تلك الطاقة التى شاهدناها لديها فى تجربة لنوادى المسرح العام الماضى، وفى دور القس كان “أحمد تيسير” الذى لعب بوعى دور رجل الدين المتحالف بسلطته الدينية مع السلطة ممثلة فى الماركيز وولده، ضد أى من تسول له نفسه من الرعية أن يتجرأ ويطالب بحقه كإنسان حتى ولو كان صاحب حق، ولا يتورع فى أن ينتزع قيادة كورال أطفال الكنيسة من “لامبو” رغم حسن آدائه، وبراعته، ليسلمها لإبن الماركيز رغم نشازه، وسوء آدائه ولا يتورع عن أن يعترف بذلك، وهو الذى يحكم على “جابرييلا” بالرجم حين تظهر عليها أعراض الحمل رغم علمه بأنها ضحية للماركيز، وجاءت “آلاء كرامة” بآداء متوازن لشخصية “جابرييلا” متعددة المراحل الإنفعالية من فتاة مقبلة على الحياة محبة لها وتكن مشاعر حب تجاه “لامبو”، ثم مرحلة الإنكسار بعد إغتصابها وحملها من الماركيز، تليها مرحلة الرضا بمصيرها حين يحكم عليها بالرجم، “أمير مشالى” ذلك الفتى “لامبو” المحب للفقراء، المتمرد الذى يقبل بنبل التحدى الذى يفرضه عليه “جارسيا” إبن الماركيز، إن “أمير مشالى يملأ المسرح طوال الوقت بالحيوية والحضور الجاذب، ويطاوله فى الآداء الضيف القادم على الفرقة من الإسماعيلية “محمود نوح” ذلك الممثل الذى تتجلى خبرته ونضجه فى آدائه لدور “جارسيا”، وتقوم “منى خالد” بدو الأميرة البريئة التى لا تحمل بداخلها أثرا للتفاوت الطبقى بينها وبين الآخرين،.

 

ولا ترى غضاضة فى مشاركة “لامبو” الرقص، دون أن تفهم سببالرفض شقيقها لذلك، والتى تصعقها مفاجأة إغتصاب والدها الماركيز للفتاة الفقيرة “جابرييلا” إنها تلعب الدور برقة ونعومة تتسق مع أبعاد تلك الأميرة، أما درة هذا العرض فى الآداء كان المبدع “السيد زكى” فى دور الراوى.. إنه الفنان الذى يتجاوز بوعى الدور المحايد للراوى التقليدى بل جعل من تماوجات آدائه رابطا بين الواقع الآنى، وبعض جمل بعينها بالتأكيد، وعمل (إستريس) عليها لينبه متلقيه لتصل إليه جلية فى مكانها المراد لها… إن الفنان “سيد زكى” موهبة حقيقية وإضافة كبرى للعرض، وكذلك جميع الشباب المشاركين فيهالذين أضفوا بمهاراتهم، وحيويتهم وإلتزامهم بما أراده المخرج من إيقاع ساخن للعرض الذى جاء فى مجموعه كجرعة جمالية مكثفة ساخنة ممزوجة بسخونة أهمية القضية التى يعالجها.

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock