مقالات ودراسات
الناقد العراقي حمه سوار عزيز يكتب عن العرض المصري.. “حيث لايرانى أحد”: البساطة البليغة!
الغرض شارك في مهرجان بغداد الدولي في دورته الرابعة بالعاصمة بغداد
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
حمه سوار عزيز
كاتب وناقد من العراق
ـ
واحدة من العروض المتميزه في مهرجان بغداد الدولي للمسرح بدورته الرابعه، هي المسرحية المصرية الشبابية ( حيث لايراني أحد) ، تأليف واخراج محمود صلاح و أداء (بولا ماهر في دور العقرب القديم) و (محمود بكر في دور العقرب الجديد) و (ساندرا ملقي في دور الفتاة)، قدمت هذه المسرحية على قاعة مسرح أور (البلاتو)
و نالت المسرحية قبول و أستحسان الجمهور. فالنص عبارة عن حوار ساخن بين اثنين من عقارب الساعة، أحدهما على وشك النهاية و الاخر على وشك البداية، أستند النص في بنائيته على الواقعيه السحريه و الشكل المبسط في التركيب و السهل في التواصل و التلقي، لكن مع هذا أرتكز النص على مرجعيات تناصيه ، فلسفات و أفكار عبثيه و وجوديه عميقه من خلال تناصها الفكري مع مجموعة من النصوص الادبية الاخرى كمسرحية (الخرتيت) للكاتب الفرنسي يوجين يونسكو و أسطورة سيزيف لألبير كامو و رواية المسخ للكاتب الالمانى فرانز كافكا.
المرجعية الفكرية للنص أستلهمت بشكل كبير من الافكار و التوجهات العبثيه التي حملتها هذه النصوص العالميه، فأستلهم الكاتب من مسرحية الخرتيب فكرة و فلسفة التحول من الحالة الانسانية الى حالات اخرى حيوانية في الخرتيت و الجماد و التشيؤ(عقرب الساعة) في النص المصري، هذا التحول يشكل البنية الاساسية لفكرة النص من حيث عدم قدرة الانسان على مواجهة النظم و السلطات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الدينية التي تحكمه بكل قسوة و جبروت، أشد من ذلك هو تحوله الى عقرب ثواني، العقرب الذي لايهم أحد في شئ وحتى داخل سياق موطنه الساعة لايلتفت اليه احد و لايركز عليه، هذه العمليه هي أدنى مرتبة من التحول داخل السياق الانساني عندما يفقد الانسان قيمته قياسا بالماديات المحيطة به،
و هذا تناص أخر مرجعيته فلسفيه من رواية (المسخ) لكافكا عندما يتحول الانسان الى حشرة داخل سياق مجتمع غير قادر على الالتفاف أليه و لايراه، يعبر الكاتب عن هذا التحول الغرائبي من خلال العنوان، الذي فيه نزعه وجوديه عاليه، فالانسان لم يعد يرى داخل سياقات الماديه للمجتمع، لذلك هو أشبه أن يكون حشره أو أي كائن مسخ غير جدير بالانتباه، غياب الانسان بكينونته داخل سياق العلاقات الجديدة التي رسمتها التكنولوجيا بطغيانها المرعب، جعل منه كائنا غير مرئيا، (الانسان في ظل المجتمع الرأسمالى لم يعد مغتربا أو مستلبا فقط،
إنما أصبح مشيئا كما يقول ماركس)، هذا التشيؤ جعل قيمة الانسان مساوية لقيمة السلعة التي يمثلها، لهذا سياسة سلعنة الانسان أخذت الحيز الاكبر في ظل الانظمة الاقتصادية و الاجتماعية الاستبدادية التي جردت الانسان من كل فعل أنساني، المرجعيه الثالثة لهذا النص تستند الى أسطورة سيزيف و عبثية رفع الصخرة الى قمة الجبل و انحدارها في كل مرة ليبدأ مرحلة الصعود مرة أخرى، هذا التناص البنائي موجود داخل سياق النص المصري من خلال حركة دوران عقرب الثوانى بدون جدوى، فالحياة لعقرب الثوانى هي الدوران في فلك محدد بشكل مكرر دون توقف في كل يوم و كل أسبوع و كل سنة، و ما أن يجتاز مرحلة من تلك المراحل حتى يكافأ ببدأ مرحلة أخرى لاحقة،
هذه العبثية اللانهائية تمثل اصطدام الانسان بواقعه بشكل متكرر دون القدرة على التغير و الانزياح و التمرد، حتى ساعي البريد المنتظر كما غودو في مسرحية في انتظار غودو، لن يأتي أبدا، ساعي البريد الذي يمثل الوهم الذي يمكن أن يحمل شيئا من الحياة و التغير لأن هذا النظام قائم على تجريد الانسان من حسه بالانسانيه و يعمل جاهدا على تحويله الى سلعة رخيصه تفقد صلاحيتها عند أنتهاء عملها. هذا النص رغم بساطته في البناء و رسم الشخصيات و الحوارات اليوميه العاديه، الا انه يمتلك مرجعيه فكرية و رمزيه عميقة اعطت ثراء كبير للعرض المسرحي و سحبته الى مساحات فيها تعددية التأويل و التفسير و الاحالة السيمولوجيه التي خدمت العرض بشكل واعي و ساهمت في بناء علاقة تواصليه سلسله مع المتلقي من خلال قصه بسيطة في ظاهرها و لكن مرجعياتها الفكرية متأصلة و متعددة، جردت النص من سذاجته الظاهرة و فتح امامه مساحات واسعه للاسقاطات التأويليه و الايحائية،
حتى أن استخدام المطر في هذا العرض له دلالات فكريةو جماليه واضحة عندما ربطت المطر بالحب و الحياة و الحلم ، لكن الغريب أن هذه الافكار لايمكن استيعابها داخل سياق الساعة و عقارب ثوانيها لان الساعة غير مؤمنة من الماء و المطر كما يدعي العقرب القديم، وهي أي الساعة تمثل الكون بالنسبة للانسان، لهذا عندما تبدأ الامطار بالتهاطل نرى أن العقرب القديم يبحث عن المظله لكي يختفي تحتها، اي أن كلما يمكن أن يعيد للأنسان انسانيته محظور و غير مسموح به في داخل سياق هذه الساعة التى تمثل المجتمع الرأسمالي المتجرد من الحس و الانسانية، لهذا ظهور الفتاة في مشهد المطر ليست الا يوتوبيا في العقل الباطن للشخصيات.
كما ان توظيف شخصية الفتاة داخل سياق النص و العرض، مثلت حركة درامية و دلالية مهمة من خلال الكشف عن مكنونات الشخصيتين و ماضيهما و حاضرهما و مستقبلهما، فالفتاة لم تكن شخصية حقيقية حاضرة رغم حضورها الجسدي داخل الفضاء المسرحي، بل مثلت حضورها أحالة دلاليه للاحلام المكبوتة تماثلت في مرجعيتها الفكرية و الدلالية مع صخرة سيزيف التى كلما تصل للقمة، تنحدر الى الاسفل مرة أخرى، و هذه الفتاة مثلث هذا الوهم الذي قد عايشه العقرب القديم و أكتشف لاجدواه، و الان سوف يعايشه العقرب الجديد لكي يعيد تجربة العقرب القديم بحذافيره، اي انه استمرار لتجربة يستنسخ كل جيل ما قام به الاجيال السابقة دون اي تغير أو مغايرة، وهنا اشارة قوية على عبثية الحياة الانسانية و تعاقب الاجيال دون اي أمل في وصول ساعي البريد الذي قد يكون وهما متجددا لكل جيل محكوم أن ينتظره لنهاية صلاحيته الادائية.
المفارقة الكبرى في النص أن عقرب الثواني الذي جسد ملايين و مليارات من الثواني المتراكمة التي لايلتفت اليها أحد لمدة عشرين سنة و هو يؤدى وظيفة العقرب المنسي الذى لم يلتفت اليه أحد، لم يحصل على عشرة ثواني كانت ستغير من حياته لكي يلوح لحبيبته بيديه و يودعها، هذه المفارقة الجروتسكيه بينت وهن الانسان أمام الانظمة المستلبة التي تدوس عليه بكل قسوة و دون أي وازع أخلاقي جردته من كينونته و قتلت فيه حلمه الاكبر بالحياة. ارتكز المخرج في بناءه الدرامي و البصري على المسرح الدائري و العلاقة الحميمة بين العرض و المتلقى،
حيث أتاحت هذه المشهدية المغايرة في البناء البصري مساحة كبيرة للتفاعل الجمالي الواعي مع العرض من خلال انعدام المساحات بين الممثل و المتلقي، التي أدخلت المتلقي في سياق العرض بمرجعيته الفكريه و الجماليه و الدلاليه من خلال الانسجام الكبير بين منظومة الاداء و منظومة التلقي اللتان أستندتا على التجرد من الواقعيه الحسيه و السايكولوجيه، كما أن ذهاب الممثل في أداءه الى المنطقة الجروتسكية خدمت كثيرا المنظومة الادائية المغايره التى أستند عليها النص في سياقه الخارجي و خلق تفاعلا جماليا عاليا بين العرض و المتلقي الذي أحس بمرارة هذه الخلجات الكوميدية التي رافقت العرض و أداء الممثلين، هذه المنظومة الادائية الذكية أرتفعت بالعرض عن شكل و سياق العروض العبثية التقليدية التي ينفر منها المتلقي عادة، هنا أستطاع المخرج أن يقدم عرض مسرحي بمرجعية فكرية عبثية لكن بسياق واقعي جروتيسكي خدمت منظومة التلقي بشكل رائع و أستطاعت أن تصل بالافكار و الارهاصات الفلسفية للمتلقي في شكل مغاير لما هو معتاد عليه، فحضرت المتعة و البساطة و السهل الممتنع في سياق خطاب مسرحي عميق في مدلولاته و مرجعياتة الفكريه و احالاته السيمولوجية،
كما ارتكز العرض على خطاب سينوغرافي ثابت في شكله و بنيانه مرتكز على التجسيد الصوري و الالوان و الازياء و الموسيقى في خلق فضاء غرائبي مع منظومة أدائية متحركة للممثل، وازنت بين الفعل الثابت و المتحرك في العرض المسرحي. كما أن الاداء التجسيدي العالي للممثلين بولا ماهر و محمود بكر ساهم في خروج العرض بانسيابيه ادائيه عاليه غلبت عليها الطابع الكوميدي المؤلم مع الاختزال في الحركة و الاداء التقني المستوحاة في بعض تفاصيله من كوميديا ديلارته، حيث أجاد الممثلون في خلق منظومة أدائية معبره و متجانسة مع الخطاب البصري و البنية المشهدية للعرض، فكان أداءا متجاوزا للواقعيه و مستندا على المفارقة التعبيريه في مزج بين الضحك و الألم، كما تفوق الممثل الشاب محمود بكر بشكل خاص في رسم صورة أدائية مميزة أتسمت بالكثير من العفويه و الانسيابيه و التحول الذكي من الحالات الدراميه المتعدده و المضادة.