مقالات ودراسات

الناقد المغربي عزيز ريان يكتب: العرض المسرحي “بوبريص”.. يجسد أنانية المستضعفين!


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

عزيز ريان| شفشاون ـ المغرب

 

شاركت جمعية ألوان للثقافة والفنون بشفشاون جمهور مدينة مولاي إدريس زرهون التاريخية الاحتفال باليوم العالمي للمسرح ، بتقديم عرضها المسرحي “بوبريص” مساء يوم 27 مارس 2024 بالمركز الثقافي للمدينة.

 

وهو العرض الأخير ضمن سلسلة عروض الجولة الوطنية المنظمة بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل- قطاع الثقافة بالمغرب برسم سنة 2023.هذه الجولة المسرحية استهلت بعرض افتتاحي احتضنه مركب التنشيط الثقافي والفني بمدينة سلا، وشملت عروضا أخرى قدمت ضمن فعاليات مسرحية .

 

إذ حضرت المسرحية  في مهرجان ليكسا للمسرح في دورته 14 بمدينة العرائش، وضمن فعاليات افتتاح الدورة 19 لمهرجان طنجة للفنون المشهدية،وضمن برنامج عروض المهرجان الوطني الأصيل للثقافات والفن بالدار البيضاء في دورته 5 ،ثم في إطار الاحتفال باليوم العالمي للمسرح بمدينة مشرع بلقصيري.

مسرحية “بوبريص” اقتبسها الدكتور أنس العاقل عن مسرحية “الأعمى والمُقعد” للكاتب دراماسينا بتراجا وأخرجها أحمد حمود.  وهي من تشخيص: الحسين أغبالو وعثمان سلامي، إنارة ياسين الزاوي، سينوغرافيا أحمد بن ميمون، وفي إدارة الفرقة والإنتاج ياسين البوقمحي.

الحكاية/الحدوثة: لعبة البصر والبصيرة

مسرحية “بوبريص” والمقتبسة كما سبق الذكر عن مسرحية “الأعمى والمُقعد” للكاتب دراماسينا بتراجا تصور تلك الأنانية التي تتوارى داخل شخصية المستضعفين، وتغولهم حينما يحظون بقدر قليل من القوة والسلطة، وكيف يتحولون إلى مفترسين! إنها مسرحية عن طائفة الأنانيين!

تدور أحداث مسرحية “بوبريص” خلال الطريق إلى ضريح شيخ يُبعث مرة كل مائة عام كي يعيد للعميان بصرهم ويشفي المشلولين.

 

فقد ساعد “حمدون” المقعد “شحيمة” الأعمى على الفرار من أولاد بوبريص الذين كانوا يستغلونهما في الشحاذة، ويعاملانهما معاملة الإذلال والاحتقار وتنتفي فيها شروط المعاملة الإنسانية.

 

لكن، خلال الطريق، يلتمس “الشحيمة” من “حمدون” أن يمنحه قسطا من الراحة فقد أعياه ثقله فوق كتفيه بعدما حمله طويلا. لكن “حمدون” يرفض ذلك، بدعوى أنهما سيخلفان موعدهما مع بركة الشيخ. لكنه بالمقابل، يمنيه بحياته الجديدة التي سيحظى بها بعد عودة بصره وتخلصه من استعباد أولاد بوبريص.

 

لكنهما، حينما يقتربان ويتأكد “الشحيمة” بأن بركة الشيخ قد أصبحت في متناوله، يحاول أن يستأثر بها بمفرده. فيستغل الفرصة ويهرب من حمدون مقررا تركه لوحده في الغابة عرضة للذئاب.

 

يحاول “حمدون” استعطافه بكل الطرق، لكن دون جدوى. لقد قرر إكمال المسافة المتبقية وحده، عوض تحمل ثقل حمدون المقعد.

 

ولأنه أعمى فإنه يفقد الوجهة ليصطدم بنهر، فيستغل “حمدون” الفرصة كي يبرز له الحاجة إليه وبأن مصيرهما مشترك. بل ويصور له النهر مليئا بالتماسيح. ليقرر “الشحيمة” حمله من جديد، ويصلان إلى ضريح الشيخ الذي يلوح في الأفق.

 

وحينما يتأكد “حمدون” أنهما وصلا يطبق بركبتيه على عنق “الشحيمة” ويخنقه، فقد وصل إلى وجهته، ولم يعد بحاجة إلى “حمدون”. تعود للشحيمة القدرة على الحركة والمشي، فيحاول أن يصرخ كي يشكر الشيخ على بركته ويطلب منه بركات أخرى، لكنه يكتشف بأنه فقد قدرته على النطق. لقد أصبح أبكما. ثم بعدها، فقد بصره دفعة واحدة.

 

الرؤية الإخراجية: تقنيات مسرحية مقتصدة لفرجة أقوى

يعتمد التصور الإخراجي للعرض المسرحي “بوبريص” على شقين:

الأول فكري:  من خلال إبراز حجم أنانية المستضعفين حينما يحصلون على قدر صغير من القوة، وتصوير الاستغلال والإذلال الذي يمارسونه في حق بعضهم البعض..

 

إذ يغوص العرض في الدقائق الصغيرة لسيكولوجية الإنسان المقهور ليبرزها على الركح، مصورا ذلك التناقض الذي يعتري شخصية الإنسان المقهور بين وضعتي الغطرسة واستدرار الشفقة، لأن إثارة الشفقة سلاح المستضعفين.

 

والثاني جمالي:  إذ يركز العرض على فرجة الممثل، من خلال سلسلة الأفعال الفيزيولوجية وشاعرية التعبير الجسدي، والاشتغال على المساحة الفارغة، لأن جسد الممثل هو الذي يؤثث الفضاء، بينما ترسم الإنارة المسرحية معالم الطريق داخل الغابة مع بعض المؤثرات السمعية.

 

إن هذه التجربة المسرحية المتفردة تعود بالعرض المسرحي إلى طابعه المقتصد في استعمال التقنيات المسرحية، لتخلق فرجة حية قوامها الممثل، المتفرج، والمساحة الفارغة، لتجعل المتلقي يواجه الحقيقة العارية، أو ذلك “الجين الأناني” المتأصل في الطبيعة البشرية بتعبير ريتشارد دوكنز، لأن الإعاقة عند شخصيات العرض مجرد استعارة للإعاقة الأخلاقية عند طائفة الأنانيين!

 

يقف العرض عند الحدود الفاصلة ما بين الدراما وفن الأداء، من خلال الاحتفاء بفرجوية التعبير الجسدي، لكن في سياق حبكة مسرحية أحكم إعدادها الكاتب الدكتور أنس العاقل، حيت اشتغل على تبيئة النص داخل السياق الثقافي الراهن، وإبراز معالم الشخصيات من خلال صراع أساسه الإحساس بالدونية، والذي سرعان ما يتحول إلى إحساس بالتفوق عند صاحبه، حينما يحصل على قدر قليل من الامتياز مقارنة بأقرانه من المُستضعفين.

 

كما أن شخصية الأميرة الصغيرة النائمة في النص الأصلي، تحولت في النص المقتبس إلى شيخ يستفيق يوما كل مائة عام ليمنح بركاته للمقهورين. إنه غودو الجديد، لكنه خلال هذا النص يحقق وعده خلافا لغودو صمويل بيكيت. ولذلك أعطى للإخراج المسرحي مساحة كبيرة من أجل التأويل الركحي، حيث نلمس بأن المخرج المسرحي أحمد حمود أبدع وصفة إخراجية من خلال شعرية بصرية، حيث يعتلي المُقعَد ظهر الأعمى طيلة مدة العرض، وتصبح محاولة الفكاك منه تمرينا في التعبير من خلال شعرية الجسد وفرجويته.

 

التشخيص: آليات الممثل في مواجهة القسوة والضعف

 

إن الممثل المعاصر يتجاوز منطوق النص ليبرز ما وراء النص، وهذا ما نجح فيه بشكل كبير كل من الممثل الحسين أغبالو الذي جسد شخصية الأعمى، والممثل عثمان سلامي الذي جسد شخصية المُقعد، فلقد جمعا بين مهارة بناء الشخصية وقدرات التعبير الجسدي الذي يدفع قسوة العرض إلى حدودها القصوى،

 

لدرجة أن المتفرج يحس بعجزه أمام عدم قدرته على إيقاف هذه الإهانة في حق إنسانية الإنسان، والتي تحدث مباشرة أمامه على الخشبة. يود أن يصرخ لكن ثمة صوت بداخله يقول له: لستَ مستضعفا ولا مُعاقا. إنك أفضل حظا في وضعية المُقعَدِ على مقعدِك بقاعة العرض. إنه عصر اللامبالاة فلا تنشغل بمأساة لست مسؤولا عنها، ولا تَمُسُّ وضعيتك المريحة فوق مقعدك الأثير.

 

ضوء وظل: اللامرئي عبر المرئي ركحيا

 

يقوم العرض على ثنائية الضوء والظلال، حيث نرى بالمقابل ظلي كل من المُقعد والأعمى على خلفية الخشبة وجوانبها، تارة محدبة وتارة مقعرة، بينما يغطي بساط السيرك أرضية الخشبة المطلية بالطين، ليصطبغَ الجسد العاري بالعار الإنساني. إنها السينوغرافيا التي لا تنشُد الإبهار، بل تظل وفية للنص الدرامي مقترحة تأثيثا سمعيا وبصريا يبرز فلسفة العرض المسرحي.

 

هذا التقشف في التقنيات المسرحية يجعلنا نرى ما لا يُرى بتعبير بيترك بروك، إظهار اللامرئي من خلال المرئي، إذ تكفي تلك العصا الطويلة التي يمسك بها الأعمى طيلة العرض، وذلك الكيس القماشي الذي يحتفظ فيه المُقعد بزادهما، وذلك الرداء المهلهل الذي يستر عورتيهما، كي يتخيل المشاهد مسارا ماراطونيا داخل الغابة بالليل، وماضيهما الموسوم بالإهانة مع أولاد بوبريص؛

 

إنه الوزغ الذي يمارس بطشه على الزواحف الأصغر منه، لكنه يهرب ويسمح في ذيله كلما أحكم الأقوياء قبضتهم عليه.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock