الناقد صميم حسب الله يكتب عن: “مسرحية الـعنف.. العرض والعناصر الفنية
صميم حسب الله
ناقد وكاتب مسرحي عراقي
ـ
يعد العنف أحد الظواهر الاجتماعية التي رافقت الإنسان منذ نشأته الأولى ، وبحسب بعض الدراسات الإجتماعية فإن العنف سلوك فطري يراد به إلحاق الأذى بالآخر، بمعنى أنه يكتسب حضوره من فعل المواجهة الذي يتأسس بناء على خوف الإنسان من قوى الطبيعة المختلفة ، الأمر الذي يجعله سلوكاً يتماشى مع فطرة الإنسان في الدفاع عن نفسه ، إلا أن حركة الزمن وسعي الإنسان إلى تأسيس النظم الإجتماعية كشفت عن أنماط أخرى للعنف الذي تحول إلى سلوك سلطوي يعتمده زعيم القبيلة في فرض سلطته على الأفراد والجماعات ، وبذلك فإنه لم يعد سلوكاً فطرياً ،
بل تحول إلى سلوك قصدي يتم إعتماده للسيطرة على المجتمع على وفق تسلسل هرمي يبدأ من رأس السلطة وينتهي إلى سلطة الأب داخل العائلة ، والتي يراد بها فرض الهيمنة الذكورية على أفراد العائلة وممارسة فعل السلطة مستعيناً بأدوات العنف المتنوعة سواء كانت على المستوى الجسدي / المادي أو اللفظي/النفسي.
ولم يكن فن المسرح منذ نشأته الأولى بمعزل عن القضايا الإجتماعية التي يعد العنف جزءاً رئيساً من تكوينها ، ولاسيما ما يتعلق منها بالأساطير الإغريقية التي سيطر عليها السلوك العنيف الذي إتخذ أشكالاً مختلفة إعتمدت بمجملها على السلطة الدينية (الآلهة الإغريقية)، الأمر الذي دفع بالعديد من كتاب الدراما إلى توظيف العنف في المسرح سعياً وراء تحقيق (التطهير بالمفهوم الأرسطي) من اجل إثارة عاطفتي (الشفقة والخوف) عن طريق تقديم مقترحات فكرية وجمالية تسهم في إنتاج فعل الصدمة المضادة عند المتلقي وصولاً إلى خلاص المجتمع من العنف الذي لم يعد سلوكاً فطرياً بل تحول إلى سلوك مكتسب يتم ممارسته داخل المجتمع ، وقد تنوعت إشتغالات المسرح في تقديم أشكال مختلفة من العنف على خشبة المسرح ، ولاسيما مايتعلق منها بالعنف المادي أو العنف اللفظي ، أو السلوكي ، أو العنف الرمزي وغيرها.
بنية النص المابعد حداثي :
(الـعنف) .. عرض مسرحي قدم مؤخراً على قاعة (الفن الرابع) في تونس من إنتاج المسرح الوطني التونسي ، سينوغرافيا وإخراج (فاضل الجعايبي) سيناريو( جليلة بكار، فاضل الجعايبي) ، تمثيل ( جليلة بكار ، فاطمة بن سعيدان، نعمان حمدة، لبنى مليكة، أيمن الماجري، نسرين الموليهي، أحمد طه حمروني، معين مومني) ، موسيقى (قيس رستم)، وقد إختار المخرج التعامل مع أشكال متنوعة من العنف الذي يمارس داخل البنية الإجتماعية ولم يقتصر فيها على المجتمع التونسي بل تعداه إلى مايمكن ان نسميه (العنف العولمي) ، ذلك أننا نفترض جدلاً ان فعل العولمة لايقتصر على البنية الإقتصادية، بل يوغل داخل البنية الإجتماعية التي يعد العنف من أبرز مظاهرها في المجتمع العالمي ويكمن الإختلاف بين مجتمع وآخر في نوعية العنف الممارس داخل البنية الإجتماعية ، وقد إعتمد المخرج في كتابة (السيناريو) على منظومة النص مابعد الحداثي مستفيداً من تقنيات تعدد البؤر النصية وعدم الركون إلى التسلسل المنطقي للاحداث الدرامية الامر الذي بدا فيه النص/ السيناريو مجموعة من الحالات الإجتماعية التي مارست العنف أو كانت ضحية له ، بمعنى آخر فإن المخرج عمل على تقديم نماذج إجتماعية مختلفة إعتمد بعضها السلوك العنيف في محاولة لإيجاد شرعية للعنف داخل المجتمع ، الأمر الذي ترك معه المخرج الباب مفتوحاً للمتلقي لكي يكون مشاركاً فاعلاً في العرض المسرحي عن طريق تأسيس بنية نصية تعتمد المونتاج السينمائي يراد بها تقديم (النتيجة على السبب) داخل بنية نصية متشابكة ، الأمر الذي بدت معه الشخصيات مهزومة منكسرة بريئة ، أفاد المخرج منها في فرض السيطرة (عاطفياً ، وعقلياً) ومن ثم العمل على تهشيم الثوابت التي ركن المتلقي إليها والتي تمثلت بالتعاطف مع الشخصيات /الضحايا عن طريق إعتماد فعل الصدمة المضادة في تحويل الضحايا إلى مذنبين إعتمدوا العنف سلوكاً في إرتكاب الجرائم المختلفة التي تكون منها المتن النصي .
فضاء العرض وتركيب المشهد البصري:
إختار المخرج تأسيس فضاء العرض بما يتوافق العلامة الدالة التي أنتجها عنوان العرض إبتداء ، وليس إنتهاء بالجدار الكونكريتي الذي إكتسى باللون الرمادي الداكن تعبيراً عن قسوة الفضاء المسرحي ، فضلا عن توظيف المخرج للون الرمادي في الأزياء التي بدا واضحاً انها جزء من بنية المكان التي شكلت بمجملها ذاكرة جمعية احالت المتلقي إلى تلك الأمكنة الباردة التي يتم فيها عزل الافراد عن المجتمع لأسباب مختلفة منها مايشير إلى أن (المكان /السجن) ومنها ما يحيل المتلقي إلى (المكان / المحجر الصحي) ، فضلا عن إعتماد المخرج على قطع ديكورية أسهمت في تركيب المشهد البصري، بمعنى آخر فإن المخرج إعتمد على فضاء مجرد من المعنى ومجموعة من القطع الديكورية التي لاتشكل بمفردها معانٍ دالة، بل إن عملية تركيبها داخل فضاء العرض منحها القدرة على إنتاج المعنى عبر المزاوجة بين المفردات والسلوك التعبيري للممثلين ، كما في المشهد الأول الذي تم فيه تشكيل المعنى بين شخصيتين إحداهما من خارج (المكان /فضاء الحرية) ، والأخرى من داخل (المكان/ فضاء السجن) ، وقد عمل المخرج على تأسيس علاقة بينهما عن طريق لوح زجاجي مجرد من المعنى ،إلا ان عملية تركيبه على المنضدة منحت المتلقي القدرة على تكوين صورة المكان /السجن (اللقاء)، من دون الإستعانة باللغة الملفوظة والتي جاءت بعد تشكيل المعنى بوصفها تعبيراً لفظياً عن مضمون محايث للمعنى المتشكل عبر تركيب المفردات الديكورية .
فضلا عن أن المخرج أفاد من المساحة اللونية التي بدت واضحة على (الجدار/السجن) في تأسيس علاقة بين الشخصيات في إشارة إلى أن (الخارج /الحرية) ، مشابه (للداخل / السجن) على مستوى الحياة الإجتماعية ، بمعنى آخر فإن شخصيات العرض تتشارك في التعاطي مع العنف المهيمن عليها من دون أن تشعر ممايجعل شخصيات العرض تقع تحت إشتراطات (العنف الرمزي) الذي يتم ممارسته على الشخصيات من دون أن تدرك ذلك فهو بحسب عالم الإجتماع الفرنسي (بيير بورديو) ( عنف ناعم) يتغلغل في السلوك الإجتماعي ويتحول إلى علامات سمعية وبصرية، وبدا واضحاً إعتماد المخرج على هذا النمط من (العنف الرمزي) في إنتاج علامات دالة على فعل الهيمنة، ولاسيما مع شخصية (الأم) التي جسدتّها الممثلة (فاطمة بن سعيدان) التي تحتكم على سلوك أدائي دفع بالمتلقي إلى التعاطف مع شخصية (المرأة /البريئة) (المريضة) التي ألقي بها في (محجر صحي) إذ تشير بعض العلامات التعبيرية في سلوكها الادائي إلى انها تعاني من مرض (الزهايمر)، أما الشكل الآخر للسلوك فيتكشف عن طريق اللغة اللفظية التي إعتمدتها الممثلة (لبنى مليكة) في تجسيدها لشخصية (المرأة / الزائرة) عن طــــريق الكشف عن جريمة (الأم) التي قتلت ولدها وهي تتـــساءل ( لماذا لايأتي لزيارتها ؟) ، الامر الذي بدا فيه السلوك العنيف متغلغاً في سلوك (المرأة /القاتلة) لدرجة انها لم تعد تدرك جريمتها.
فضلا عن أن المخرج إعتمد على صياغة الرؤية الإخراجية عن طريق تقديم ثنائية (القاتل/ المذنب – البريء / القاتل) وذلك عبر تقديم نماذج إجتماعية متنوعة ، يعمد العرض فيها إلى تقديم نتائج السلوك العنيف ، ومن ثم يعمد إلى الكشف عن مرجعيات ذلك العنف المستشري في بنية المجتمع ، معتمدا على المزاوجة بين الفعل التعبيري والملفوظ النصي ، فضلاً عن توظيف المخرج للصمت المسرحي الذي بدا واضحاً في المشهد الأول على نحو خاص ، ثم تنوع إشتغال الصمت بحسب سلوك الشخصيات، الامر الذي أسهم في بناء الإيقاع المشهدي الإيقاع المشهدي الذي تحول من النمطية التقليدية إلى إلى منظومة شاملة في إشارة دالة على أن العنف داخل منظومة المجتمع لايعتمد الصرخات والانفعالات المباشرة ، بل يمكن أن يتسرب العنف داخل المجتمع عن طريق الصمت والتعبير الإيمائي والجسدي، كما في المشهد الاول والذي تدخل فيه (الزائرة) إلى فضاء (السجن/ المحجر) ، وهي تضع منديلاً للتعبير عن الرائحة الكريهة التي تسيطر على المكان، الأمر الذي يكشف عن حضور العنف الرمزي داخل السلوك الإجتماعي ، وقد بدا ذلك حاضراً في الثنائية المشهدية بين شخصيات (الشذوذ الجنسي/ مثليو الجنس) إذ إختار المخرج التعاطي مع هذا النوع من الشخصيات من اجل الكشف عن حالة الإستلاب التي تقع على تلك الشخصيات داخل المجتمعات التي ترفض حرية الإختيار ، فضلا عن تحول تلك الشخصيات الإنعزالية إلى شخصيات تمارس العنف على نحو مبـــــاشر ، إذ تتحول إحدى تلك الشخصيات إلى سلوك مغاير مستفيداً من السلـــــــطة التي تمنح لرجال الدين ، الامر الذي يدفعه إلى الخلاص من القرين الجنسي ، سعياً وراء السلطة التي تتوافر في المؤسسة الدينية .
أفاد المخرج من نظام العلامات في التعبير عن منظومة العرض ، ولاسيما في الحالة التي يتم فيها تجسيد شخصية (الأم) التي قتلت طفلها ، وفي رحلة البحث عن جثة القتيل ، يتم العثور على جثة رجل (كبير في السن) وهي إشارة دالة على أن (المرأة/ الأم) أرادت قتل الهيمنة الذكورية التي يتم تربية الطفل على مفاهيمها، بمعنى أن المخرج عمل على تأسيس رؤية مستقبلية لمواجهة السلوك الذكوري يتم إعتماده في تربية (الطفل/الذكر/ الرجل)، الأمر الذي جعل المخرج يتجه إلى قتل الطفل الذي يمثل الحاضر والمستقبل العنيف .
وفي إشارة أخرى نجد أن المخرج إختار مفهوم الثورة بمعناها السلوكي الذي يتأسس على فعل العنف ، في معادلة إجتماعية تتأسس على أن (العنف أبن للثورة / والثورة أم للعنف ، العنف يضاجع الثورة / وينجب الفوضى منها) ، وهي معادلة دفعت بالمتلقي إلى العودة إلى الميثولوجيا الإغريقية متمثلة بالصراع الازلي بين أوديب الأبن/الزوج ، أوديب القاتل /البرئ ، أوديب /السلطة ، أوديب/ الخيانة ، في ثنائيات متكررة داخل البنية الإجتماعية ، وهي علامة دالة على أن ولادة الثورة من رحم العنف لايمكن ان تنتج مجتمعاً يؤمن بالحرية والسلام ، بل على العكس فإنه سرعان مايعود إلى تبني السلوك العنيف في مواجهة المتغيرات الإجتماعي والسياسية من دون الركون إلى العقل الســـلمي ، وهو بذلك يؤكد على ماذهب إليه (نيتشه ) في إعتماده مبدأ القوة في بناء المجتمـــــعات الإنسانية بوصفها بديلاً عن الضعف الذي ينتج مجتمعات خاضعة للسلطة التي تعتمد العنف في الهيمنة على السلوك الإجتماعي.
الأداء اللفظي والإنضباط السلوكي:
بدا واضحاً أن أسلوب عمل المخرج (فاضل الجعايبي) مع الممثل يحتكم إلى ثوابت معرفية ، بمعنى ان السلوك التعبيري الذي إمتلكه كل ممثل داخل منظومة العرض يعتمد على منطلقين أساسيين احدهما يرتبط بالسلوك الاحادي الذي يتأسس بين (ذات الممثل / وذات الشخصية ) ، أما الآخر فإنه يتبلور عن طريق مايتم إنتاجه في المستوى الاول ويدخل في منظومة العرض الجمعية التي يتشارك فيها الممثلون ، ولاسيما مايتعلق منها بالإنضباط داخل نسق الإيقاع ، والضبط التعبيري ، وقد بدا ذلك حاضراً منذ المشهد الاول مع الممثلة (لبنى مليكة) وليس إنتهاءا مع الأداء المنضبط للممثلة القديرة (جليلة بكار) التي لم تدخر جهداً في الإنتظام ضمن النسق الادائي العام ، فضلا عن إعتمادها سلوكاً تعبيرياً متفرداً في تعاملها مع قسوة الجدار الرمادي في لحظة الإنهيار الأخيرة، الأمر الذي بدت فيه الشخصيات داخل منظومة تركيبة لايمكن التخلي عن أحدها ، بمعنى أن ممثلو العرض إستطاعوا الحفر في متن الشخصيات السردية وتحويلها إلى أفعال جمالية أسهمت على نحو فاعل في التعبير عن مفهوم الـعنف الذي عمل المخرج عليه ، فضلا عن أن أداء الممثل (نعمان حمدة) بدا منسجماً مع الشخصية الدرامية والسلوك التعبيري الذي بدا واضحاً عن طريق الإيماءات التي إعتمدها الممثل في التعبير عن الحالات المختلفة ، من جهة اخرى فإن موسيقى (قيس رستم) جاءت منسجمة مع منظومة العرض سواء على المستوى البصري أو على مستوى منظومة الاداء الذي إنقسم إلى قسمين أحدهما صامت والأخر لفظي يعتمد المنطوق النصي، وكلاهما أسهم في التعبير عن (الـعنف) الذي تعاني منه المجتمعات الإنسانية التي أحالها العرض إلى سجن كبير تتزاحم فيه الرغبة في قتل الآخر المختلف في اللون والدين والعقيدة .
ـــــــــــــ
الزمان