مقالات ودراسات

الناقد السودانيي السر السيد يكتب: «فينومينولوجيا المسرح»: ظواهر «أبو الفنون» في مصر


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

السر السيد

ناقد مسرحي، من السودان

 

إذا جاز لي أن أجد علاقة ما بين الكتابة والرقص، بين تآزر الحروف لتشييد عالم ما، وبين تحالف أقانيم الجسد لإنتاج صورة ما، أو مشهد ما؛ فإنني قد أجدها، أو بشكل أدق قد ألمسها، في كتاب «تأملات في فينومينولوجيا المسرح» للباحث المصري عبدالناصر حنفي، الذي يبحث في ماهيَّة المسرح، ويجهد نفسه كثيراً في الغوص عميقاً ليغترف من كل غيمة وبحر، إذ ينهل من الفلسفة، والأنثروبولوجيا، واللاهوت، والفيزياء، والهندسة، والتكنولوجيا، والإدارة، وعلم النفس…، لينسج بساطاً متعدد الألوان، يمشي عليه «التساؤل» الذي يشكل – كما أزعم – الخلفيَّة التي ينبني عليها الكتاب.

تبدو كلمة «تأملات» في العنوان، وكأنها لا تقف فقط عند تلك التكتيكات التي يمارسها الكتاب بمعظمهم، إما للإيحاء بالتواضع، أو للتحرر من المسؤوليَّة تجاه بعض ما توصلوا إليه في مؤلفاتهم، إذ أنه معطى – أي ما توصلوا إليه- لا يعدو كونه مجرد تأملات؛ لذلك فهو «تكتيك» – كما سميته – فكل كتابة، في الأخير، ما هي إلا تأملات، وهذا، وإلى حد ما، تدل عليه كلمة «تأملات» في عنوان هذا الكتاب؛ بمعنى أن وجودها في العنوان أصيل، وليس وجودًا شارحاً للمتن، أو ضابطاً ومحدداً له، فالتأمل، الذي جمعه تأملات، يفيد كما التقطتُ خلال قراءتي للكتاب، ذلك السعي التي يستجلي ماهيَّة المسرح، في علاقته بالمجتمع (المؤسسات والسلطة)، والحياة اليوميَّة، أو فلنقل عالم الحياة كما عند هابرماس، وفي علاقته بصنّاعه من مؤلفين ومخرجين ونقاد وتقنيين، وكذلك في علاقة «المسرح بالمسرح» عبر مسيرته الطويلة، وهنا أعني رصد تحولاته وتبدلاته بين الإضافة والحذف، بين الإثبات والمحو، وأخيراً وليس آخراً في ما الذي يفعله المسرح بالضبط، عند النظر إليه وتأمله من مدخل الفينومينولوجيا.

صدر الكتاب«218 صفحة» عن الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، في العام 2022، وتم تقسيمه إلى ثلاثة مستويات، أولها جاء بعنوان: «في فينومينولوجيا المسرح» وثانيها جاء بعنوان: «في الظواهر المسرحيَّة»، وثالثها بعنوان: «حالات مسرح ما بعد يناير» وقد حوى عناوين. والدراسات التي ضمتها هذه المستويات الثلاثة بعناوينها الأساسيَّة والفرعيَّة، كانت نشرت في منابر عدة قبل نشر الكتاب، ولكنها مجتمعة مندرجة في «البحث عن فينومينولوجيا للمسرح».

في المستوى الأول «في فينومينولوجيا المسرح» الذي يكاد يكون حوى الأفكار الرئيسة في الكتاب، أو ما يمكن وصفه بالمقدمات النظريَّة، ونعني ما قدمه الكتاب من وصف ظاهراتي للمسرح؛ انطلق من فرضيَّة أنه مؤسسة من مؤسسات إنتاج العالم. وهنا، يستوقف المرء ما سماه الكاتب «العطاء الجمالي والعطاء الاجتماعي» موضحاً كيف أن هذه الجدليَّة حكمت التفكير في المسرح لفترات طويلة، وأشير إلى أنها أضاعت فرصاً كثيرة للكشف عن العطاء الاجتماعي للمسرح، ولكن ليس بمعنى الدور الذي يلعبه المسرح في المجتمع فقط، وإنما بمعنى ما يقوم به المسرح من خلال ما سماه الكاتب «ألعاب الظهور والحضور» في إعادة تشكيل العالم،

والكاتب هنا يلفت النظر إلى الكيفيَّة التي يعبر بها عن الفعل في الواقع المعيش، وفي المسرح، ويشير إلى فائض الطاقة المبذولة في تحويل حدث يومي إلى حدث مسرحي، لافتاً النظر إلى المواقع الاجتماعيَّة والمهنيَّة، وإلى تنوع الأدوار للفاعلين المسرحيين، وإلى الجمهور، وعلاقة كل هذا بالسلطة، وكيف أن المسرح هنا يمارس التفاوض والمساومة، إذ أن المسرح بحسبانه مؤسسة لتشكيل العالم، وعبر تاريخه؛ فقد الكثير من مكوناته، أو ساوم فيها، كما أنه حور واستوعب وطوع الكثير من العناصر من حقول أخرى إبداعيَّة وغير إبداعيَّة، فعلى سبيل المثال استطاع المسرح أن يتخلص من الصوت البشري كما في المايم، واستطاع أن يتخلص من الممثل باستبداله بالدمية، دعك مما جلبه وقد يجلبه التطور في مجال التصوير المجسم (Holography). إنها رحلة طويلة، جسدت اشتباك فاعليه من مخرجين، وتقنيين، وإداريين، كما جسدت مكابدته في سيرورة الفناء والبقاء، كسؤال يستهدف مصيره، كما تبدى لنا في هذا المستوى.

في المستوى الثاني من الكتاب، وعنوانه: «في الظواهر المسرحيَّة»، الذي قد يتراءى للبعض للوهلة الأولى أنه بعيد بعض الشيء عن المستوى الأول، ولعل هذا بسبب أن الحمولة الفلسفيَّة فيه ليست ذات حضور كثيف كما في المستوى الأول، إلا أن النظرة المتأنية تكشف أنه ليس بعيداً كما قد يبدو للبعض، إذ أنه محكوم ولحد كبير بالمنهج الذي حكم المستوى الأول، ونعني النظرة الظاهراتيَّة؛ فهذا المستوى يبدأ مباشرة بسرد ثلاث حكايات سماها المؤلف «حكايات قياسيَّة أو في الطريق إلى مسرح الشارع»، الحكاية الأولى عندما كان الكاتب عضواً بلجنة تحكيم مهرجان مسرحي، والحكاية الثانية كانت عام 2012 عندما تبنت إحدى المؤسسات الثقافيَّة الرسميَّة مشروعاً لتدريب وإنتاج مسرح الشارع، وقد سنحت الفرصة للكاتب لمشاهدة عدد من العروض، والحكاية الثالثة كانت عام 2014 عندما كان الكاتب محكماً لإحدى تجارب مسرح الشارع التي أنتجتها إدارة المسرح، وقد قدم العرض في حديقة عامة.

بالطبع لن ندخل في تفاصيل الحكايات، فما يهمنا فيها هو المشترك بينها، ولعل أول المشتركات بينها ما يتصل بداية بمفهوم مسرح الشارع، فمثلاً هل هو أي عرض يقدم في الشارع أم أنه عرض له أساليب وتقنيات خاصة؟ ثانياً ما يتصل باختيار المكان وهندسته، وثالثاً ما يتصل بطبيعة الجمهور وكيفيَّة التعامل معه. ما يلفت النظر في هذا البحث هو أنه نحا منحى ذا طابع إداري وسوسيولوجي وسيكولوجي، فهو لم ينشغل كثيراً بتعريف مسرح الشارع، ولا بطبيعته، ولا بمحتواه، وإنما انشغل عبر معارف وخبرات هندسيَّة ونفسيَّة وإداريَّة واجتماعيَّة، بالدراسة البحثيَّة للمكان الذي سيتم فيه العرض، وطبيعة الجمهور «السكان المحيطين بالمكان»، ثم يصف الكيفيَّة التي يتحدد بها مكان الممثلين ومكان الجمهور، ثم يبدأ في رصد استجابات الجمهور، ويقترح طرقاً مختلفة للتعامل معها. هذا البحث من وجهة نظري عبارة عن دليل محكم لممارسة مسرح الشارع، ويشمل تقنيات ما قبل العرض، وحول العرض، كما يشير إلى طرائق جذب الانتباه، وأيضاً إلى معرفة ما سماه بالجمهور المزيف.

حقيقة، حوى هذا البحث أفكاراً قيمة وجديدة في ما يتعلق بمشروع «المسرح التجريبي» الذي يرى حنفي أن جوهره يجد أصله في محاولة «جلب العالم»، التي قادت التحول الرأسمالي – أو إغراق الذات في العالم كما قال الكاتب – بينما ينظر إلى صدور مجلة «فصول»، المتخصصة في النقد، بحسبانها محاولة لـ «الذهاب إلى العالم لا جلبه»، فمجلة «فصول» وبما قدمته من اجتراحات لمناهج نقديَّة حديثة، وما وفرته من مساحات لكتاب استثنائيين، شكلت – كما يرى الكاتب – النموذج الإرشادي للمهرجان التجريبي.

في ثنايا هذا البحث، تعرض الكاتب وهو يعيد قراءة تجربة مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، بعد عودته ومنذ نشأته، إلى مفهوم التجريب وصلته بالتحولات الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي مرت بها مصر، لذلك لم يكن أمامه إلا أن يتوقف عند ما أطلق عليه هو «العقيدة المسرحيَّة المنسوبة إلى الستينيات»، وكيف أن المسرح استطاع حينها إعادة تعريف نفسه محاولاً التصدي لذلك الفراغ الروحي، ومحافظاً على تركيبته الجماليَّة، ليصل في نهاية هذا البحث إلى نتيجة مثيرة، وهو يعيد قراءة المهرجان التجريبي، مفادها قوله: «مع توالي دورات المهرجان كان ما هو تجريبي يفقد هالته بالنسبة إلينا، أما على مستوى العالم فقد لاحت نهايته كلعبة مستقلة بذاتها، مع اقترابه من تحقيق مهمته في رأب الفجوات بين المسرح والحداثة، بحيث تمت استعادة ما هو تجريبي بوصفه فعلاً جزئياً لا يمكن فصله عن مجمل العمليات الجماليَّة التي يتأسس عليها النوع المسرحي..

 

وفي النهاية فإن محصلة عطاء المهرجان التجريبي تشكل مزيجاً من تقدم – فارق – في الممارسة والوعي التقني المسرحي، مصحوباً بتوسع هائل في فضاء المفاهيم التي ما زالت تعاني الاضطراب وقلة التماسك، إلى نحو يفضي إلى ارتباك علاقة ما هو مسرحي بالعالم».

أما «الدمى والوعي والعالم»، وهو العنوان الأخير في هذا المستوى، فقد جاء مشحوناً بحمولات فلسفيَّة غاية في التعقيد، تحركت في مصطلحات الوعي، والإدراك، والذات، والتمثلات، وهي مصطلحات على صلة بالتلقي عموماً، وعلى صلة بالعلاقة بالعالم، وبالضرورة على صلة بالمسرح، وخيراً فعل الكاتب عندما قارب موقع الدمى في أربعة عروض مسرحيَّة، قدمت في التجريبي، من بلدان مختلفة، وهو ما قد يساعد كثيراً في تفهم هذه المعالجة الفلسفيَّة النفسيَّة المعقدة للدمى والوعي والعالم، هنا يجوز لي أن أصف هذا البحث بأنه هو الأعقد في صفحات الكتاب، ولكن الأجمل في الوقت نفسه.

في المستوى الثالث «حالات مسرح ما بعد يناير» الذي هو المستوى الأخير في الكتاب، ينطلق المؤلف من مسلمة معروفة، هي تأثر المسرح بالمجال الاجتماعي، ولأن ثورة يناير المصريَّة 2011 وبكل ما صاحبها من مد وجزر، بالضرورة كانت لها آثار كبيرة على المجتمع المصري؛ رأى الكاتب وهو يسعى للكشف عما سماه حالات مسرح ما بعد يناير؛ أن يقيم تماثلاً أو مقارنة بالنموذج الذي أسسه مسرح الستينيات في مصر، وبالطبع قد يكون هذا دقيقاً بوصفه إجراء يفرضه البحث، أما نظرياً فلن يكون دقيقاً، على الأقل بسبب اختلاف الفترتين سياسياً، وأيضاً على مستوى وضعيَّة المسرح وموقعه في الفترتين. يميز الكاتب بين ثلاث مراحل مرت بها ثورة يناير في ما سماه بالطاقة الاجتماعيَّة، ومن ثم يربط بين هذه المراحل وحالات المسرح بعد يناير، والمراحل هي: الاندفاع الرومانسي، التي يقابلها اندفاع رومانسي في المسرح يصفه الكاتب بقوله: «إن أغلب العروض التي ظهرت في هذه المرحلة وتبنت تقديم (موضوعة يناير) كانت أشبه ما تكون بتقارير خبريَّة مشفوعة بعناصر الفرجة، ومدموغة بنبرة تبشيريَّة زاعقة …الخ»، والمرحلة الثانية هي الالتفاف والتحول، التي يقابلها في المسرح «تراجع الحدث الأسطوري» – المخلص – إلى الخلفيَّة بعد أن ثبت أنه لم يكن كاملاً ولا نهائياً، وأنه لم ينجز ما ظننا أنه وعد به، ولكن بالمقابل بقي الفاعل الاجتماعي لهذا الحدث، الذي يمكن أن يكرر ويستكمل ما سبق أن قام به. أما المرحلة الثالثة فهي التبدد، ويقابلها في المسرح «تلك العروض التي اختارت مقاومة حالة (التبدد) وأغلبها كان من صنع مجموعات يمكن اعتبارها ضمن الأكثر مشاركة وانتماء لثورة يناير، فقد حاولت استثمار بقايا الطاقة الاجتماعيَّة التي توزعت طبقاً للموقف من الصراعات السياسيَّة». هذا التشخيص لحالات المسرح ما بعد يناير، برصد تحولاته الجماليَّة والاجتماعيَّة، قدم وصفاً فينومينولوجياً أو حاول، لما حدث في تلك الفترة، كما أنه مضى باتجاه فرضيَّة وجود العالم الذي يشكله المسرح. ينتهي هذا المستوى بمقاربات دقيقة وتفصيليَّة حول ما سماه الكاتب بالصعود عن اضطرابات مسرح ما بعد يناير، وكذلك حول ماكبث في بير السقايا.

إن كان من كلمة أخيرة في هذه القراءة العامة لهذا الكتاب، فإنني وأنا أبحر من صفحة إلى صفحة، أحسست بصعوبة ما، ربما للوفرة الكبيرة حد الإسراف في المعلومات والأفكار والفرضيات التي يقدمها الكتاب، وربما لأن الكتاب ينظر من أكثر من نافذة، وهو يقارب موضوعاً واحداً هو المسرح، إذ نادراً ما قرأت كتاباً في المسرح ينظر من كل هذه النوافذ، لاسيما نافذة الفلسفة، ويحتشد بكل هؤلاء الأعلام من هوسرل، إلى هيغل، إلى لاكان، إلى بيكون، إلى شكسبير، وغيرهم. الكتاب الذي هو «كون» من التأملات وفقاً لعنوانه، خلا من الإحالات المرجعيَّة إلا نادراً، وقد يعود هذا إلى أنه افترع مناطق جديدة في البحث المسرحي، لاسيما المصري والعربي، وهذا صحيح إلى حد ما، وربما أن الكاتب «قد أصغى لموجته الخصوصيَّة» فتنزلت عليه هذه التساؤلات المحرقة حول الفينومينولوجيا عموماً، وفينومينولوجا المسرح تحديداً. الكتاب الذي يرقص على إيقاع سريع، أسست له غزارة الأفكار وبناء الجمل؛ يمتاز بالجدة والجرأة تصريحاً وتلميحاً، في نقد الكثير من المسلمات، لاسيما في «الثقافة» المصريَّة. وتبقى ملاحظتي وهي أن الكتاب اعتمد على الرواية «السرديَّة» الغربيَّة فقط في الفلسفة وعلم النفس، وفي ماهيَّة الحداثة، وفي المسرح، بل وحتى في مفهوم «العالم» نفسه!

تعريف الكاتب:

عبدالناصر حنفي (1964)، قاص وناقد مسرحي مصري، من كوادر مسرح الثقافة الجماهيريَّة منذ التسعينيات، وتولى العديد من المسؤوليات التنفيذيَّة والفنيَّة به. شارك في العديد من المؤتمرات العلميَّة والندوات البحثيَّة الخاصة بالمسرح المصري. اختير عضواً بلجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة في 2018. نشر العديد من الدراسات النقديَّة والفلسفيَّة.

=-=


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock