مقالات ودراسات

الناقد والباحث المسرحي أحمد بلخيري يكتب: النبي والفانتاستيك والاحتجاج في “مقبرة” العراقي “علي العبادي” (3ـ 3)


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

بقلم الباحث والناقد: أحمد بلخيري

ـ

3ـ3

المقارنة

هناك إذن تشابه بين الشخصيتين على مستوى الوظيفة وإن اختلفت النتيجة. وظيفتهما معا، كل على حدة، إيجاد حل للمشكل/المأزق. فشل القَواد في ذلك، وهو فشل ذاتي. أما النبي فإنه لم يصل إلى النتيجة المرجوة بفعل عامل خارجي وليس بسبب ذاتي. وهناك اختلاف بينهما على مستويي، الصفة، والرؤية الفكرية. اختلاف واضح وجذري بينهما، أدى إلى أن تغُضَّ الجهة الخفية، التي أطلقت الرصاص، الطرْف عن القَواد؛ وبالمقابل، قتلت النبي. إنها خفية لأنها ليست حاضرة على مستوى الشخصيات، وحتى على مستوى الحوار الدرامي، اللهم إلا إذا تم اعتبار “القط” هو هذه الجهة بالذات، وهذا تأويل ممكن. ومع هذا التأويل، يجوز القول إن هذه الجهة هي التي كانت سببا في مآسي الشخصيات الحية والميتة على حد سواء.

إن قتل “النبي” إعدام للعقل المفكر، والمنظم، والموجه، الرافض للظلم. لهذا قُتل “النبي” تحديدا دون سواه. ويمكن تفسير ذلك بكون الجهة التي أطلقت الرصاص، كانت تتابع وترصد ما يجري في المقبرة خفية؛ قَتل يدل على استمرار الظلم. وعلى هذا الأساس، فللنبي أطروحة فكرية تناقضها أطروحة أخرى مضادة. هذا التضاد عبر عنه إطلاق الرصاص، وهو جزء من اللغة الدرامية عموما في هذا النص الدرامي/المسرحي.

الحوار الدرامي، والسياق الدرامي المباشر، في هذا المشهد الأخير، لا يحددان ولا يوحيان بالجهة التي أطلقت الرصاص الذي بسببه قُتل “النبي”. لكن إذا وضعنا في الحسبان النص الدرامي برمته، هل يمكن القول إن “القط” هو الذي وقف خلف إطلاق الرصاص منعا للاحتجاج؟ وهل هو الذي كان سببا في مآسي الموتى والدفانين والأحياء؟. الداعي إلى هذين السؤالين هو أنه هو الذي سرق الاسم حسب الدفان الثالث. وكان هذا الاسم قد فُقد منذ سنوات “البارود والدخان”.

الفضاء والزمن الدراميان

جرت الأحداث الدرامية في فضاء درامي واحد هو المقبرة. لهذا الفضاء علاقة مباشرة بالأحداث الدرامية كلها في النص الدرامي. لذا يمكن القول إن الأحداث الدرامية هي التي جعلت هذا الفضاء واحدا لم يتغير.

أما الزمن الدرامي، فتم التعبير عنه من خلال الحوار الدرامي. ومنه: “منذ أسبوع”، و”منذ تلك السنوات التي فقدت فيها اسمي”، و”غيبكم الموت لسنوات عدة”، و”عمر المقبرة”، و”أزمنة البارود والدخان المتقاربة والمتباعدة”، و”ماذا سأقول له”. هذه الأزمنة تتعلق بالماضي، عدا الملفوظ الأخير الذي يوجد فيه حرف السين الذي تصدَّر فعل “أقول” حيث يتعلق الزمن فيه بالمستقبل.

الأزمنة المتعلقة بالماضي مرتبطة بالموت، والمقبرة، والبارود والدخان، وقد كانا، أي هذان الأخيران، في أزمنة “متقاربة” و”متباعدة”. نتيجة هذه الملفوظات الزمنية هي الحرب، ونتيجة هذه الأخيرة هي الموت. إضافة إلى الزمنين الماضي والمستقبل، هناك الزمن الحاضر، زمن الحوار بين الشخصيات الدرامية، مثلا “أنا أقترح”. في هذا الزمن الحاضر يندرج أيضا فعل الأمر مثل:”قل لي”.

وهناك زمن آخر يمكن وصفه بالزمن النفسي. فتحت وطأة “قحط الموت”، كان التتبع الدقيق، في المتخيل الدرامي، للزمن العادي. هذا التتبع الدقيق يمكن تفسيره بالحالة النفسية للشخصيات الثلاث بسبب عدم وجود الموت. يدل على هذا ما يلي:
“لنبي : كم يبلغ عمر هذا القحط ؟
الدفان الثالث : أسبوعاً .
الدفان الثاني : وثلاث ساعات .
الدفان الثالث : وثلاث دقائق ، حتى الآن”.

كما يدل على هذا الزمن النفسي قول الدفان الثاني:” ماذا سأقول إلى كل هؤلاء (يشير إلى الموتى) بعد كل هذا النضال مع الأرض؟”.

***

وقد تخللت هذا النص الدرامي أحيانا السخرية. ومنها: “يذهبان إلى القَواد ويلقيان التحية بطريقة تاريخية ساخرة:
“الدفان الأول: السلام على مولانا المعظم.
الدفان الثاني: السلام على مولانا الجليل”.

إن الطريقة الساخرة في إلقاء التحية، جعلت للملفوظ الدرامي ظاهرا وباطنا. في الظاهر هناك التعظيم والإجلال، وفي الباطن هناك العكس: السخرية التي هي نقيض لهما أي للتعظيم والإجلال.

كما تخلله الهزل أيضا، هزل في سياق الجد:
“النبي: هذا المأزق الذي أنتما به، القحط.
الدفان الثاني: هل هناك أمل في ذلك؟
الدفان الثالث: أمل حبيبتي، ماتت قبل أن يصيبنا القحط.
الدفان الثاني: أمل من؟
الدفان الثالث: حبيبتي.
الدفان الثاني: أيها النبي أمل ماتت.
النبي: أنا أقصد ثمة رجاء في إزالة القحط”.

من تداعيات هذه السخرية، تظاهر الدفان الأول والدفان الثاني بعدم معرفة معنى الاحتجاج، والتساؤل إن كانت هذه الكلمة لها علاقة بالأكل، وهذا يوحي بالجوع. وقد اتسم الحوار الدرامي عموما بالجمل القصيرة. وقد كان أحيانا بكلمة واحدة.

مما سبق، نستخلص أن عنوان النص الدرامي نكرة، من الناحية اللغوية، لذا لاتوجد أية علامة مائزة فيه تخص المقبرة. لكن الأحداث الدرامية قدمت عنها، بواسطة ملفوظات الحوار الدرامي بين الشخصيات، عددا من العلامات. ومنها قول الدفان الثاني عن المقبرة: لقد “أضحت مستودع أسرار للكثير من تداعيات البارود وألسنة اللهب”. هي إذن مستوع للتداعيات. لم يكن فيها “البارود وألسنة اللهب”، ولكن توجد فيها تداعياتهما. وهي، أي التداعيات، الآثار الناجمة عن ذلك البارود وتلك الألسنة. من هذه التداعيات/الآثار جثث أجساد منها المبتورة، ومنها الدامية، ومنها المتفحمة كما ورد في النص.

وجوابا عن سؤال سابق عمن هو الجلاد؟، يمكن القول إنه “القط”. هذا، والجدير بالإشارة هو أن الشخصيات الثلاث في النص الدرامي بدون أسماء هوية. سبب ذلك، وإن كان على “لسان” شخصية واحدة، هو قول الدفان الثالث عن اسمه: “اسمي، فقدت اسمي منذ تلك السنوات التي كان فيها الدخان لغة للحياة”. وكان قد سرقه منه “القط” حسب قوله. هي إذن شخصيات بلا أسماء أي بلا هوية. لذا، لبت دعوة النبي وشاركها الموتى، ولسبب واحد هو كون الجميع ضحايا. وهذا هو الذي وحَّد “الموتى” والأحياء، بقيادة “النبي”، من أجل التظاهر ضد الظلم لأن هناك مظلومية حسب قول “النبي”.

هوامش :
*علي العبادي، مقبرة، موقع المسرح نيوز في هذا الحوار تم وضع الدفان الأول مكان الدفان الثاني، والعكس بالعكس:
“الدفان الأول: وكيف ذلك؟
الدفان الثاني: لا أعرف لا بد من سبيل لذلك”.
1-Patrice Pavis, Dictionnaire du théâtre, Armand Colin, 4 Ed, p/603, 2019.
“معجم المصطلحات المسرحية”، مطبعىة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2006، ص/118، (إعداد أحمد بلخيري) .
2- محمد القاضي وآخرون، معجم السرديات،دار محمد علي للنشر، تونس، ط/1، 20120، ص/ /305.
3- المعجم الوسيط، ج/2، ص/716.
4- معجم السرديات، ص/305.
5-ابن منظور، لسان العرب، ج/7، ص/391.
6-المعجم الوسيط، ج/2/ ، ص/ 765.

 انتهى


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock