مقالات ودراسات

الناقد “سيار تمر صديق” يكتب: “فاضل سوداني يتابع ماورائيات الأحداث وإنعكاساتها على الواقع”طقوس بصرية للبحث عن الجمال في مسرحية الرحلة

مقال بالصور..


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

سيار تمر صديق / دهوك 

ناقد من اقليم كردستان

 

مقدمة:
عرض الرحلة تأليف وإخراج د فاضل سوداني وإنتاج مديرية ثقافة دهوك . وتميز العرض برؤياه الإخراجية البصرية التي أصبحت هي اللغة المؤثرة في وعي المشاهد .
وقد إنبهر الجمهور بمفردات العرض المسرحية . وماكتبه الباحث والناقد سيار تمر صديق في بحثه والذي طرح فيه رؤيته الأكاديمية للعرض يدلل على فهمه العميق لدلالات وتأويل التأويل في هذا العرض واعتبرها طقوسا مسرحية للبحث في الجمال .
ـــــ ــ ــــ
(أنّني أحاول جاهدا أنّ أكون نفسي، ولا يهمنِي كثيرا هل يقبلُ الناس أَم يرفضون ذلك)
فينسنت فان غوخ
في صراعه الابدي كان هو والتراكمات الكثيرة الراسخة في العقل الجمعي للمجتمع… صراع البحث عن الانسان، فكان قليل من الجمال يقابله كثير من الشر، قليل من الموسيقى وكثير من الاذان المغلقة، قليل من الفكر وكثير من الركود، قليل من الحب وكثير من الكره…
هكذا كان صراعه الابدي، حاول أن يبحث عن نفسه وعن ذاك الانسان المفقود في ذاته اول الامر، ولكنه لم يتردد وللحظة و لم يكن خائفا ايضا في ان يبحث خارج الوانه وخارج لوحاته.. فاخذ طريقه بين الكينونة والوجود من ناحية، وكأنه خاض الحرب مع فلاسفة الوجوديين المحدثين الذين حافظوا على التمييز بين الماهية والوجود ، لكنها قامت بعكس أولوية الماهية على الوجود، التي كانت في العصور الوسطى. حيث أن الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، الذي انتقد النظرية التوماوية عن العلاقة السببية القائمة على الاختلاف بين الله والعالم وكذلك النظرية المتعلقة بها والتي تميز بين الهوية والوجود. ومن ناحية اخرى بين التملك والكينونة حيث كتب عالم النفس (ايريك فروم) في هذا الصدد في كتابه ” الانسان بين المظهر والجوهر” عندما تطرق الى ان العالم في المجتمع الصناعي يهيمن عليه أسلوب التملُّك الذي يظن فيه الفرد أن قيمته تنبع مما يمتلكه،
بينما يدعو (فروم) إلى ايجاد أسلوب بديل أكثر إنسانيَّةً، وهو نمط الكينونة الذي يشعر فيه الإنسان بذاته ليس بمقدار الأشياء التي يتملَّكها، بل بمقدار إحساسه بالقيم الروحيَّة وجوهره الداخلي. وهو في صراعه هذا اي الفنان لازال يبحث عن الانسان …..
ذاك الانسان المعزول عن نفسه وبيئته ومجتمعه بل وحتى عن الكون بعيدا عن صراع الفلاسفة وعلماء النفس خلق لنفسه صراعه الشخصي وهذا ما دفعه كفنان يبحث عن العلاقة بين ما ينتجه من فن وبين الصيغة التي يتلقاها افراد المجتمع وبكل مكوناتها وحالاتها المخفية، والمعاشة والواضحة كزهر عباد الشمس وهي تستمد النور من السماء،
هنا تتشعب الحياة في وجهه ويجد نفسه امام تناقضاتها تلك. وامام رؤية الفنان ومنطلقه الفكري والثقافي يقابلها زخم التناقضات الاجتماعية والفكرية لحياة منفية خارج ذات الانسان بشكل عام والانسان الفنان على وجه الخصوص وهذا ما يجرنا الى تلك الحالة الاغترابية التي يعيشها الفنان بعيدا عن متطلبات المجتمع السطحية ونظرتها الى العمل الفني والفكر والثقافة ومتطلبات بناء الوعي والتحسس بالقيم الجمالية التي تدفع الفرد لان يكون جزءا بناءاً في المنظومة الجمالية ونظاما داعما للفنان في اعطاء مهمته الفنية بعدا جديدا يتغلغل في تسربات المجتمع ويحولها الى نظام فكري يواجه بعضه البعض لينتج نواة تؤسس عليها الابداع ويبرز ذاك الانسان المغترب بمفهومه الوجودي .
وبالبحث عن اكتشاف حياة حقيقية من خلال التطهير باللون والجسد والبحث عن الفردوس المفقود من خلال لوحات حفرت في ذاكرة الانسانية من (آكلو البطاطا) و(مزهرية بها خمسة عشر زهرة دوار الشمس) و(المقهى الليلي) و (رصيف المقهى أثناء الليل) و(غرفة النوم) (الكرم الأحمر) و(ليلة النجوم) و (حقل القمح وشجرة السرو في هوت جالين بالقرب من إيجاليرير) و (لوحة بورتريه الطبيب غاشيه) و (حقل القمح والغربان) …. وغيرها من اللوحات للفنان فينسيت فان كوخ الذي قال : – ” وما فائدة الحياة ، إذا لم يكُن لدينا الشجاعة لتجربة كُل شيء.”
وها هو الجديد، مسرحية الرحلة للكاتب والمخرج فاضل سوداني وتمثيل كل من (سيار طيب عبدالله – كاروان جرجيس محمد – ذين محمد شريف –هيفان شعبان) عمل عرض على مسرح قاعة محمد عارف جزيري في محافظة دهوك لمدة ثلاثة أيام اعتبارا من 5 تموز الجاري.
الإنسان الحر
العمل من انتاج المديرية العامة للثقافة والفنون في دهوك. عمل تبنى فكرة الانسان الحر، وبحث عن الفنان في ذاك الانسان ، فنان لديه فضول لاكتشاف خبايا ذاك الكون الشاسع الذي يسكن ذاته بهدف تحقيق القيم الجمالية فيستمر في البحث طويلا ويفكر ويخلق القنوات التي يمكن من خلالها ان يؤسس لبناء علاقات متينة بينه وبين المجتمع فيطرح فكره وفنه فيصدم بتيار من الرفض وقتل الجمال فيرجع الى ذاته وكانه الشخص الذي اصابه البلادة ولم يقدر على التكيف مع كل ماهو خارج عن منزله … رفته .. الوانه … فرشاته .. لوحاته .. كرسيه.. ملابسه الملطخة بالالوان وكل ادواته التي تمطر لونا … وتغني جمالا، وكانه غارق في جنته التي تؤنسه بعيدا عن العيون المتربصة التي تتمنى سقوطه فيقف هو جدارا وخلف ذاك الجدار تتجلى كل اسرار الحياة الغامضة والواضحة والتي ليست اقل سرا من ما هو مطروح في الصوره التي يبنيها في عرضه المسرحي او في كل مظاهر الوجود التي يعيشها الممثلون ويتعايش معهم الجمهور ..
اذن يمكننا القول ان اي نص او عمل مسرحي يؤسس وفق ما ذكرناه ويتضمن ذاك المفهوم الذي يبحث عن علاقة الفنان بمجتمعه بهدف تحقيق القيم الجمالية في الحياة فانه بلا شك يخوض معركة اوسع تدور احداثها عن العنف الموجه ضد الذات الخلاقة المبدعة وضد كينونتها … هذا العمل المسرحي الذي يبحث عن ماورائيات الاحداث وانعكاساتها على واقعنا بالاعتماد على الصورة وبصريات العرض المسرحي كبديل للغة الحوار وغايته تحقيق البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي البصري والذي تبناه المخرج واسس معمله المسرحي عليه،
حيث يبدأ بخلق عرض مسرحي يستند على النص البصري وديناميكية المفردات والتي يجب ان تتوافق وتتآزر مع الحركة والموسيقى والبنية الكلية للعرض وديناميكية جسد الممثل المتواجد في كل زاوية من زوايا الفضاء المسرحي سواء بشكله الخارجي المعبر او بذاكرته الذاتية المطلقة. هنا عمل المخرج على ذاك البعد، البعد الرابع والذي هو رؤيا بصرية في الفضاء المسرحي من خلال جملة من المرادفات التطبيقية والعملية الاخراجية والرؤيوية.
اي بمعني العمل على كشف اسرار الحاضر والتنبؤ باسرار المستقبل الذي يبقى هاجسا مخيفا يقلق الانسان ويضطره الى اتخاذ اساليب وميكانزمات قد تنجيه من قلقه المستمر الذي يعيشه بحثا عن مصدر ذاك القلق و طريق السفر الى ذاك المجهول الذي قد يكون وجودا او قد يكون عدما؛ اما الماضي فقد عمل المخرج على توظيفه بشكل مثالي حيث استلهم الماضي وجمعه واختصره في مأساة الفنان فان كوخ كخلفية واطار مجسد لمأساة قد يتعرض لها ويعيشها اي فنان آخر وفي أي مكان وصب كل ذاك الماضي في ذاكرة الممثل وتحديدا في ذاكرة جسده و دفعه كل ذلك لأن يبني خيطا او جسرا يوصل بين كل تلك التراكمات الماضية والميثولوجيات والغيبيات الراقدة منذ زمن بعيد في جسد وعقل الانسان ويربطه بالحاضر.
المخرج استطاع ان يجمع كل ذلك في خطوتين اعتبرهما هامتين واساسيتين في هذا العمل. الاول هو قدرته على بناء واكتشاف طاقة مخزونه داخل الممثلين واستطاع بحرفية ان يسرقها ويوظفها لخدمة العمل كمنظومة موحدة بين جسد الممثل والصورة البصرية والطقس بشكله الاعم. والثاني هو قدرته على ايجاد علاقة بناء بين كل تلك المفردات ولكن العلاقة لم تكن مستقرة وهذا ما اعطى قيمة فكرية و فنية وجمالية اكثر للعمل حيث نجدها مليئة بالتناقضات والتوافقات والخروج عن المألوف والرجوع الى المألوف والسفر عبر الزمن بدأ بتاريخ مأساة فنان انطباعي عبرعن محطات نضجه الانساني والفكري والفني من خلال لوحات كانت لحضورها على المسرح وجدران القاعة ابداعا اخر خارج عن التضمينات الصورية المتواجدة حيث نجدها احيانا مكملة واحيانا اخرى هي بحد ذاتها عمل مسرحي بتوافقه مع الموسيقى والصورة المسرحية ككل.
اي يمكننا ان نكرر ما قاله المخرج نفسه في احدى لقاءاته انه يرتكز النص البصري على نقطتين اساسيتين تظهران كركيزتين لابد لهما ان تكونا في خدمة بصريات العرض وهما:
1- اللغة الحوارية البصرية (البعد البصري والمادي وغنى دلالالتها التأويلية).
2- لغة تداعي الانساق البصرية في الفضاء الابداعي البصري (اي الحوار بين ذاكرة الجسد وتداعيات الفضاء بما فيها ذاكرة الاشياء والانساق الاخرى، وبين الفنان البصري – المخرج والممثل – والمتفرج).
الطقس البصري:
وفي هذا الصدد يشير الناقد المسرحي الدنماركي(مارتن سكيفير) :-” ان اهم مبدا يقوم عليه الطقس البصري هو وضع مجموعة متعددة من العناصر والاشكال المختلفة في مضمونها اساسا بصورة متعاقبة او بدمج مدلولاتها وتناقضاتها بهدف خلق معنى جديد”. وهذا ما لاحظناه لدى مخرجنا فاضل سوداني كرؤية اخراجية حيث تميزت حركة هذه العناصر بايقاع مضطرب متعمد ياخذك بسرعة ويوقفك فجأة لتحفز ذاكرتك كمتفرج وتدمجها مع ذاكرة الممثل.وتوقظ فيك الجزء الميتافيزيقي اللامرئي ذاك الجزء من حلم الانسان الذي يخالف المألوف ويخاف ان يظهره للعلن اما خوفا من نفسه وذاته، او خوفا من سلطة اي سلطة كانت سياسية ،دينية عقائدية ،اجتماعية ، اصولية عشائرية….. الخ فرضت نفسها على كل جزئيات حياة الانسان وملكته واستعبدته وفرضت عليه قيمه وحمله تداعيات ليس له فيها حضور فظهر هو انسان باهت يخشى السلطة ولا يقوى على مواجهتها، فيتمرد على حلم الفنان ليعوض حلمه المسلوب وليقف موقف الجلاد على جمالية الفكر والفن وهكذا يتحول المجتمع من مستقبل للجمال الى قاتل ومنكر لها، احيانا فعله هذا لايتم عن قناعة وانما ارضاءا لسلطة تقف في وجه كل فكر جديد لا يتوافق مع طروحاتها فتخافها وتواجهها اما بالقتل او النفي
وهذا ما عاشه المخرج نفسه بعد ان نفي خارج وطنه وعاش الاغتراب فخلق نصا مغلقا في جنسه ومفتوحا في تأويلاته معتمدا على الشك و تأويل التأويل. لذلك نرى ان النص في مسرح الصورة يأتي على شكل فكرة يؤسس عليها نص العرض الذي يخلقه ويبدعه المخرج ومخرجنا له تاريخ كبير في التنظير في هذا المجال وله محاولات عدة لخلق نص بصري يواكب التطورات التي ظهرت مابعد الحداثة فآمن انه للنص قدرة على استنطاق الجانب البصري واحياء واظهار كل ما هو مسجون داخل جسد الممثل ويمكن التعبير عنه بشكل اكثر جمالية وتعبيرا من النطق به.
من خلال بناء علاقة هذيانية بين جسد الممثل والمفردات وكل الاشياء من حوله وذلك خلال ما اكده المخرج مرارا في قوله ان الممثل باستخدامه المطلق لاسرار جسده التعبيرية وعلاقته بالفضاء المادي المحيط به يعد حاله مثيرة واستثنائية اثناء تحقيقه للفعل والرؤيا في العرض. حيث يمكننا القول ان هذيان الجسد بذاكرته الذاتية والمطلقة يكون سببا في هذيان الاشياء التي تحيط به وحين يستخدمها المخرج ويوظفها فان تلك الاشياء تفقد وظائفها الواقعية وتتغير ماهيتها ووجودها فتعطي قيما ورموزا اكثر عمقا في معناه وفي وظيفته داخل الفضاء المسرحي الحوض وتحوله الى قبر حينا واحيانا الى مكان مقدس لتطهير النفس والجسد من الخطايا وحينا الى اداة نقل عبر فضاء الزمني للاحداث والمرآة والاقنعة وغيرها من الادوات ناهيك عن الجانب النفسي المتقن جدا في بناء الشخصية مستفيدا من الابنية الشخصية عند(كارل يونج)) الانا – الذات – الشعورــ اللاشعور بشقيه ” الفردي و الجمعي ” ــ القناع ــ الاتجاهات ” انبساط وانطواء ” ــ الظل وغيرها)
كل ذلك كان له مكانا واضحا في العمل مثلا الاقنعة المعلقة بمفهومه المسرحي و مدلولاته النفسية كانت واضحة وفق ما فسره (يونك) بانه اي القناع هو الذي يخفي وراءه الفردية الخاصه بالفرد ذاته . فالانسان يتحصل على القناع من الدور الذي يطالبه المجتمع بالقيام به؛ وكلما كان الدور يناسب وجدان الانسان أكثر كلما كانت حدة القناع في التأثير أقل وكلما كانت الغلبة لتحقيق الذات أكثر. اي يمكننا ان نشير الى مفهومه بشكل اخر بانه وسيلة تراضي بين الفرد و المجتمع، وسيلة تكونت عبر ملايين السنين، لأجل أن يتقبلنا المجتمع، ولأجل أن نتوافق مع المجتمع، نقوم لا شعورياً، بإرتداء القناع، لنتماهى وسط ما يجب أن يكون في مجتمعنا، ولهذا ولكي نتأقلم مع المجتمع، فإننا نتعلم أليات لا شعوية، كي نتأقلم مع وسطنا المعاش، ومن بين الأليات،القناع.
وهو صراع ابدي صراع الذات الزائفة في مواجهة الذات الحقيقية. ومواجهة كل ذاك الزيف وبدء رحلة الطريق نحو قبول الذات النقية ذات الجمال والفكر والصفاء، المخرج استطاع توظيف ذلك بشكل سلس وسهل ومن خلال ذاك التوظيف انتج صراعا متواليا وعلى مراحل…. صراع الفنان مع الاخر، اولا مع مجموعة من النقاد البلهاء السطحيين الذين يحاولون في كل مرة قتل الجمال وتقيم العمل وفق معطيات شخصية وضمن اطار مجتمعي راكد غير متقبل وغير مقيم تقيما مدروسا لكل ماهو جديد، وثانيا مع المرأة الجبلية ذات الوشاح الاحمر التي اعلنت عن نمط صراعها ورفضها للمحتوى الجمالي الذي يبدعه الفنان وحولت صراعها معه الى مسألة بقاء او عدم، وحفزت كل الاشياء والادوات من حولها بما فيهم البشر الى أن يقفوا موقفا معاديا ويزيدوا من مأساة فنان اراد ان يبعث الحب في الناس واراد ان يعيش بسلام وينبت الجمال في روح البشرية، والشي الملفت هنا انه المخرج حارب المرأة بذات الفنان المنقسمة وجعل الفنان يراقب الحدث خلف المرآة التي تعكس كلا الواقعين الواقع المعاش والواقع المأمول.
ما كان لمخرج عادي ان يوظفها مالم يكن راءٍ جيد ومتفرد ولايمكن لمخرج ان ينجح في استعمال وسائله التعبيرية اياً كانت تلك الوسائل بشكل مبدع مالم يمتلك دراية كافية بكل قوانين الخاصة بالتاليف المسرحي ليكون قادرا على خلق وابداع النص بادواته ووسائلة البصرية، وهذا ايضا ينطبق على مؤلف النص الذي عليه ان يكون ملما بقوانين الرؤيا الاخراجية، وفي هذا العرض كان المؤلف هو نفسه المخرج للعمل وكانت النتيجة ما افرزته العملية الرؤيوية التكاملية للعرض حيث تم تجسيد ذلك تسلسلا من خلال الحركة اولا، الفكرة ثانيا، الايقاع ثالثا، والكلمة رابعا، اضافة الى السيطرة الواضحة للرؤية البصرية لفضاء النص والعرض وفي هذا العمل استطاع المخرج ان يجمع المتشتت، ويشتت الجامع في توازنات خلاقة ومكتظة بالفكرة والجمالية، وموظفة بشكل جيد تعبر عن الحالة التي يمر بها الممثل والحدث،
بل ويمكن القول هنا ان المخرج في عملية بحثه لتكامل العرض ولغته تجاوز المألوف وبحث في ما وراء النص وفي ما وراء الايماءة وفي ما وراء الحدث وما وراء سينوغرافيا العرض وما وراء الميزانتسين والفضاء المسرحي. وكان كل ذلك واضحا من خلال عملية الاخراج والكيفية التي تم فيها اعداده لكل العناصر التي من شأنها أن تحدد الوسائل الظاهرة للعرض المسرحي سواء أكانت وسائل مادية ملموسة أو وسائل غير مادية هي بالاخير دلالات لها معاني قد تبقى ما ورائية او لا تبقى(هنا اعطى المخرج للمتفرج فرصه كي يحلل ويقوم بتأويل كل مشهد على حدا)،
ولكنها اي تلك الوسائل تغير من مجرى الحدث وتزيد من ثقلها وتتدخل في سير تسلسلها الذي قد تكون في اكثر من بقعة مكانية مختلفة، و في اكثر من فترة زمنية مختلفة. كما عمل على خطى من سبقوه مثل (مايرهولد) الذي عمل على اكتشاف معاني ودلالات جديدة للواقع من خلال علاقة الممثل بالمكان كسينوغرافيا وزمان وفضاء العرض بحيث تتحول افعاله الى دلالات واشارات ورموز؛ او ما فعله (بريخت) من تغير مفهوم العلاقة بين الجمهور والممثل باستخدام احد اهم وسيلة فنية وفلسفية وهو (التغريب) وذلك لتخليص المسرح من الوهم القابع في مسافة بعيدة جدا عن الجمهور، هو قربه من الجمهور وحاول بذلك التقريب معالجة مشاكل فكرية سياسية واجتماعية استلهمها من الواقع وعبر عنها باسلوبه القائم على بناء وهدم رؤية تقابلها رؤية اخرى اكثر نضجا. مسرحية(الرحلة) جمعت مدلولات ومعاني في صور تكشف الوجه الاخر لمفهوم الثقافة والوعي والمثقف وعبرت عن ذلك في صراعات متعددة داخل العرض صراع الفنان مع المجتمع ككل من ناحية. صراع الوجود والعدم..صراع الحب والكره… صراع الجمال والقبح… صراع الفكر والركود ….صراع الانسان مع الانسان…..صراع الانسان مع ذاته.
كل تلك الاحداث كانت متواجدة في صور بصرية معبرة ومع كل ذلك كان من ذكاء المخرج انه ابقى على المبدأ الاساسي في كل تلك الصراعات مبدأ الذي يقوم عليه طقسه البصري وهو وضع عدة عناصر واشكال مختلفة اساسا بصورة متعاقبة او دمج دلالاتها او تناقضها لانتاج معنى جديد. وتتميز حركة هذه العناصر والاشكال بايقاعها البطيئ ، مما يجعل مثل هذه العروض تحفر في ذاكرة المتفرج والمجتمع وقد اعتمد المخرج في هذا العمل على التوزيع التشكيلي البصري في بناء الصورة التعبيرية الحية مما يؤدي الى خلق صور حركية وبصرية متتالية،
اضافة الى استخدام التشكيل السينغرافي في الديكور ذا الدلالة التعبيرية، لكنه في ذات الوقت يعبر عن شمولية الفكرة، وكذلك استخدام فضاء المكان اللامسرحي. المسرحية تميزت في الاخير بابراز ابعاد متعددة من طقس بصري مليء بالتحولات الفكرية والنفسية معتمدا على سينوغرافيا متحولة في الاشياء والادوات وعلى ذاكرة جسد الممثل والموسيقى التي تواكب كلا الجانبين النفسي والجمالي الفكري للعرض وعلى البعد الميتافيزيقي واللامرئي في حلم الانسان القابع في مستشفى المجانين او الانسان الخارج عن جدران المشتسفى، حلم الانسان الفنان الابدي غير ان الموت في عروض مثل هذه يكون له حضور حتمي يرفرف دائما فوق رؤوس الممثلين والجمهور وكل ما يتكون منه المشهد، فنراه ينقض في اية لحظة ليمارس وجوده الازلي الابدي العبثي ،
ومع انه كان مشهد الموت في نهاية المسرحية مليئا بالشعورية وانقباض النفس وصراع البقاء لاجل انتصار الجمال وخلوده وبالرغم من استخدام الممثل في هذا المشهد كل حواس جسده ودفعها باقصى درجات التعبير والتحدي والمواجهة وبكل ما بداخله من همسات وانفعالات وقوة ورغبة في البقاء إلا انه في الاخير لم يبقى له سوا الصراخ بوجه كل ما هو متزمت وقاهر للجمال،
ويختصر مشهد موت الفنان ما حدث من صراع بين المرأة الجبلية التي تمثل العرف السائد من تراكمات العقل المغلق والمتصدي لكل شي جميل وبين ذات الفنان الذي يمثل كل ماهو رقيق وحساس وجميل وذو نسمة تمنح الروح السفر الى الابدي الى حيث الورود والموسيقى والحب.
مات الفنان ولكن بقيت اعماله في ذاكرة كل الازمنة وكل الامكنة وفي ذاكرة كل انسان وكل المجتمعات بل وكل الكون. بقيت لتعلن تحديا وصراعا عمره من عمر الجمال ليخلد الجمال ويبقيه ابدا.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock