الناقد الكبير “أحمد خميس” يكتب: “يا سم” ..عرض راقص بطعم العسل
المسرح نيوز ـ القاهرة| أحمد خميس
ناقد مسرحي مصري
ـ
يبدو للمتأمل للعرض المسرحى الراقص «يا سم» الذى قدم فى ختام مهرجان القاهرة الدولى للمسرح المعاصر والتجريبى أن تلك التجربة مراوغة الى حد بعيد وتنتهى لقناعات مغايرة قصد منها الخروج من الاطر التقليدية لصورة المرأة المستكينة الضعيفة التى تتقبل التحرش بأنواعه ولا تدافع عن نفسها باى شكل من الاشكال , فالعرض يتضمن صورا وحركات عنيفة متقلبة تعبر بها الفتاة الجديدة عن نفسها بالطريقة التى تشى بمقابلة العنف بالعنف ومقابلة الاستهانة بالقوة ومقابلة النظرة القديمة بنظرة أخرى فيها تحد ووعى فارق , وما العرض إلا حوار جدلى بين الايقاع والجسد المتمايل المقاوم , وقد تخدعك البدايات الموشاة بالالوان والاضاءة المناسبة والايقاعات المنتظمة والتى تمزج الصور والحركة المقدمة بالموروث الراقص مع أنغام شرقية تقليدية, لكن مع تطور التيمات غير المتناغمة تتبدى حقيقة العمل شيئا فشيئا فالبنية الداخلية للعرض تتبنى دفاعا مستميتا عن المرأة التى تتعرض يوميا لكابوس تدنى الاخلاق وكابوس نظرة المجتمع الذكورى لها واختزالها فى جسد مشته أو مستباح ليس إلا.
ولما كان الرقص الشرقى مرتبطا بالانوثة والغواية وبيان جمال المرأة فان العرض يتضمن كثيرا من اللحظات التى تبدأ من تلك الفكرة بل انه لا يعارضها كليا وقد يبدأ من عندها فى كل مشهد جديد , وإن بدت الحركة فى كثير من الاوقات تكسر الانماط التقليدية وتحاول أن توجة المتلقى لذلك التدخل المتعمد فى النسيج سهل التكوين كى لا يستريح للحركة والصورة بشكل كامل , فثمة دلالات غير منطقية وبعض علامات استفهام لا يراد منها الامتاع بالصورة المعهودة , فالحركة الدوارة أو تلك التى تشرد فيها إحدى الراقصات عن زميلاتها قصد منها تفكيك الارتباط الانفعالى للجسد والحركة , وتلك الرقصات التى تنحاز للتعبير عن فتاة وحيدة مشوشة الافكار تتجه لنفس التصور التغريبى , كما ان الازياء تحيلنا بلونها الاحمر الداكن ورباط الوسط لتلك الصور الخلابة لراقصات محترفات يجدن التمايل بالجسد مع الانغام المنسابة والايقاع المنضبط مع الحركة غير المعقدة.
فى المشهد الخاص برقصة التحطيب تظهر الفتيات الراقصات قدرات فائقة فى التحكم بالعصا واللعب بها سواء على مستوى تقديم أنماط مستلهمة من العاب التحطيب الصعيدية القديمة او إبتكار العاب مشابهة , لندخل بعد ذلك للبعد الجديد وهو المستوى الضمنى , حيث تتبدى صور العنف وكيفيات مقابلتة بقدرة كبيرة على الدفاع عن النفس باستخدام نفس الالعاب والحركات , ومن ثم فالرسالة مزدوجة وتشير بقوة نحو القدرة الفائقة على الدفاع عن النفس باستخدام نفس الاساليب ونفس الانماط بل حتى نفس القوة فى التحكم , فى المشهد بدت إحدى الفتيات وهى تلوح بقوة بحركات سريعة بالعصا وكأن لاعبا محترفا تدرب كثيرا حتى يصل لذلك المستوى الاحترافى الكبير وتلك القدرة الفائقة على التحكم واللعب
وفى المشهد الختامى للعرض وبعد أن ضمنت المصممة «شيرين حجازي» كلمات خادشة لحياء المرأة كتلك التى يستخدمها شباب تلك الفترة , على اعتبار أنها تعبير حقيقى عن الابتذال الذى وصل اليه المجتمع هذة الفترة تنزل من السوفيتا بعض البانوهات الفارغة والتى تستخدم كأطر للصور وتدخل كل راقصة فى إطارها المعد وتستخدم موسيقى مسجلة تعبر بشكل واعى عن تلك الصور , فما الفتاة هنا وما المرأة هنا إلا لعبة ماريونيت تتحرك وتتمايل وفق برنامج موضوع فى الذاكرة الالكترونية المعدة سلفا والتى تبدو مسلوبة الارادة غير قادرة على الثورة أو الهروب.
الا أن المعدة والمخرجة وفقا لمفاهيمها المتمردة تخرج كل واحدة من الراقصات من الاطار/ السجن لتعبر بقوة وعنف عن تمردها ووقوفها بكرامة وجلد فى مقابل تلك المفاهيم المجتمعية والنفسية غير المقبولة , أو غير المستساغة , فان كانت ثمة ردة لوضعية المرأة الآن وهنا , إلا ان ذلك لن يستمر فى المستقبل القريب.
العرض الذى قدمته فرقة «دوم تك» المستقلة يشير بشكل أو بآخر لقضية طالما نوقشت عبر التاريخ المصرى الحديث وهى : «حرية المرأة» ويضمن بعض الفورات الحركية والانفعالية حيال تلك النظرة وقد لا يكون على المستوى الفلسفى قد أتى بالجديد أو غير المعروف , ولكن الجديد حقا هو قاموس الحركة الداخلية للعرض المسرحى الراقص , فالعرض منتم بشكل او بآخر للرقص المسرحى الحديث وقاموس الحركة فى عروضنا فى هذا الاتجاه عادة ما تعتمد على القاموس الاوروبى فى تقسيم الحركات والتيمات المشابهة ومن ثم نشاهد كثير من العروض تشبه بعضها بعضا.
إلا ان عرض فرقة «دوم تك» يقدم لنا موضوعا حركيا مغايرا يختار فلسفته وحركاته وفق قاموس لا يبدو مستساغا أو تقليديا , وهو الامر الذى يمكن أن نقف عنده كثيرا ففرق الاوبرا ومن خلال المصممين الجدد نجحوا فى أن يقتربوا من النماذج الاوروبية الحديثة , فالتقليد قد يحتاج لجهد بدنى وجمالى مناسب ولكنه دائما سيبقى كما هو تقليدا, حتى وإن حاول تقديم موضوعات مأخوذة عن نماذج روائية او تراثية عربية , ولكن ذلك الفريق المكون من 4 من الفتيات 3 راقصات «شيرين حجازى, ونغم صلاح, وامانى عاطف» ومعهن صانعة الايقاع عن طريق الطبلة «صابرين الحسامى» نحن لنفسهن طريقا يخصهن وحدهم تبرز فية قوة الفكرة وامتلاكها كما تبرز فيه القدرات البدنية والحركية الكبيرة, مجموعة مدربة بشكل مغاير وعندهن فلسفة تناسب العمل , وهو امر نشد على أيديهن فيه فقد تقابلت الحركة المناسبة مع فلسفة التقديم فكانت المتعة , وحتى اسم العرض يدافع بقوة عن العمل فكلمة «يا سم» كلمة قديمة كانت تستخدم من قبل الفتيات فى ستينات وسبعينات القرن الماضى للتعبير عن امتعاضهن من المعاكسة التى كن يلاقينها فى بعض الوقت فى الشارع , فكانت الفتاة تلتفت للشاب المعاكس وتنطق بها فى حياء ومودة أو حتى فى خشونة لو زاد الامر , العرض يستخدم نفس الكلمة هنا كى يعيد وجودها ويعطينا فرصة كى نفكر فيما وصل اليه الحال الآن.