مقالات ودراسات
بالصور.. “نوح الحمام “.. الصراع الأبدى بين النور والظلام، ومن منهما الفائز!
المسرح نيوز ـ مقالات | كمال سلطان
ـ
تتميز العروض التى يتم تقديمها في قاعات صغيرة بعيدا عن مسرح العلبة الإيطالي، بأنها تخلق نوعاً من الحميمية بين المبدع والمتلقى، كما أنها تمنح الممثل بعض الدفء لكونه يرى رد فعل الجمهور بدقة وبشكل مباشر، وتدفعه للمزيد من التألق والإبداع.
وعلى قاعة صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة يتم حاليا تقديم العرض المسرحي الجديد “نوح الحمام” من تأليف وإخراج أكرم مصطفى، يكور فادى فوكيه، إضاءة عمرو عبد الله، ألحان محمد حمدى رؤوف، ملابس شيماء محمود، مخرج منفذ كمال خضر بطولة سوسن ربيع، ياسر عزت، نشوى حسن، أحمد مجد الدين، إيناس المصرى، إبراهيم البيه وأكرم مصطفى.
أحداث العرض تدور حول “وطنى” القاعة تمت قسمتها بشكل طولى، نصف يصطف فيه الجمهور، والنصف الآخر، والنصف الآخر للممثلين الذين قسمهم المخرج إلى ثلاث تشكيلات:
الأول هو منزل “وطنى” الذى تجلس به أمه وزوجته “وديدة”، وتنضم إليهم “صفية” عشيقة وطنى!،
والثانى يجلس خلاله شابين أحدهما هو “سلام” الذى يترقب عودة وطنى لكي يقتص منه لقتله أخيه وعمه، والثانى هو “إسماعيل” الأيمن الذى يستأنس سلام بالحديث إليه، ويفهم ما يريد قوله،
أما المنظر الثالث فيحتله بار صغير يقف خلفه “خلف” النادل فيما يجلس أمامه الضابط “علاء” الذى يحتسى الخمر ويحكى عما يدور فى رأسه من أفكار، وعلى الرغم من غياب “وطنى عن الصورة إلا أنه يحتل صدارة المشهد لأنه هو الرابط المشترك فى أحاديث جميع شخصيات العرض. النص النص كتبه المخرج أكرم مصطفى بلغة شاعرية بعيدا عن المباشرة وعن الجمل الخطابية التى أصبحت عاملاً مشتركا فى العيد من العروض المسرحية،
واستطاع مصطفى أن يمسك جيداً، بمفردات وحوارات أبناء الصعيد فى مسامراتهم، فالنساء حين يجتمعن لابد أن يكون الجنس وفى ركنا أساسياً فى أحاديثهم، ولابد أن يكون للقصص المأثورة التي استمعوا إليها من أسلافهم مكان الصدارة فى أحاديثهم، وفى كل القصص التراثية التي أوردها أكرم مصطفى على ألسنة أبطال عرضه،
كان هناك غرض درامى يهدف إلى الإسقاط على بطلهم الحالي “وطني” والذى صارت قصته، حكاية أسطورية جديدة يقطعون بها لياليهم الطويلة. ويحكى “سلام” لرفيقه “إسماعيل” قصة رجل أحس بدنو أجله فأوصى أبنائه الثلاثة أن يحرقوا جثته وينثرون رمادها بين البر والبحر، فيبعثه الله ويسأله عن سبب تلك الوصية فيجيبه بأنه خائف من مواجهته لكثرة ذنوبه، فيعفو الله عنه، وهى قصة يرويها إسماعيل لصديقه، تعبيرا عن مدى الخوف الذى يتملكه من مواجهة وطني! فيما يحكى الضابط علاء للنادل خلف أن ما يفعله في أهالى القرية من بطش وإرهاب هو من متطلبات عمله وأنه بذلك ينفذ القانون وحتى يدلل على مدى بطشه وجبروته يحكى له عن رجل عجوز مات أثناء تحقيقه معه قبل أن يقترب منه أو يلمسه خوفاً من بطشه وجبروته، حتى يسقط بلسانه بعد أن يلعب الخمر برأسه أنه لا يعلم لماذا فصلوه من الخدمة رغم أنه كان يؤدى عمله، بينما يحكى له “خلف” أنه لم يشعر بالخوف من وطني ابدا رغم أنه كان قاتلا يخافه الجميع ثم يتسلل فى النهاية موجها حديثه للضابط لما يجب أن يخاف الناس من بعض الناس.
وتظل حوارات النساء هى المناطق الأعلى فى نص أكرم مصطفى وخاصة تلك التى تجمع بين الأم وبين صفية التى تحمى أنها لم تستطع الاستسلام لزوجها إلا بعد أن رأته بصورة “وطنى” وتؤكد لها أنها متزوجة به منذ ليلة زفافها، فتمنحها الأم زجاجة العطر المفضل لديه، وتحكى لها عن شجرة فى السماء وارفة الأوراق وتحمل كل ورقة اسم واحد منا والذى تسقط ورقته ينتهى أجله. وفى مشهد المواجهة بن الزوجة والعشيقة تحكى لها “صفية” أن وطنى كان يعشق عمتها صافية وبموتها انتقل حبه إلى صفية لأنها صورة من عمتها،
وبعد حوار طويل تطلب صفية من وديدة أن تسامحها وتؤكد لها أنها لم تختر ذلك الطريق ويؤلمها نظرات أهل البلد إليها على أنها امرأة لعوب، وتنضم إليهم الأم لينتهي العرض بجملة على لسانها تعبر عن الرسالة التي يحملها العرض حول تصارع النور والظلام ورهان الجميع على الرابح منهما. ديكور فادى فوكيه أعطى ايحاءا بأننا بالفعل داخل قرية صعيدية، معبرا عن أدق تفاصيل شوارعهم ومبانيهم، كما كان لإضاءة عمرو عبدالله دورا رئيسيا فى إضفاء ذلك النوع من النهاية والخوف من القادم، واعطى بإضافته الخافتة بعدا هاما فى التعبير عن تربص الجميع بوطنى، وعن الرعب الذى يتملكه نفوسهم من مواجهته فى النور،
واستطاعت ملابس شيماء محمود أن تعبر بصدق عن كل شخصية من شخصيات العرض ويبدو ذلك واضحا بقوة من خلال ملابس “سلام” و”خلف” و”صفية” .. موسيقى محمد حمدي رؤوف جاءت معبرة تماما عن روح الجنوب واستطاع من خلال استخدامه لآلات معينة مثل الدف والمزمار أن ينقل الخوف الكامن فى أعماق الشخصيات إلى الجمهور أيضا من خلال تضافر موسيقاه مع حوارات الممثلين فى نهاية كل مشهد وخاصة المشهد الأخير، كمان كان اختياره لصوت فاطمة عادل وأحمد حمدي رؤوف المكنسة بلون مطربة الجنوب موفقا بأقصى درجة.
التمثيل :
سوسن ربيع استطاعت أن تجسد دور الأم التي تزهو بسيرة ابنها وبطولاته رغم تاريخه الإجرامي، واستطاعت بخبرتها المسرحية أن تعطى بعدا جديداً لدور الأم الصعيدية المعتاد. ياسر عزت قدم شخصية الضابط الممزق بين رغبته فى الثأر من “وطنى” لأنه أسقط هيبته وكسره أمام أهل القرية وبين امتنانه له لإنقاذه من الموت وحمله إلى مستشفى بأستاذية عهدناها منه فى جميع أدواره السابقة على المسرح. نشوى حسن عبرت بصدق عن معاناتها من خيانات زوجها وإهماله لها ، واستطاعت التنقل في الأداء بين اظهار ضعفها وانكسارها أمام أم زوجها، والظهور بمظهر الزوجة التي تنتظر عودة زوجها بلهفة لتثير غيرة عشيقته. أحمد مجد الدين جسد شخصية الشاب الأبكم ببراعة واستطاع الإلمام بتفاصيل لشخصية والإمساك بها ونجح كثيرا فى انتزاع ضحكات الجمهور.
إيناس المصري منحها دور “صفية” الفرصة في الإعلان عن نفسها وإمكاناتها الفنية فى شغل تلك النوعية من الأدوار ساعدها فى ذلك ملامحها الشكلية، وتكوينها الجسماني ، وأتوقع لها أن تحتل مكانة هامة فى الحركة المسرحية خلال السنوات القادمة. إبراهيم البيه فى شخصية “خلف” واحد من شباب المسرح الذى قدم العديد من التجارب المسرحية فى عروض الهواة والمحترفين فأثقلت موهبته
وكان ندا القدير ياسر عزت فى العديد من المشاهد حتى بنظرات العينين. أكرم مصطفى مارس دوره كمخرج للعرض واختار أصعب الأدوار ليعود من خلاله إلى المثيل المسرحى، فدور “سلام” الذى تجبره العادات والتقاليد على الثأر من قاتل عمه وأخيه، وفى الوقت نفسه يحمل إعجابا برجولته وشهامته تجعله مترددا فى تنفيذ ما انتواه، إضافة إلى الرعب الشديد الذى يسكن قلبه تجاه “وطنى” والذى يدفعه للتساؤل عمن منهما يستطيع أن يفتك بالآخر حين يلتقيان. نوح الحمام .. قطعة فنية مسرحية، صاغها وأبدعها مجموعة من عشاق المسرح ستبقى طويلاً فى ذاكرة المسرح المصرى.